الثقافة الموسيقية هل تكفي وحدها لتقديم نص إبداعي مؤثر؟ إن تمتع الشعر بصفة التأثير والإثارة من ابرز أسباب تفضيله على النثر . قال أبو هلال العسكري في كتابه – الصناعتين- ( لاشئ اسبق الى الأسماع وأوقع في القلوب وابقي على الليالي والأيام من مثل سائر وشعر نادر) .
ولعل الذي عناه أبو هلال هو الشعر الذي تتوافر فيه عوامل الانسجام الموسيقي الى جانب توافر المعاني ذات المضمون الهادف المشبع بالحركة والحيوية . ان الشاعر يقول الشعر وهو حر في اختيار الألفاظ او الكلمات التي يجدها في رأيه تعبر عن الغرض المقصود ، وقد يكون هدفه إيصال الفكرة دون الالتفات الى ما ستؤديه تلك المفردات المختارة ، إذ أن التعبير عن الفكرة او الغرض بكلمات غير منتقاة تعد مرحلة غير جدية في المسيرة الشعرية ، في الوقت الذي يجب على الشاعر ان يتهيأ لاجتياز مراحل عديدة أخرى قبل إعلان قصيدته ، اذ ليس من اليسير منح القصيدة وسام الخلود مالم تكن بحق قصيدة شعرية مستلة من
خلفية ثقافية مليئة بكل مقومات الجودة والرصانة .
إن الإلمام الشامل بما يؤديه كل حرف من الناحية الموسيقية ، من الأمور التي أصبحت جزءا من ثقافة الشاعر الجاد الذي ينشد الحفاظ على ديمومة إبداعه ، وتلك حقيقة قد أدركها النقاد في كل العصور الأدبية ، وبذلوا جهدهم في إسناد مهمة كل حرف في الكلمة وكل كلمة في الجملة ، فنبهوا الشعراء الى الحروف الثقيلة التي تعد من مسببات ( الجهد العضلي ) حين النطق بها ، مطالبين إياهم عدم تكرارها او تتابعها في مكان واحد ، كما وضعوا للحروف الأخرى صفاتها وميزاتها ودرجة تأثيرها الموسيقي ، وكأنهم يعرضون لوحا فنيا ذا قواعد وأصول ، ولا يسعنا في هذا الموجز عرض الأمثلة والشواهد ، ففي الدراسات الصوتية واللغوية مايفي بالغرض ، ابتداء من جهود العلامة الخليل بن احمد الفراهيدي .
ان وجوب اطلاع الشاعر على أصول الثقافة الموسيقية لايعني سدا لثغرة موسيقية في عالمه الشعري الخاص ، بل هو تعزيز لذوقه (الموهوب) في القدرة على توزيع الحروف والكلمات بعد حسن اختيارها ، وما تمييز الحرف الشديد من الرخو مثلا ، والمهموس من المجهور ، والمطبق من غير المطبق الا تهذيب للذوق ، لكي يمنح الصورة عالما متميزا من التجسيد الصوتي ، او إيقاعا يتناسب وجمالها المعنوي ، وفي كل الأحوال لايمكن تجاهل مستلزمات الموسيقى الشعرية ( المؤثرة ) ليس لأنها تموسق جو النص حسب ، بل لكونها جزءا مهما من صنعة الشعر ، وقد أكد أرسطو ذلك في كتابه (الشعر ) موضحا : ( ان الدافع الأساس للشعر يرجع الى علتين : أولاهما غريزة المحاكاة او التقليد ، والثانية غريزة الموسيقى او الإحساس بالنغم ..) .
لقد حظي ديوان الشعر العربي بنصيب وافر من الإيقاع الموسيقي المؤثر ، وان اختلفت درجاته من شاعر الى آخر بحكم ثقافته ومقدار مالديه من رصيد ، ولعل ابرز معلومة تؤشر مدى ثقافة الشاعر الموسيقية في القصيدة هي القدرة على وضع القافية وزنا ومعنى في مكانها المناسب ، لانها ( بمثابة خاتمة الجملة الموسيقية ) ثم عدم تحميل المفردات بحروف ثقيلة مثل حروف الاطباق( الصاد – الضاد – الطاء- الظاء) أكثر من المسموح به، أوشحنها بالحروف التي تسبب جهدا في التنفس حين النطق بها مثل الحروف المهموسة ( السين – التاء –الشين – الحاء – الثاء – الكاف – الخاء- الصاد – الفاء – الهاء ) وفي ضوء هذا المفهوم الموجز تميزت في ديوان الشاعر قصائد لاتخلو مما ياتي :
- انسجام صفات الحروف مع الغرض الذي نظمت القصيدة من اجله .
- التآلف التدريجي بين حروف شطري البيت وحروف القافية .
- معالجة الحروف الثقيلة بصياغة تعتمد الموازنة والتنسيق في حالة اضطرار الشاعر الى كلمة فيها هذه الحروف.
- مواصلة العزف اللفظي بفضل التوزيع العادل للحروف ذات المهمة الواحدة ، فتتابع حروف الذلاقة مثلا وهي ( اللام والراء والنون والفاء والباء والميم ) واشتمال القافية على احدها ، يعني قدرة الشاعر على حسن الانتقاء مع تمتعه بخبرة وافية ، وإذن موسيقية صافية يتحسس بها مواطن الحسن والجمال ، كما ان تتابع حرفي ( القاف والعين ) وهما من أطلق الحروف وأضخمها جرسا ، وحرفي (الدال والباء) وهما من الحروف التي تجمع بين الشدة والجهد ، لتشكيل نغمات متتالية ذات إيقاع صوتي خاص ، إنما هو تتابع منسق يستقي توجيهه من قابلية مثقفة ذات دليل موسيقي واضح .
إن قدرة الشاعر على التوزيع الموسيقي تبرز ليس فقط عندما يطرق المعاني ذات الأجواء الدافئة الرقيقة ، بل عندما يحتاج الى المعاني العنيفة أيضا ، لاسيما وهو في جو يفرض عليه ذلك ، كما هو في وصف المعارك والملاحم ، وهنا أيضا لم يغفل اللغويون دورهم وواجبهم ، وذلك عندما أشاروا الى الأحرف المناسبة للعنف وهي( الخاء والقاف والجيم والضاد والطاء والظاء والصاد ) وقد عرف المتنبي سر المهنة حتى جعل من قصائده موسيقى دائمة دوام الحياة ، وكذلك البحتري و أبو تمام والشريف الرضي وغيرهم مما لايسمح المقال الموجز ذكرهم ... فالمتنبي عندما يصف المعركة يهيئ لها جوا نفسيا ينسجم مع دور الحروف والكلمات الخاصة بها ، كما في قوله مثلا من قصيدته الميمية:
اتوك يجرون الحديد كانما
سروا بجياد مالهن قوائم
اذا برقوا لم تعرف البيض منهم
ثيابهم من مثلها والعمائم
تجمع فيه كل لسن وأمة
فما يفهم الحداث الا التراجم
وما قدمه أبو تمام من براعة توظيف الحروف والكلمات المناسبة في قصيدته (فتح عمورية) ومطلعها :
السيف اصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
هذه عينات على سبيل المثال ، وقد سبقت عصرها نصوص في أغراض أخرى كثيرة استطاع أصحابها ان يجيدوا الاختيار والتوزيع والإشباع .أما اليوم فلم يعد الاعتماد على الذوق وحده كافيا ، إذ لابد من من الإلمام بشؤون الثقافة الموسيقية ، لأسباب كثيرة هذه بعضها:
- لتجنب التعثر اللفظي الذي سبق أن أشار إليه النقاد واللغويون بعد تجارب وخبرات وطول باع ...
- لتعزيز الذوق الفطري بمستجدات الدراسات اللغوية والصوتية ، تمشيا مع الركب الثقافي المتطور..
- لتمثيل الجو المعاصر بأسلوب وصور حضارية لاتقبل بغير الألفاظ الكفيلة بإمتاع القراء المعاصرين..
- بغية المحافظة على صدارة الذوق العربي الرفيع من خلال الاطلاع الدائم على الأجواء الموسيقية في النص الأجنبي .
- لإعانة الموهبة على ممارسة دورها دون عوز أو افتقارالى ما تحتاجه من حرف او كلمة ملائمة في الوقت المناسب ، بغية استكمال الصورة المتميزة لفظا ومعنى وموسيقى.
- قال طاغور شاعر الهند :( حين أفكر في الغبطة التي تبعثها الكلمات في عِطفيّ، أدرك قيمة الدور الذي يؤديه الجرس اللفظي والقافية في القصيدة ، لان الكلمات تفئ الى الصمت ، ولكن موسيقاها تظل ممتدة ، ويبقى صداها موصولا بالسمع..)