السُومَريُّ

2011-07-30

تقبل أو تدبر أو تهجر .

تقبل أو ترفض .

تومئ أو تتحدث بغلظة .

تمطر تبرق ترعد تعصف أو تبتسم .. تساكنني مخدتي ، أو تساررني عن ماضي المستقبل . تقشر لي جلد السلالات ، أو تعلمني أن النار فاكهة للفقراء . تحدثني عن ضعفي ، أو تضعني أمام قوة الاستشهاد .. فأنت ، يا عراق ، ماؤنا الذي يبرد على السطوح ، وحديقتنا الصغيرة قرب باب البيت ، ونشيد صغارنا الذين يكبرون بين دفتي كتابك ، وحرارة دعاء أمهاتنا عند شواطئ الأنهار ، وغبار المنافي الجديدة والقديمة ، وهوسة الصيادين ، وعونة الفلاحين ، ورائحة أول مظاهرة للمسلولين في شارع الرشيد ، وصداقة عامل الليل لطبع منشورات تحت الأرض ، وصهيل الجياد التي خبت ، وجابر عثرات الجياد التي انتكست ذات يوم ، وصديق الذين احتربوا مع الحياة فتطهروا من الدنية بالإقبال على الأخرى ، ورديف تعلم حرفة القتال خلف الأسوار ، وخدن الأمي الذي يمتلك الثقافة من جرائد الحائط ، ودليل العسكر إلى التنظيم ، وأنت قبل هذا وبعد هذا : روح ميسان.

 

وعندما يشرق تموز ، ويهبط على أرضنا ، من أهوارنا إلى جبالنا ، ينضج الرطب والرجال في العراق . وفي قيظ تموز تلتحف الصبية بجلدها ، فيتلقفها غرين دجلة ، وتدور الاستدارات حول نفسها ، لتظهر الصبية الميسانية محروقة بالحناء ، مميزة بالديرم ، تحمل بيسراها كتاب الخليقة ، وترفع بيمناها راية الأهوار.

 

وما بين ميسان والكوفة نضج تموزنا.

هو ذا تموزنا الذي عجنه الاشتياق الميساني إلى مصر ، وسوريا ، والمغرب ، والبحرين ، والشط الذي يحاور نفسه باستمرار ، فلا يختار إلا طريق البصرة وسيف علي ودبوس طلحة ، ليصب في هذا الترف المائي الأوسع : الخليج !

 

وهذا هو حبنا وما نملك : إنك لتدري أن دعاء الحرائر في غسق البساتين أكثر تدميراً من الطلقة .. وإنك لتعرف أن جسراً يمر على " المشرّح " ، يعكس نفسه في تطوان ، وأن عباءة ينسجها عرب السماوة ، سكنتها رائحة المتنبي وهو يبحث عن سر أبيه ، ويتعالى بعلو أجداده ، ويترفع برفعة نسبة وأصالة أرومته ، فيكفيه فخراً له أنه نشأ عند سور بناه إبراهيم الخليل ذات يوم ، وبعد أن رأى صنعته تدلل على صنيعه ، ارتكن إلى حائط ظليل وأخذ ينشد ويغني اغاني " تموز " التي تحولت إلى مزامير!.

 

حنانيك .. نفديك بماء العين ، ونمد قلوبنا بسطاً لمقدمك ونجمع دفاتر أشجار عائلاتنا ونكتب حكايتك ، ونأرق لأنك قسوت ، وتحمر عيوننا لأن الموج العاتي قذفك بعيداً عنا ، وندوخ ـ يا تموز ـ عندما نفكر قليلاً أننا ذات يوم فارقناك قليلاً.

 

للميسانيات شموخ العراق ، ولتموز في عربنا منبت كريم ، وللشجر الكريم على الشطَّين رائحة التاريخ عندما ينهض ، ملك ميساني من بين " العمارة " الخالدة ليعانق الشهداء ، ويهش على الجياد المنكسرة ويعاتب أبناء عاقين ، أو يسكب دمعة على أناس دفنوا في مقبرة جماعية!

 

يقبل تموز ، فتقبل الحياة ، ينضج رطبنا ، ويفور دجلة في الليل ، ويغادر المتنبي السيد المفازات الثلاث ، ويقول شعراً لم يقله رجل من ظهر أبيه.

 

يا لهذا الميساني سليل قلقامش إذ يحل اليوم ضيفاً على كل بيت.

 

الشارقة ـ 1980




 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved