أي حضارة فكرية تولد في صعوبة التوافق بين طرفين ؟
في حياة الشعراء والأدباء الكثير من المحن والنكبات والمعاناة والانكسارات والإنجازات لكنها لا تظهر إلا بعد موته ! في دراسات ومقالات وبحوث وأمسيات ثقافية عن شعره وحياته هذا إن كان هناك اهتمام من الأدباء والباحثين والشخصيات والمؤسسات الثقافية ومع الأسف يكون هذا التحرك الأدبي رغم إنه مهم " لتدوين الإبداع " خوفاً من الضياع والتشتت والفناء بعد رحيل الشاعر ولا اخص الشعراء الكرد الكلاسيكيين فقط بل المعاصرين المبدعين وفي أي زمن ومكان كان واسأل نفسي لماذا لا يكون هذا الاهتمام في حياة الشاعر ليرى ثمار عمره وتجاربه وإبداعه إلا ما ندر ؟ وبدأت بنفسي وهذا ما طبقته عملياً في كتابة دراسة أدبية نقدية خاصة على شكل مقالات عن شعر وحياة الشاعر الأديب الكردي الكبير " بدل رفو " المغترب في النمسا وهو حي يرزق الآن يتنقل بين " غراتس ودهوك " وعنوان الكتاب " سندباد القصيدة الكردية في المهجر " ينشر على شكل حلقات في جريدة التآخي ولضيق الجانب المادي الخاص بي وعدني الشاعر " بدل رفو " أن يطبعه ليكون مصدر أدبي مهم في حياته وبعد رحيله بعد عمر طويل، فالاهتمام بالشعراء والأدباء والعلماء مهم جداً يعطيهم حافز قوي ومؤثر للتواصل والإبداع الفكري في الحياة، ومن أجل ديمومة الجمال والحب وسمو الحضارة الأدبية الإنسانية، أكتفي بهذا القدر لأن هذا يجدد ما أعانيه فلهذا الحديث الأدبي شجون وآلام ولا أدري في حياتي أم بعد رحيلي سيذكرني الناس أم لا ؟ فكلما أرسلت كتاباً شعرياً أو أدبياً نقدياً لمؤسسة ثقافية ردوا " قلة التخصيص المادي " وبصراحة هذا الأمر يؤلمني حد البكاء ويضحكني حد الجنون فهو أمر مبكي مضحك فإني عملت سنوات في جريدة العراق القسم الثقافي في بغداد وصدرت لي دار الثقافة الكردية في بغداد كتابين " عيون من الأدب الكردي المعاصر عام 2000م " وكتاب " نوارس الوفاء " عن روائع الأدبي المعاصر عام 2002م وبجهود شخصية وليست رسمية صدرت مجموعة شعرية بعنوان " وستبقى العيون تسافر عام 1989م بغداد "وديوان شعر في المملكة المغربية طنجة بعنوان " بحر الغربة عام 1999م "وظل بحر الغربة مغترباً رغم تواصل عملي الأدبي محلياً وعربياً وعالمياً بكتاب مقالات أدبية نقدية عن الشعر النمساوي بعنوان " جزيرة العشق "وكتاب عن الأدب المغربي التطواني بعنوان " إيقاعات وألوان " ينشر على شكل حلقات في صحيفة أنباء المغرب وما زلت أكتب عن الأدباء الكرد منذ عام 1980م ولحد الآن ونشرت قسماً منها في صحيفة الفكر وصحيفة أدب وفن وجريدة التآخي وصحف أخرى وحينما أجمعها في كتاب وأرسلها للمؤسسات والدوائر الثقافية يكون الرد كما ذكرت سابقاً لكن يبدو الأمر غير مقنع لأن الكتب ما زالت تصدر على كل حال هذا جزء من ضريبة الشعر التي عانى منها الشاعر والمؤرخ أنور المايي الذي توفى والده محمد طاهر عام 1915 ولا يزال ابنه أنور في الثانية من عمره وقامت والدته بتربيته وعند وصوله لسن الدراسة أرسلته إلى قرية بامرني ليكمل الدراسة الابتدائية ولعدم وجود مدرسة متوسطة في المنطقة ما عدا مدينة الموصل لذا لم يكمل دراسته المتوسطة لكن تابع دراسته الدينية والعلمية في كل من دهوك وزاخو والعمادية وفي عام 1936م حصل على الإجازة العلمية في علوم الدين على يد العالم المعروف " محمد شكري أفندي العمادي " وتضمنت مراحل حياته بين دخوله في دورات المعلمين التربوية في عام 1938م وتخرج منها معلماً وتم تعيينه في قرية " شيروان " عام 1939م وبين الدراسة الدينية والتربوية ثم موظفاً للتموين في قضاء شيخان والعمادية وبسبب انخراطه في النشاطات السياسية عام 1945م أودع السجن لمدة سنتين وبعد خروجه عمل في الزراعة أحياناً وفي التجارة أحياناً أخرى ثم عودته مرة أخرى في العمل الثقافي والسياسي عام 1959م واصدر مع الأستاذ " جرجيس فتح الله المحامي " جريدة " راستى – الحقيقة " في الموصل وتعددت نشاطاته الأدبية والسياسية وبعد تأزم الظروف السياسية في العراق في عام 1960م أتهم بممارسة النشاط السياسي ونفي إلى بلدة " قلعة صالح " في جنوب العراق، يعتبر الشاعر أنور المايي شاعراً كلاسيكياً توزعت قصائده على عدة أغراض ومنها قصائد دينية ووطنية وغزلية واجتماعية وغيرها ومن قصائده الغزلية الرقيقة وبمعاناة الحياة مع معاناة الحبيبة التي يصفها " يا ملكة الملكات في الدنيا " على هذا النحو يناجي الشاعر ملكة شعره وخياله وفكره وإحساسه " يا ذات الوجه الشبيه بالقمر " يقدم خلالها نموذجاً إنسانياً رومانسياً في صور ذهنية رائعة معاتباً وباحثاً عن سبب أن " تشيحي النظر عنا " فالإخفاق في وجود السجن مترسخ في الخطايا الضمنية والظاهرة " أكملت خمسة عشر عاماً في السجن " تستنهض المشاعر من الأصل من خلال التناقض بين الحرية والسجن لتكون محاولة علنية لضريبة الحياة حيث الإبتعاد عن الواقع والإنكار غير مجدي " أرجو عفوك أيتها الملكة " إذ تبدو الملكة الذهنية رمزاً تكويني لما يشعر فيه الشاعر عبر تصورات زمن يكمن في الوجود واللا وجود .
(( يا ملكة الملكات في الدنيا يا ذات الوجه الشبيه بالقمر
يا ترى لأي سبب وخطيئة تشيحي النظر عنا
وإن كانت خطايانا كبيرة ففي هذا اليوم أكملت
خمسة عشر عاماً في السجن أرجو عفوك أيتها الملكة ))
إن تصوير وتعبير الشاعر أنور المايي أكثر شمولية لموضوع الوهلة الأولى وهو الأقرب إلى التصور العميق بوصفه حصيلة انقسام نشاط فكري بين الذات الطيبة والسيئة يعيد صياغتها كجزء من أمر واقع وتكوين نفسي " نحن تحت حكمك " ينشأ الشاعر الصورة الشعرية حسب أنماط السلطة العليا التي تنكشف معاييرها بين الناس " فأي شيء تأمرين "فتتباين الصور والأفكار والصيغ التي يتخذها الشاعر بنشاط ذهني وإحساس جميل حين تندمج الذات مع كينونة الضريبة الشعرية والحياتية الخارجة عن الإرادة " فانا مضطر لتنفيذ الأمر " إن الخضوع لضريبة العطاء والحرية والأمان والسلام ولكن في زمن الظلام يكون ضريبة العطاء والسجن والنفي والوحدة وهي صورة من صور الضمير والسلطة حينما " ودفع الضريبة والعطاء " حيث تكون الصورة الساقطة في السجن جراح وآهات وحسرات ، أكد الشاعر من خلالها بعد المتحكمين عن مفاهيم الإنسان الفاعلة والناشطة التي تنشأ التطور والإبداع .
(( نحن تحت حكمك فأي شيء تأمرين
فانا مضطر لتنفيذ الأمر ودفع ضريبة العطاء
أيتها الرائعة انظري لهؤلاء الجرحى جميعاً
إذ يتنفس مئات الألوف منهم عن آهاتهم وحسراتهم ))
ففي غمرة الاندفاع والتفاعل والإقدام والإبداع يتجلى السجن والنفي والانطواء فأي حضارة تولد في عدم القدرة على التوافق بين طرفين ؟ وأي تطور وتغيير في ظل الصراع بين الضمير والسلطة بين إن تكون أو لا تكون ؟ أرقى الدوافع تندفع إلى الخارج، هذه المعاناة والمكابدات والعذابات " العيون " الذهنية الفكرية والتي تندمج مع العيون الناظرة الساحرة كوسيلة للتغلب على الإحباط والانكسار النفسي وفي نفس الوقت عالم آخر من الأمل المخفي في الروح رغم سهام العين والقاتلة " كم قتلت بهاتين العينين السوداوية " لكن حين ينظر الشاعر إلى نفسه كإنسان لم يأخذ حقه من الحياة والحرية والعيش الكريم والأمان والسلام فتتجلى البراءة الروحية في ظل جحيم الواقع فتبدأ حالة دفاع ويتحول الشعر حتى الغزلي منه إلى تعرية ومهاجمة ومنتقدة غير أن هذه الآلية دفاع عن الضمير الإنساني بحيث يطمئن الشعور بالذنب وهنا يرصد الشاعر الأطر المتعرجة والملتوية التي تحبط السمو والجمال والإبداع ولا تحصل غايتها في آخر منعطف الطريق .
(( فأنت تعلمين كم قتلت بهاتين العينين السوداوية
فمن رآك مرة واحدة ذهب إلى جهنم وهو بريء
يا ذات وجه الحوريات والجميلات يا قبلة " أنور "
اسمحي لي بالطواف ))
إن الشاعر أنور المايي يلعب دوراً مهماً في أسلوبه الغزلي المميز في تحليل وكشف ضريبة الشعر والحياة ضريبة الحب والجمال والنشاط والإبداع بارتباط عدد من الصور والفرضيات والهالات الفكرية والنفسية وهو يعني ذوبان ذات معينة بذات أخرى والنتيجة تناقض الذات الثانية وصعوبة الاندماج معها بالحب والوئام والتواصل الفكري السليم والوصول إلى الوسطية المسالمة والابتعاد عن نهج محاولة إلغاء وإقصاء الآخر لأي سبب كان إذ يجعل كرامة وسمو الإنسان في ذروة الأهداف الحياتية ومن خلال هذا التحول يتخلى عن ذاته لتلبية حاجة أعظم شاناً وبالبحث عن الحاجة الضائعة يتمكن الشاعر إن يغدق عليها خلال البحث والحب والحنان والجمال والإحساس وهكذا يختار أهدافاً راقية في رسالة شعرية غزلية ضريبتها العيش بكرامة وحرية وأمان وسلام .
***********************************
أنور المايي
- ولد الشاعر والمؤرخ المعروف أنور المايي في قرية " مايي " من قرى بروارى بالا عام 1913م .
- أكمل الدراسة الابتدائية في قرية " بامرني "ولعدم وجود متوسطة في المنطقة لذا دخل المدارس الدينية " الكتاتيب " في كل من دهوك وزاخو والعمادية .
- عام 1936م حصل على الإجازة العلمية في علوم الدين على يد العالم المعروف " محمد شكري أفندي العمادي " .
- تخرج في أحدى دورات المعلمين التربوية معلماً عام 1938م .
- عين معلماً في قرية " شيروان " عام 1939م .
- أصبح موظفاً حكومياً لأعمال التموين في قضاء شيخان والعمادية .
- أصدر مع الأستاذ جرجيس فتح الله المحامي جريدة " راستي – الحقيقة " في الموصل عام 1959م .
- أصبح عضواً في اتحاد الأدباء العراقيين، ونشر عدة مقالات حول الأدب والشعر والتاريخ باللغتين العربية والكردية في العديد من الجرائد والمجلات .
- اشترك ضمن وفد شعبي عراقي لزيارة الصين وهناك ألقى محاضرة قيمة حول تاريخ الكرد عام 1959م طبعت بعدها في كراس تحت عنوان " محاضرة عن الأكراد في الصين ".
- أصدر كتاباً مهماً في تاريخ الكرد بعنوان " الأكراد في بهدينان " عام 1960م لا يزال مصدراً مهماً من مصادر التاريخ الكردي .
- نظراً لتأزم الظروف السياسية في العراق عام 1960م واتهامه بممارسة النشاط السياسي نفي إلى بلدة " قلعة صالح " في جنوب العراق إلى عام 1961 م بعد رفع النفي عنه .
- استشهد في عام 1963م أثر قصف الطائرات الحكومية لمنطقة " بربانك " بين بامرني وسرسنك .
***************************************
كتاب – فرحة السلام – من الشعر الكوردي الكلاسيكي ، دعوة للمؤسسات الثقافية والشخصيات الثقافية المعنية لطبعه ، لعدم إمكاني طبعه .. عصمت شاهين دوسكي ، 07510324549