الثابت والمتحرك في الثورات العربية...؟!

2012-06-27
اِن ا//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/c083f16c-0417-4b87-a9c1-c20d8b8c981e.jpeg لإصرار على النظر إلى الثورات العربية على أنها ثورات فواكه وأزهار، أو على أنها ربيع عربي، يؤدي حتماً إلى الاعتراف بفشلها الذريع. ينبغي إذاً، ومن أجل الخروج من هذا الخلط المشبوه، أن ننظر إلى الثورات العربية من زاوية أخرى، واقعية، في ظل الحرص على تقدمها في الاتجاه الأكثر انسجاماً مع ظروف وحاجات وطموحات المجتمعات العربية. ومن هذه الزاوية، لا يمكننا إلا أن نلاحظ أن ما يسمى بالربيع العربي يتطاول ليغطي فصول السنة الأربعة، أو حتى يتراجع ليخرج من جميع المناخات الثورية المتعارفة. فإذا كان للشعوب والحكومات العربية أن تتعلم شيئاً من الثورات والاحتجاجات التي عمت المنطقة من المغرب إلى الخليج فإنها يجب أن تتوقف عند ثلاثة عناوين كبرى تعد من الأسباب الرئيسية وراء كل ما يجري، وهي ذاتها مناط أي محاولة جادة لاستعادة الاستقرار والرضا الشعبي والعمل على تحقيق معدلات أكبر في النمو الاقتصادي مستقبلاً. وهذه العناوين الثلاثة هي فقدان الشفافية وغياب المساءلة، وأخيراً احتكار السلطة والثروة. ووجودها على مدى عدة عقود أوجد تراكماً من الغضب والاحتجاج كان من المنطقي أن ينفجر يوماً ما، واستمرارها يعني أن الغضب لن يتوقف وأن وحدة الشعوب وقدرتها على اختيار مستقبلها مهددتان بدورهما بالدخول في مرحلة ممتدة من الفوضى التي تعصف بكل شيء وتقود إلى تدخلات أجنبية عالمية تزعم في أضعف المبررات أنها تأتي للحفاظ على أمن العالم واستقراره. ومن يعود بالذاكرة إلى نحو عشر سنوات مضت من الممكن أن يرصد جهوداً شعبية وحكومية عربية عديدة للوفاء بهذه المسائل الجوهرية، أي الشفافية والمساءلة والعدالة في توزيع السلطة والثروة. ومن الظلم إطلاق الأحكام القاطعة بأن المنطقة العربية لم تشهد مثل هذه الجهود، ولا يستطيع أحد ممن يتزعمون الآن حركات الاحتجاج ويرفعون شعارات الثورات في أي من البلدان العربية أن يزعم بأن شيئاً من هذا أو ذاك لم يكن يحدث، بل يمكن الاحتجاج عليه بأنه كان أو غيره في طليعة من كانوا يشيدون ويصفقون لكل تحرك يتم في هذا الطريق، فقد امتدت تحركات الإصلاح السياسي والاقتصادي في كل مكان. وليس هناك حاجة الى التدليل على ذلك، فمظاهره كانت حاضرة أمام كل ذي عينين تشهد بها سياسات الحكومات العربية وتصريحات مسؤوليها وحوارات الفضائيات وما امتلأت به الصحف من موضوعات بهذا الخصوص. ومن الحقائق التي لا يمكن إنكارها ـ برغم كل ذلك ـ أن كل ما جرى من إصلاحات كان جزئياً ومحدوداً أو بمعنى أدق لم يكن كافياً لتغيير كل الأوضاع إلى الأفضل أو لتوفير الرضا الشعبي ومن ثم كانت الثقة غائبة في كل جهود الإصلاح وصاحب ذلك قدر كبير من الشك ظل يتصاعد في نفوس الشعوب ـ خصوصا من الشباب ـ الى أن جعل سقف الاحتجاج ينفجر وينتقل به من مستوى التحمل إلى مستوى الفعل والخروج إلى الشارع. وساعد على ذلك أن جهود الإصلاح لم تنعكس في مظاهر فعلية على أرض الواقع، وما تم تفعيله منها ـ وهو جزئي ـ تعرض للعرقلة أو جرى تنفيذه ببطء شديد في ظل إدارات للحكم تعودت أن تتحرك بخطى السلحفاة. وكان لافتاً أن كل من قاموا بالثورات والاحتجاجات لم يرفعوا منذ البداية راية الثورة إن جاز التعبير وإنما رايات الإصلاح، بما يعني أنهم ـ بإرادتهم وقناعاتهم ـ ظلوا أوفياء للنظم القديمة أو القائمة التي تحولوا ضدها فيما بعد بدايات الثورات والاحتجاجات... بمعنى آخر أن مناخ الثورات لم يكن موجوداً في حقيقة الأمر، وإنما كان هناك مناخ في الإصلاح، وكان سبب الاحتجاج أن هذا الإصلاح إما أنه تأخر طويلاً أو أنه كان جزئياً وغير كاف أو كليهما معاً. ولكن ما حدث كان مفاجئاً للطرفين أصحاب القضية:الثورات أو المحتجون من ناحية، والسلطات الحاكمة من ناحية أخرى. فالطرف الأول لم يكن يتخيل أنه يقوم بعمل ثوري ولكن النتيجة التي لمسها مع توالي الأيام القليلة هي حالة ثورية!! والطرف الثاني لم يفهم أو يقتنع بمبررات التصعيد في قضايا هي إصلاحية من حيث الجوهر، وكان صادقاً في إحساسه وتقديره للأمور استناداً إلى حسابات كانت موجودة بالفعل على أرض الواقع دخلت كما سبق القول في سياق سلسلة من الإصلاحات المختلفة جرى العمل بها على مدى السنوات الماضية. العامل الرئيسي الذي قلب الموازين وغير الحسابات وردود الأفعال وقاد إلى الصدام بصور مختلفة، يعود إلى المواجهة الأمنية، فعندما يجري التعامل مع الاحتجاجات بالاستخدام المفرط للقوة ويقع قتلى ومصابون، هنا لا يصبح هناك سقف للمحتجين وتتحول المواجهة إلى عداء وإصرار على تسجيل النقاط ضد السلطات الحاكمة، بينما ـ بالمقابل ـ لا تدرك السلطات الحاكمة أن استخدام القمع الأمني هو لمجرد فض المظاهرات وإنهاء الاحتجاجات بمقتضى كونه أحد واجبات أجهزة الأمن ذاتها، وإنما للحفاظ على كيان الدولة الذي يتسع ليشمل الأرض والمؤسسات والمواطنين والحياة الاقتصادية... وعندئذ تنسد منافذ الحوار بين الطرفين ويمضي كل منهما في طريق التصعيد. وعندما يجلس أساتذة التاريخ بعد عدة سنوات لفهم ما جرى وتدوينه للأجيال المقبلة فإنهم سيتوقفون طويلاً عند هذا الاعتبار أي التعامل الأمني مع صور الاحتجاج والمعارضة وقد يصلون إلى نتيجة قاطعة بأن كل مظاهر الثورات والاحتجاجات التي ضربت المنطقة العربية ما كان لها أن تتم لو لم يتم استخدام أجهزة الأمن في التعامل معها، ولكن هذا هو ما جرى، وهكذا جرى تحديد مصير الشعوب والحكومات. وإلى أن يحكم التاريخ ويقول كلمته للأجيال المقبلة، فإننا نظل فقط أمام تفسير الحاضر الذي ارتج بقوة، وتجربة الحاضر تظل وحدها المساحة الوحيدة الممكنة التي نستطيع من خلالها استشراف العبر للولوج إلى المستقبل المنظور... ففي قراءة الحاضر استشراف للمستقبل المنظور نعود إلى العناوين الثلاثة التي نراها ممكنة للتحليل لفهم ما جرى واستنتاج العبرة وهي الشفافية والمساءلة والعدالة في توزيع الثروة والسلطة. ومن الصحيح أن الحديث عن الديمقراطية والحرية هو من الأهمية بمكان، إلا أنه لا يساعد على الوصول إلى تحليل سليم للتطورات الراهنة. هنا الخلاف يتركز حول ما إذا كان ذلك نتيجة أم سبباً، فمن يدافعون عنه يعتبرونه سبباً جوهرياً بمعنى أنه من الضروري للغاية الانطلاق منه وحده كمنهج للتفسير ومن ثم طريقاً للتغيير، وأما من يعتبرونه نتيجة فإنهم ينظرون إلى العوامل المفقودة التي تؤدي إلى غيابه ويركزون في تفسيراتهم وتحليلاتهم عليها أولاً. و الرأي هنا أن الجميع يتفق على أن الحرية والديمقراطية هدف وغاية لا يختلف عليها إثنان، وأن الإحساس بها والتعلق بها على مستوى الشعور والفكر هو مصدر القوة للأطراف التي تنادي بالتغيير وتسعى إلى حياة أفضل لشعوبها. إلا أن التحفظ الذي يرد على هذا التصور هو أن الديمقراطية غاية كبرى وليست أداة لأن تجاربها مختلفة بين شعب وآخر، وليست هناك وصفة إجرائية واحدة لتحقيقها، وإلا كانت الأنظمة واحدة تماماً وكذلك تجارب الشعوب واحدة، بل إن أحداً لا يستطيع أن يفكر أن هناك خلافات حادة بين من ينشدون التغيير على آليات وصور الديمقراطية وإلا كانت كل القوى السياسية التي تنشغل بهذا العمل متوحدة تماماً في الفكر والأساليب بينما ما هو حادث أن لكل منها فهمه وآلياته. ولذلك تظل الديمقراطية غاية كبرى من ناحية ونتيجة وليست سبباً في مسألة الإصلاح والتغيير من ناحية ثانية... وانطلاقاً مما سبق فإن فقدان الشفافية كان من أسباب حالة الارتجاج الواسعة النطاق التي هزت المنطقة العربية. وللحق فإن حكومات عربية تسابقت في التدليل على أنها تطبق الشفافية وحصلت بالفعل على شهادات عالمية متخصصة تؤكد ذلك. ولكن هناك أيضاً حكومات أخرى جاءت في ذيل المقاييس الدولية. ومع ذلك فإن المؤشرات التي تم الاعتماد عليها لإثبات هذه القيمة كانت جزئية أو غير كافية حيث ركزت في مجملها على الأوضاع الاقتصادية ونزاهة الحكومات على مستوى التشريعات. والخطأ أنها لم تنطلق من مفهوم التنمية الشاملة التي تتركز حول توسيع نطاق المؤشرات لتشمل مدى استفادة كل أبناء المجتمع ومناطقه من ثمار التنمية وصحة البيانات المتوافرة عن ذلك ونزاهة الإنفاق العام، والإعلان عن نفقات إدارات الحكومات في كل المجالات دون أي سرية أو مواربة ومعايير تولي الوظائف القيادية وفرص العمل. فالخطأ الذي ارتكبته الحكومات العربية في تحقيق معدلات النمو يكمن في أنها اهتمت بتحقيق وفرات مالية دون أن تهتم أساساً بمضمون الإنفاق والوصول بثمار التنمية إلى جميع الفئات والطبقات دون تمييز إلا على مستوى الكفاءة. إلا أن العنصر الأكثر أهمية فيما يتعلق بشكل خاص بالتطورات الأخيرة التي قادت إلى انفجار الأوضاع هنا وهناك يتمثل في غياب المعلومات. فبالرغم من تأكيدات الحكومات المختلفة على التزامها بالشفافية، إلا أنها أخفقت في تفعيل أقوى الدلائل عليها وهو إعلان المعلومات أولاً بأول وتوفيرها لدى الجميع (مع استثناء ما يتعلق بالأمن القومي لكل دولة). لقد تسابقت هذه الأطراف في تفعيلها لما يسمى بالحكومات الإليكترونية والقصد منها تسهيل الإجراءات الإدارية لدى المواطنين في حياتهم العامة، ونجح الكثيرون منها في ذلك، إلا أنها لم تهتم بالترويج لسياساتها ومصارحة المواطنين بالأوضاع (الإمكانات والتحديات والجهود المبذولة للإصلاح) عبر الوسائل الإعلامية الإلكترونية، ركزت عيونها على الإعلام المرئي والمقروء لكي يقوم بمهمة توفير المعلومات للناس وأغفلت ''العالم الافتراضي'' الآخر المتمثل في المتعاملين مع أحدث ما أنتجته ثورة الإنترنت (الفيس بوك وتويتر ويوتيوب). و قد تشكل هذا العالم من الشباب المتعلم والفئات الأكثر عمراً التي بادرت منذ وقت مبكر بالارتباط بهذه الآليات. ومن الصحيح أن هذه الوسائل تمت إساءة استخدامها وغلب على الكثير منها الشطط وعدم الالتزام بسرد الحقائق، بالإضافة إلى أنها استخدمت أداة دعائية غير وطنية من جانب البعض لتصفية الحسابات السياسية مع خصومهم والنظم القائمة، وهو ما حدا بالحكومات إلى التعامل مع هذه الأدوات على أنها طابور خامس معاد فتربصت به وغالباً ما تدخلت لتعطيله. وبرغم ذلك كان من الفطنة والحكمة أن تقتحم الحكومات هذا المجال، كما كان من الواجب على من أيدوا النظم القائمة واقتنعوا بتوجهاتها الإصلاحية أن يقتحموا المجال أيضاً. ولكن ما حدث هو العزوف عن هذا التوجه وفي أحسن الأحوال جاء استخدامه بطريقة دفاعية وتبريرية لم تقنع الغالبية العظمى من الأجيال الجديدة. و لو جرى استخدامه على نحو سليم من جانب الحكومات العربية بوضع المعلومات السليمة والحقائق والاعتراف من وقت إلى آخر بالأخطاء هنا أو هناك والتعهد بإصلاحها، لاختلف الأمر كلياً... بعد كل ما جرى أفاقت الحكومات العربية وبدأت تنشئ لأجهزتها صفحات على الفيس بوك لمخاطبة الناس والتحاور معهم وعرض الحقائق، وهي خطوة جيدة بكل تأكيد، ولكن هذا لا يمنع من القول بأنها جاءت متأخرة!! وأما العنصر الثاني فإنه يتمثل في المساءلة، فبرغم التأكيدات المتواصلة على محاربة الفساد وبرغم محاكمة مسؤولين من وقت إلى آخر، إلا أن ذلك لم يكن كافياً أيضاً في ضوء ما كان يستشعره الناس باتساع رقعة الفساد ليس فقط على مستوى بعض المسؤولين وإنما على مستوى المواطنين العاديين أنفسهم، بل وعلى مستوى من تزعموا رايات المعارضة وقفزوا على سطح الأحداث لاختطاف ثمار الثورات والاحتجاجات الأخيرة. المساءلة كانت محدودة وتفعيل سلطة القانون على الجميع دون استثناءات كان معطلاً أو انتقائياً. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أبسط معاني الديمقراطية هو المساءلة (التي تفضي إلى توقيع الجزاء أو العقاب) لأدركنا على الفور أن غيابها كان وراء عدم الثقة في الإصلاحات الديمقراطية التي تمت على مدى السنوات الماضية. وأخيراً يأتي غياب العدالة في توزيع الثروة والسلطة مما أوجد خطرين بالغين أحدهما يتعلق بالأغلبية الصامتة التي قبلت الأوضاع ولكنها لم تسقط من مشاعرها الإحساس بالظلم ومن ثم كانت تربة صالحة لكل من يريد إشعال نيران الاحتجاج، وثانيهما يتعلق بالفئات المنظمة سياسياً التي اعتبرته حجة قوية للدفاع عن مشاريعها السياسية. والحكيم من الأنظمة العربية هو من تعامل مع هذه العناصر الثلاثة بصدق مع النفس وتجاوب معها على وجه السرعة فيما عكس قراءة صحيحة للتطورات، بينما التعيس منها الذي تجمد عند الماضي وتباطأ في الاستجابة. فحصاد ربيع الثورات العربية التي كان من المنتظر أن تحسم خلال شهور قليلة، امتدت من الربيع للخريف، ودون ظهور بارقة أمل في الاستقرار وهو ما يدعونا لسرعة العمل للخروج من شرنقة الانتظار والصمت لما هو قادم والتعامل دائماً برد الفعل الذي أضاع الكثير من حقوقنا وأوصلنا إلى ما نحن فيه. أمام هذا الواقع بكل ما يحمله من آمال محدودة في مستقبل أفضل ومن أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لابد من صحوة عربية لإنقاذ ربيع الثورات العربية من الدخلاء والمتطفلين والمستفيدين بالعمل على عدم تقدم الأمة بل تراجعها بأيدي أبنائها... هي دعوة لحكماء الأمة العربية، للعمل بجدية لوضع أمل لمستقبل وحياة أفضل للشعوب على أراضيها العربية... فهل نتحرك أم نستمر في الانتظار لما هو قادم تحركه القوة الكبرى من أجل تحقيق مصالحها على حساب مصالحنا. فأخطر ما تتعرض له المنطقة العربية الآن ويثير القلق والخوف على المستقبل العربي هو محاولات اختطاف الأحداث العربية الراهنة إلى غير المكان والنهايات التي أرادتها لها الشعوب، وتجييرها في خدمة مصالح الغرب وإسرائيل بدلاً من أن تكون في خدمة مصالحها وقضاياها الوطنية.

مصطفى قطبي

باحث وكاتب صحفي من المغرب

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved