التعليم العالي بين التدهور والتطور...؟!

2012-06-08
ك//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/7e198559-307a-48b3-a105-f75640e11cce.jpeg يف ننظر للتعليم العالي في بلادنا العربية؟ ولماذا تأخرنا كثيراً عن العالم؟ وكيفية الارتقاء بالتعليم الجامعي نحو الأفضل؟. النظرة السطحية إلى الواقع العربي فيما يتعلق بقضية الجامعات، ترينا الكم الهائل من الإمكانيات المرصودة مادياً، ومن الجهود المبذولة معنوياً، ومن الكثرة الواضحة في أعداد الجامعات على اختلاف مراحلها ومن الطلاب والخريجين في مختلف المستويات والمراحل ولكن كما يقول المثل العربي '' جعجعة ولا أرى طحناً ''. فإن الحصيلة الحقيقية، والثمرة الفعلية لهذا الكم الهائل، هي التي تبعث في النفس الأسى والأسف، فقد تحول التعليم الجامعي في الأمة العربية حتى انتهى إلى أحد اتجاهين: اتجاه إلى المتاجرة به، وذلك في الشعوب التي تعاني بعض ضيق ذات اليد، بحيث ينصب تخطيط المسؤولين عن التعليم في هذه الشعوب على تخريج أكبر عدد من حملة المؤهلات في كل التخصصات، ليكونوا مجرد سلعة تجارية تدر على الدولة قدراً ذا قيمة من المال، وبالتالي يبدأ هذا الاتجاه ينغرس في نفوس أفراد المتعلمين، فينظر كل منهم إلى ثقافته على أنها سلعة يحاول أن يجعلها تدر عليه قدراً مفيداً من المال. وفي الاتجاه الذي نتحدث عنه، فإن المتاجرة بالعلم، تقف به عن النمو، بل تستنزف جهده فيصبح كالشجرة التي يعمد صاحبها إلى تقطيع أعضائها ليستدفىء بها. وفرق بين من يتعهد شجرته بأسباب النمو، وبين من يعمد إلى قص الأجنحة وشل حركة النماء. ونعنى لفظ المتاجرة لذاته. ففرق بينه وبين التعاون العلمي، سواء بين العالم والعالم، أو بين العالم والمتعلم. فإن التعاون في كل الأحوال من أهم أسباب التطور العلمي ونموه على مر التاريخ. والنتيجة العملية في هذا الاتجاه أنه لا الفرد ينتهي من تعليمه وثقافته إلى نتيجة حقيقية، وهي أن يصبح عالماً، ولا المجتمع أيضاً ينتهي إلى ثمرة فعلية بأن تتحقق لديه نهضة علمية تدفعه إلى صفوف الأمم التي استفادت من نهضتها العلمية، لأن الأفراد في هذا الاتجاه لم يهدفوا إلى العلم لذاته فيكونوا علماء، وإنما هدفوا إلى اتخاذ العلم وسيلة إلى كسب مادي، فتوقفوا عن العلم والتعليم عند أول فرصة أتاحت لهم هذه الغاية، وكذلك المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء الأفراد، لم يتجاوز ما خططه لنفسه. فقط خطط للاستفادة المادية من المتعلمين والمثقفين فيه وكف بصره أو كاد التطلع إلى ما هو أبعد من ذلك، مع أن ما هو أبعد من ذلك ينبغي أن تخطط له أي أمة تسعى إلى النهوض والتقدم الحقيقي. أما الاتجاه الآخر فيما تحول إليه التعليم الجامعي في الأمة العربية، مجرد التباهي به، والنظر إليه كما لو كان مظهراً من مظاهر الترف الشكلي. وهذا الاتجاه يغلب أن يكون في المجتمعات العربية التي أتيحت لها بسطة من الرزق والثراء الواسع، فإن كثيراً من هذه المجتمعات تحسب أن لديها من الموارد ما يغنيها، ويفي بكل ما تحتاج إليه، فهي إذن ليست في حاجة إلى كفاح أبنائها، ولا إلى أن ينزف هؤلاء الأبناء عرقاً، لأن لديها من الموارد ما يتيح لها أن تستخدم الآخرين، ويكفي كثيراً من هذه المجتمعات في تخطيطها أن تمتلىء مدنها وقراها بالجامعات، وأن تباهي المجتمعات الأخرى بارتفاع نسبة المتعلمين فيها. وتكون النتيجة أن هذه المجتمعات لا تركز على جني ثمرات حقيقية من تعليمها، ولا تطالب الجامعات بالنتائج والبحوث والتطور والتقدم الصناعي الذي ينبغي أن ينتظر من أي جهود علمية، بل تكتفي بمجرد الإحصائيات لعدد الجامعات وللمتخرجين من هذه الجامعات، وللأموال المرصودة للتعليم في هذه الجامعات. وكما يفعل الأفراد في مجتمعات المتاجرة بالتعليم، كذلك يفعل الأفراد في مجتمعات المباهاة بالتعليم حيث ينعكس الاتجاه العام على هؤلاء الأفراد فلا يضعون في اعتبارهم وتخطيطهم أنهم يتعلمون ليصلوا إلى غاية علمية لذاتها، ولا ليسدوا إلى العلم خدمة تدفعه في طريق التطور والتقدم، ولا ليحققوا لمجتمعهم غاية حضارية عن طريق الجامعة، تسد حاجة من حاجاته المعيشية أو الصناعية أو الطبية أو غير ذلك، وإنما يضعون في اعتبارهم وتخطيطهم أن يحققوا لأنفسهم وجاهة بين الناس، ومظهراً يكسبهم مزيداً من المباهاة والتظاهر والخيلاء بما يحصلون عليه من مؤهلات وألقاب علمية، لا تتجاوز في أذهانهم أنها مجرد ألقاب رنانة طنانة، أما أن يفكروا، في أن يحققوا لأنفسهم أو لمجتمعهم من ورائها ثمرة حقيقية، فقلّما يحدث ذلك. وإذا كانت الدول المتقدمة تشتكي من مستوى جامعاتها وتسعى إلى تطويرها فإن الجامعات العربية هي في أسوأ حال، وأحوج إلى التغيير. ولعل من الأسباب المهمة لتراجع الجامعات العربية عدم ربط الجامعة بالعملية الإنتاجية وبالاقتصاد الوطني، وتدخل السياسة في عمليات تعيين الأساتذة وترقيتهم حسب درجة الولاء للنظم الحاكمة، واستمرار نزيف هجرة العقول العربية إلى الخارج، وسيطرة الأجواء الطاردة للإبداع وللكفاءات وتنمية القدرات، مع انخفاض دخول الأساتذة، وعدم تقدير صناع القرار للعلم والعلماء. فهناك إنفاق على رأس المال الثابت في التعليم العالي العربي، لكن يبرز سؤال: لمَ لم يؤد هذا الإنفاق إلى زيادة في دخول الأفراد، وتنمية مجتمعية حقيقية؟؟ بل على العكس فقد انخفض هذا المؤشر مع زيادة التضخم في العديد من الدول العربية، مما قد يحوّل ''الفجوة العلمية والمعلوماتية'' إلى ''فجوة اقتصادية واجتماعية''. أما المؤسسات البحثية العربية فهي مؤسسات تناط بها أهداف عامة وأغراض واسعة النطاق، وغالباً ما يعاني القائمون عليها من قصور التمويل والتعاون مع باقي القطاعات الإنتاجية والصناعية، حيث إن هناك ارتباطاً طردياً بين نسبة تمويل الشركات المنتجة والصناديق الخاصة وبين التقدم العلمي والتكنولوجي. ومن أسباب ضآلة حجم الإنفاق على البحث العلمي العربي، افتقار أغلب المؤسسات العلمية والجامعات العربية إلى أجهزة متخصصة بتسويق الأبحاث ونتائجها وفق خطة اقتصادية إلى الجهات المستفيدة مما يدل على ضعف التنسيق بين مراكز البحوث والقطاع الخاص. كذلك غياب المؤسسات الاستشارية المختصة بتوظيف نتائج البحث العلمي وتمويله من أجل تحويل تلك النتائج إلى مشروعات اقتصادية مربحة. إضافة إلى ضعف القطاعات الاقتصادية المنتجة واعتمادها على شراء المعرفة. وأشارت بعض الدراسات إلى أن المؤسسات البحثية العربية تعاني من مشكلات عديدة من بينها انفصام الصلة بين الجامعات وحقل الإنتاج، وابتعاد الجامعات عن إجراء البحوث المساهمة في حل المشكلات الوطنية، إضافة إلى عدم مشاركة المؤسسات الكبرى والشركات والأثرياء من الأفراد في نفقات البحث العلمي. فمراكز البحوث والجامعات العربية تعاني من انفصال شبه كامل بينها وبين المجالات التطبيقية خارج أسوارها أو معاملها، فالبحوث التي تجرى بين جدرانها من جانب أساتذتها إنما هي بحوث فردية لأساتذة يحاولون الإنتاج العلمي بغية الترقي، أو النشر، أو السمعة! وهي بحوث أضعف من أن تحل مشكلات المجتمع أو تعمل على تقدمه. أما أنشطة البحث العلمي التي تجرى في إطار المراكز والجامعات العربية فهي من أضعف الأنشطة البحثية في العالم، بسبب قلة عدد الباحثين والمختصين، وندرة تكوين فرق بحثية متكاملة، وانشغال عدد كبير من أعضاء التدريس في العمل الإضافي. وكذلك استحواذ الميزانيات الإدارية على النصيب الأوفر من المخصصات الجامعية. فقد أظهرت إحدى الدراسات أن ما ينشر سنوياً من البحوث في الوطن العربي لا يتعدى 15 ألف بحث. ليصبح معدل الإنتاجية في حدود 0.3 وهو وضع يرثى له من حيث الإمكانات العلمية والتكنولوجية في مجال الإنتاجية العربية، إذ يبلغ 10 في المائة من معدلات الإنتاجية في الدول المتقدمة. وهذا من الأمور التي تجعل من الحكومات العربية غير مهتمة بدعم البحث العلمي بالشكل اللائق، ولعلك تسمع بعض المسؤولين يبررون إخفاقهم في دعم البحث العلمي بقلة إنتاج الباحثين، وضعف همتهم العلمية. أما المجتمع العربي فينظر نظرة لا تليق بالبحث العلمي من حيث أولويته على كثير من الأنشطة والمجالات، وربما يتعلق ذلك بالتنشئة الاجتماعية التي أكسبت الجماهير العربية الحالية هذه النظرة السالبة نحو البحث العلمي، وأصبح الناس غير مدركين لخطورة تدهور البحث العلمي العربي، وتأخره عن ركب الحضارة. وإن كان ثمة سبيل لرفع مستوى الجامعات العربية، فإنه لن يخرج عن ضرورة إطلاق الحريات الأكاديمية، وإبعاد الجامعات عن السياسة والتسييس، وإدارة ملف الجامعات والمراكز البحثية بشكل أكاديمي وعلمي، مع زيادة الإنفاق على الجامعات والبحث العلمي، والاهتمام بالتعليم ما قبل الجامعي، وربط فلسفة التعليم بالمفهوم الشامل للتنمية الإنسانية، والمحافظة على الكفاءات والعقول العربية، إضافة إلى تحقيق استقلالية الجامعات مادياً وإدارياً، واعتماد ضوابط ومعايير واضحة للتعامل من الأكاديميين والطلبة، استناداً إلى الموضوعية والشفافية والقدرة والكفاءة. ويصل عدد الجامعات العربية حالياً إلى أكثر من 240 جامعة، في حين كان عددها في ستينات القرن العشرين المنصرم 23 جامعة، وارتفع العدد إلى 33 جامعة في الثمانينات. ويلاحظ أن مصر أكثر الدول العربية ثقلاً من حيث الجامعات ذات الأعداد الضخمة، تليها سوريا فالمغرب والمملكة العربية السعودية. كما زاد عدد طلاب التعليم العالي العربي 220 في المائة مقارنة بعددهم في بداية الثمانينات من القرن الماضي، لكن التوسع في هذا العدد يبدو منخفضاً، لأن معدله في الدول المتقدمة وصل إلى 250 في المائة. والزيادة في أعداد طلبة مرحلة الدراسات العليا في البلدان العربية لا تتجاوز 4 في المائة للماجستير و4.1 في المائة للدكتوراة مقارنة بنسبة 10ـ20 في المائة في الدول المتقدمة، وهو المستوى الكافي لتكوين رأس المال البشري. وتتجسد أزمة الجامعات العربية بشكل حقيقي وفاضح في علاقتها بسوق العمل، إذ منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين إلى اليوم، هبط أداء وإنتاجية هذه المؤسسة، واتسعت الفجوة بينها وبين التحديات المجتمعية المتزايدة، وأخفقت في تقديم نفس الخدمات التي كانت تقدمها من قبل، وازدادت الشكوك في قدرتها على جذب القطاع الصناعي والإنتاجي في المجتمع، فأصبحت تكلفة التعليم وجودته أهم أزمتين تواجهان المؤسسات التعليمية العربية، وخاصة في ظل الاتجاه الداعي إلى رفع أيادي الحكومة عن التعليم العالي، نظراً لتأثير سياسات الإصلاح الاقتصادي وسيادة مبدأ الربحية واسترداد التكلفة. من جهة أخرى، شهدت جامعات العالم، منذ سنوات عديدة، تحولاً في وظيفة الجامعة، من نقل المعرفة إلى صنعها، ومن تدريس العلم إلى إنتاجه، في حين أن الجامعات العربية، بشكل عام، باتت تواجه صعوبات كثيرة في عملية نقل العلم والمعرفة. وتتجسد هذه الصعوبات في غياب الحرية الأكاديمية وسطوة مختلف أنواع الرقابة، فضلاً عن أزمة المناهج وطرائق التدريس والمدرسين والتجهيزات والمناخ الجامعي العام. فالإطار التدريسي أصيب، في معظمه، بمرض تدني المستوى العلمي، حيث عزف عن متابعة التطورات العلمية والمعرفية، نظراً لعوامل موضوعية، تتجسد في ضآلة فرص المتابعة، وتدني المكانة الاجتماعية والضغط المعيشي الذي يضعف كثيراً دوافع تحسين القدرة العلمية. وتتجلى أزمة الجامعة في عدة ظواهر، منها ما بات يُعرف بظاهرة سلطة المدرجات، حيث يقوم الأستاذ بجمع طلابه في المدرج، ويلقي عليهم محاضرته العصماء، غير القابلة للحوار والنقاش، ولا يتقبل ملقيها أي نقد أو اعتراض، ويمنع الأسئلة. وهذه السلطة تجعل المعرفة أحادية، ومنغلقة على صاحبها، وتقتل علاقة التفاعل بين الأستاذ والطالب، وتدعم نهج التلقين والقضاء على البحث والتقصي، وتحجم العلم والمعرفة، وتؤسس لسلطة أخرى هي سلطة المقرر الجامعي، حيث يتحول المقرر إلى أداة لتحجيم العلم والعقل العلمي، وتثبط من همة الأستاذ والطالب في الوقت نفسه، وتحدّ من قدراتهما. وفي أغلب الكليات يتحول المقرر إلى ملخص هزيل، يباع في الأسواق، ويحبل بالسرقات العلمية. غير أن الأهم من كل ذلك هو أن الجامعات العربية تعاني من غياب منظومة فاعلة للبحث العلمي، ومن ضمور في المراكز البحثية التخصصية، الأمر الذي أدى إلى ترهل رأس المال البشري. وتأتي هنا ضرورة تخليص الجامعة من سطوة ووصاية السلطة السياسية يشكل نقطة الانطلاق الأولى لتحقيق استقلال الجامعة، أي يمهد الطريق كي تصبح الجامعة مؤسسة علمية أكاديمية، وأن تتفرغ لإنتاج المعرفة العلمية وتطويرها وتزويد المجتمع بالأطر الفنية المتخصصة، وأن تتفرغ للإبداع والبحث العلمي والفكري وتطوير المعرفة. فقد بات من الواضح الآن، وقتاً بعد آخر وحكاية بعد أخرى، أن المؤسسات الأكاديمية والمجتمع لا يواجه نوعين فقط من حملة الشهادة الجامعية أو الشهادات العليا: خريجي الجامعات المعتمدة حسب معايير ''الوزارة'' وخريجي الجامعات غير المعتمدة. فالمجتمع التعليمي والأكاديمي، في العالم العربي خصوصاً، ينطوي الآن على أربع فئات من حملة الشهادات: فخريجو الجامعات المعتمدة رسمياً فيهم من يحمل شهادة حقيقية أكاديمياً، وفيهم من يحمل شهادة مزيفة. وبالمثل، ولكن عكسياً، فخريجو الجامعات غير المعتمدة فيهم من يحمل شهادة مزيفة. وفيهم من يحمل شهادة غير رسمية محلياً ولكنها حقيقية أكاديمياً. أي أن معايير وزارات التعليم العالي تضمن حداً أعلى من حماية الحمى الأكاديمي، لكن هذا لا ينفي أنها قد تحمي قلة من المزيفين وتنفي قلة مثيلة من الصادقين! ولا يغيب عن البال أننا أصبحنا نلحظ ازدياداً كبيراً للجامعات التجارية أو الوهمية، تلك التي أسماها (تقرير اليونسكو 2009) بمصانع الشهادات والدرجات العلمية المعروضة للبيع. حيث أصبح من الصعب أحياناً التمييز بين المؤسسات الأكاديمية الشرعية والمؤسسات غير الشرعية (الدكاكينية)، وهو ما يعزز ضرورة وجود آليات دولية لضمان الجودة، من أجل مقاومة نمو الأعشاب الضارة في الحقل الأكاديمي. وقد أوجز أحد كبار الخبراء المشاركين في منتدى اليونسكو أنماط التعاطي مع التصنيفات الجامعية في ثلاث كلمات/أنماط: (استخدام،سوء استخدام،إساءة استخدام). لكن العولمة بأخلاقياتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الجديدة فرضت أطراً من التكوين الاجتماعي الذي قد لا يسمح للمؤسسات الأكاديمية باستخدام نفس مكونات العقد الاجتماعي والأكاديمي التقليدي، خصوصاً مع بلوغ عدد طلاب التعليم العالي في العالم اليوم نحو 150 مليون طالب، بزيادة تبلغ 53 في المائة مقارنة بعام 2000. وتتركز معظم هذه الزيادات في البلدان الغنية، أي تلك التي تشمل طلاباً قادرين على التعامل مع كلا النوعين من الجامعات: النافعة والضارة! لكن كيف للمؤسسات الأكاديمية الآن، في عصر العولمة خصوصاً أن تفرز الشهادات العليا الحقيقية من غيرها؟ إذاً، أمام هذا الانشطار في المصداقية، كيف يمكن حماية هيبة التعليم العالي بشكل كامل، وهل هذا المطلب المثالي متاح؟! يطرح (تقرير اليونسكو 2009) جواباً عاماً وفضفاضاً بأن ''الجامعة التقليدية سوف ينقضي عهدها بسبب تكنولوجيا المعلومات والتعليم عن بعد وغير ذلك من التجديدات القائمة على التكنولوجيا''. أي أن المعايير والضوابط و ''المواقف السياسية المتعلقة بالحصول على التعليم العالي يجب أن تتغير''. ليس لأجل تطوير القدرة على فرز الحقيقي من المزيف فحسب، ولكن لغرض أهم وأسمى يتعلق بالدور الذي يمكن ويجب أن تؤديه الجامعة في المجتمع، بعيداً عن انكبابها المعهود على الدور التعليمي بشكل كبير والدور البحثي بشكل ضئيل، إلى خدمة المجتمع وبرامج التنمية. ''إن وظائف الجامعة الحديثة الثلاث أي التعليم والبحث والخدمة العامة تتعايش في ظل توترات مستمرة على شتى المستويات''. وهو ما أسفر وسيسفر، كما ينبه التقرير، عن المزيد لدى ما سمي ''اللولب الثلاثي المتمثل في العلاقات بين الجامعة والحكومة والصناعة إلى تغييرات تنظيمية هامة في الجامعة''. و من هنا فإن هناك ضرورة لتبني سياسة علمية جريئة وشجاعة لإحداث تغييرات جذرية في سياسة التعليم الجامعي العربي بما يتلاءم والتغييرات السياسية والاقتصادية والثقافية وحتى الجغرافية منها، وهنالك عدد من التحولات اللازمة في قطاع التعليم منها: ضرورة تحول التعليم من الجمود إلى المرونة، ومن التجانس إلى التنوع، ومن ثقافة الحد الأدنى إلى ثقافة الإتقان والجودة، ومن ثقافة الاجترار إلى ثقافة الابتكار، ومن ثقافة التسليم إلى ثقافة التقويم، ومن السلوك الاستجابي إلى السلوك الإيجابي، ومن القفز على النواتج إلى المرور بالعمليات ومن الاعتماد على الآخر إلى الاعتماد على الذات ومن التعلم محدود الأمد إلى التعلم مدى الحياة، نظراً إلى أن عملية التقويم بصورة عامة وتقويم الطلاب بصورة خاصة تعد من العناصر الأساسية في الجودة الشاملة للنظام التعليمي بعامة والتعليم العالي بخاصة. فعلى كل المعنيين بشأن الجامعات العربية...''دولة العقل'' و ''قاطرة التقدم'' و ''معمل'' إعداد الأجيال المتعاقبة وتأهيلهم، و''منارة التنوير'' التي تسعى لحراسة العلوم والثقافة والفنون، و ''الدعامة الفكرية'' التي تستشرف المستقبل. وهي ''حرم'' تُقدس في رحابه روح البحث والكشف. وبهجة الفكر والتعلم والتأمل، المسارعة بعلاج مظاهر ضعفها ووهنها، كي تصمد أوطاننا العربية أمام هجمات الطامعين في خيراتها، والراغبين في تكريس تبعيتها، والحائلين دون نهضتها، وتبوؤ مكانتها المستقبلية.


مصطفى قطبي

باحث وكاتب صحفي من المغرب

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved