العنف الرمزي:
تتعرض المرأة لكل أشكال العنف الجسدي والنفسي والأخلاقي والإنساني وقد يكون العنف الرمزي أكثر أشكال العنف خطورة وضررا . يعرف بيير بورديو "العنف الرمزي" في كتابه عن "الهيمنة الذكورية"، بأنه "عنف هادئ لامرئي لا محسوس حتى بالنسبة الى ضحاياه"، ويتمثل في ان تشترك الضحية وجلادها في التصورات الاستلابية نفسها عن العالم وأن يؤمنا معا بكل المقولات والمفاهيم والتصورات التي تضع المرأة في أقفاص المذلة والمهانة والاستلاب . ونحن عندما نتأمل في الأفكار الاستلابية ضد المرأة نجدها خرقاء عمياء جوفاء في جوهرها ومضمونها حيث لا تؤيدها الحجج العقلية ولا يرأبها المنطق الذكي . فالعنف الرمزي اشد انواع العنف الاستلابي الموجه ضد المرأة خطورة وفتكا وهو نوع من العنف الثقافي الذي تشكل عبر مئات السنين من تاريخ الإنسانية .
وفي مجتمعاتنا الخليجية ( وأشدد دائما على العربية ايضا) تشكل المرأة موضوعا للعنف الرمزي في الممارسات الثقافية والتربوية السائدة في حياتنا الاجتماعية، ويتميز هذا العنف بقدرته الهائلة على التخفي وراء الرموز والدلالات والمعاني كما يتميز بقدرته على التغلغل العفوي في الوعي على صورة عدوانية مضمرة ضد المرأة وموقف مضاد لها في الجوهر والمضمون. ويتجلى العنف الرمزي ضد المرأة في نسق من متدفق الإشارات والدلالات والرموز السلبية التي تستلب المرأة إنسانيا وتحاصرها دون أن تأخذ هذه المعاني والرموز صورة جارفة واضحة صريحة بشحنتها العدوانية التي تضع المرأة قي قفص الاتهام الرمزي.
ويتمثل هذا النسق الرمزي بفيض لا حدود له من الصفات والسمات السلبية التي تأخذ المرأة إلى مرابض التوحش والجريمة والغواية والضعة تحت عنوان الطبيعة الشريرة للمرأة. فالمرأة وفقا لهذا النسق تتصف بالخبث والكذب والسحر والفتنة والعار والغطرسة والخفة وضعف العقل والخيلاء والغواية والشيطنة حيث هي باختصار مصدر كل شر وفساد وبلية وشكوى تحلّ بالإنسان بالمجتمع.
يتميز العنف الرمزي في ثقافتنا بقدرته على التخفي والانسياب في العقل دون أن يشعر صاحبه بهذه القوة التي ترغمه أو تخضعه أو تستلبه. فهو أشبه بالتيارات البحرية التي تأخذك إلى أعماق البحار وانت تعتقد أنك ما زلت في المكان الذي كنت فيه لم تتحرك. فالعنف الرمزي قوة تتغلغل فينا وتبرمجنا بصورة لاواعية فتجعلنا وكأننا نخضع لأنفسنا وليس لقوة خارجية اخترقت جدار وعينا واستقرت في عقولنا الباطنية. باختصار إننا نستبطن رموز هذا العنف بطريقة تبدوا لنا وكأنها قيما كبرى يجب أن نتبناها وندافع عنها، وخير مثال على ذلك دفاع العبد عن سيده والضحية عن مفترسها والمرأة عن الرجل الذي يمتهن كرامتها لأن العنف أخذ طابعا رمزيا فتغلغل في أعماقنا واستقر في عقلنا الباطن فأخذ يبرمجنا من الداخل من العمق وإن كان في الجوهر نابعا من مصادر خارجية. باختصار إنه أشبه بالأفيون الذي يسيطر على ضحاياه ويدمرهم من الداخل دون يشعروا به، وصاحب العنف الرمزي أي من يروج له ويصنعه أشبه بمروج المخدرات الذي ما أن يدفع ضحاياه لتذوقه حتى يصبح قوة داخلية تسيطر عليهم وتدمرهم إلى حين.
والمرأة من أكثر الفئات الاجتماعية تأثرا بالعنف الرمزي الذي تتشبع برموزه وسمومه في مراحل طفولتها ونشأتها وشبابها حتى تصبح أكثر الفئات الاجتماعية إحساسا بالدونية واقتناعا بها فهي أكثر من يؤمن بطبيعتها الشريرة المزعومة وأكثر إيمانا بأنها دون الرجل واكثر اندفاعا في مهاجمة حقوقها ومهاجمة الرجل الذي يدعو إلى تحريرها.
وهذه التصورات ليست حكرا على عالم الرجال بل تحتل مكانها في عقل المرأة ووعيها وهذا يمثل قمة الاغتراب وغابة الاستلاب الإنساني. فالمرأة بذاتها تدرك هذه التصورات وتتمثلها في كثير من الأوقات حتى أنها تجد مبررا لخطاياها وعيوبها تحت عنوان ضعف المراة وغوايتها وقابليتها للإغواء.
فالمرأة تخضع لنوع من الاستلاب الرمزي الذي يفرغها من مضمونها الإنساني ويحرمها من امتيازاتها الأخلاقية والاجتماعية، فكيف يحدب هذا ما الأواليات التي تجعل المرأة خاضعة ومستكينة لأوضاعها الدونية دون رفض أو معاندة أو مقاومة؟ كيف يفعل العنف الرمزي فعله عبر العملية التربوية؟ وكيف تتمثل المرأة وغيرها الرموز التي تضفي على دونيتها طابعا شرعيا؟ وبعبارة أخرى كيف تتمثل المرأة أيديلوجيا عبوديتها الاجتماعية عبر نسق من المفاهيم والمقولات التي تستلبها على مرّ الزمن بأدوات تربوية تغذي رموز الدونية والعبودية النسوية؟