في سنة 2005 أصدرت الحكومة المغربية قانونا يقضي بحصول الموظفين على تقاعد سابق لأوانه، مقابل امتيازات مالية مجزية، تحت عنوان «المغادرة الطوعية» .
غادر الكثير من الأطر والكفاءات والأكاديميين في مختلف التخصصات مناصبهم مقابل الحصول على المال، ومن شعبة اللغة العربية وآدابها في الرباط، غادرنا أحد عشر أستاذا، كانت غالبيتهم من خيرة الأساتذة. وحين سألني أحد أصدقائي القدامى في الهاتف، وكان ممن غادروا : هل غادرت؟ أجبته ولماذا أغادر؟ قال للحصول على المال، فلم يكن جوابي غير: وماذا سأفعل به؟ فما كان منه سوى تغيير مجرى الحديث . أتذكر ما حدث منذ أحد عشر عاما، وأنا أتابع، الآن، ما يجري على المستوى الأكاديمي والثقافي العربي؛ وما كان عليه الحال في الثمانينيات وحتى التسعينيات، فأرى أن العديد من المغادرين توقفوا عن الإنتاج والعطاء، باستثناء محمد مفتاح الذي حصل بعد تقاعده على جائزتين عربيتين عن كتاب جليل حول النظرية الشعرية والموسيقى، وعن مجمل أعماله في تحليل الخطاب الشعري .
كان جوابي لصديقي القديم يتضمن جوابا آخر لم أصرح به لتحول مسار الحديث، وهو: ما العمل الجديد الذي يمكنني القيام به بديلا عن عملي الذي أحببته، وحلمت به منذ السنة الثانية إعدادي، وهو أن أكون أستاذا للغة العربية وكاتبا؟ من يحب عملا يتفانى في أدائه وخدمته . ومن جاء إليه بالصدفة أو لأنه لم يجد عنه بديلا لا يمكنه سوى أن يكون عاملا متذمرا ونافرا منه، ولا يخلص فيه أبدا . وأرى أن هذا سبب العطل الذي تعرفه الأعمال في الوطن العربي، إن أي مشتغل في أي مجال حين تسأله عنه، يرد بأنه لا يحب عمله .
أحد المغادرين، وجد نفسه بعد المغادرة مفتقدا عاداته القديمة، فصار يتردد على الشعبة يوميا، متدخلا في شؤونها كما كان يفعل . غضب أحد الحضور وخاطبه: أخذت الفلوس، لا مكان لك هنا ؟ فما كان منه سوى أن غادر نهائيا، وانقطعت الخيوط التي كانت تربطه بالشعبة وعوالمها . بعض المغادرين كان لهم الحق في ذلك، فهم لم يعودوا قادرين على العطاء، لكن آخرين أغواهم المال فتقاعدوا، ليس إداريا فقط، ولكن ثقافيا أيضا . ولعل هذا ما كنت أقصده بالجواب الضمني لصديقي القديم: أجد حياتي في قاعة الدرس، وفي الانخراط في الكتاب، وفي الانشغال بالكتابة .
وأسعد لحظات حياتي حين أخرج من الدرس، وأنا أرى السرور في أعين طلبتي مما قدمته لهم، أو عندما تصلني كلمة محبـــة من قارئ لا أعرفه من خارج الوطن، فهل قارون يحمل مثل هذا الشغف ؟
ليست المغادرة الطوعية المغربية وحدها التي أدت ببعض النبهاء والنجباء إلى التقاعد الثقافي، فالإعارة والهجرة خارج الوطن أدت بالكثيرين إلى الانغماس في تحصيل المال، وكان ذلك على حساب مواصلتهم المشاركة الفعالة في الثقافة العربية، وفي البحث الأكاديمي . سألت أحد الأصدقاء، وكان ممن أعير في بداية التسعينيات : لا شك أن إمكانيات البحث، والتجهيزات المتطورة المتوفرة هناك، التي نفتقدها في المغرب، جعلتك تنخرط في أبحاث متميزة وجادة وجديدة . فما كان منه سوى أن قال لي جوابا لن أنساه : إذا امتلأ الجيب، فرغ الرأس؟ لكن الرأس لا يفرغ فقط بسبب المال، ولكن أيضا بسبب عدم حب العمل، من جهة، وبغياب مشروع علمي يشتغل به المثقف أو الأكاديمي، من جهة ثانية .
لا مكان للمغادرة الطوعية، في بعض الجامعات العربية، وإنما هناك تعاقد سنوي مع المتقاعد يتم بمقتضاه العمل المتواصل حتى الممات؟ لا مشاحة في أن هذا التعاقد إيجابي، وفيه اعتراف بالباحث . لكن إذا كان هذا الأستاذ بلا مشروع مستقبلي، ويكتفي بتقديم محاضراته ومعلوماته التي مرت عليها عقود كثيرة ولم تتجدد، يصبح التعاقد هنا سلبيا، لأنه يحول دون تجديد دماء الجامعة بالشباب الذي يتوفر على مؤهلات مغايرة وجديدة . لذلك يمكننا الذهاب إلى أن بعض الأساتذة يتقاعدون ثقافيا، قبل أن يتقاعدوا إداريا، وهؤلاء يمسون بلا فائدة، لأنهم يصبحون موظفين يؤدون واجبا وظيفيا لا يتلاءم مع وظيفتهم التي تستدعي المواكبة والمتابعة لما يجري في الساحة الثقافية والأكاديمية .
حين أقرأ الآن بعض المقالات أو الكتب العربية لأقلام كانت لها مساهمتها الإيجابية في الحقلين الثقافي والأكاديمي العربيين في وقت سابق، أجدها توقفت عن التطور، وأنها ما تزال تستعمل رأسمالا معرفيا متجاوزا .
فأجدني أقول: هذا هو التقاعد الثقافي، وكما أن التقاعد الإداري يعفي المتقاعد من الاستمرار في الوظيفة، أتساءل: من يمكن أن يقول للمتقاعد الثقافي: كفى. أخذت التقاعد الثقافي، ولا مكان لك هنا: أي في الساحة الثقافية؟ وفي الوقت نفسه، يمكن القول للمتقاعد الإداري، غير المواكب والمجدد لنفسه ولثقافته، أخذت التقاعد الإداري الآن، وأنت متقاعد ثقافيا منذ أزمان، سنعطيك التقاعدين معا، ولا مجال للتعاقد نهائيا .
محمد مفتاح، عبد الله العروي، عبد الله الغذامي.. وآخرون تقاعدوا إداريا، ولكنهم لم يتقاعدوا ثقافيا. إنهم حملة مشاريع، وانخرطوا في العمل حبا، وواجبا وطنيا وإنسانيا، ولذلك هم يواصلون العطاء، ويجددون أنفسهم باستمرار .
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
لتقاعد الثقافي
في الرد على مقالة الاستاذ سعيد يقطين
بعد التحية والسلام على الزميل المحترم
اطلعت على منشورك اليوم عن رايك وتقويمك لما أسميته بالتقاعد الثقافي ، وصلته بالربح المادي، ومن هذه النافذة للتواصل الاجتماعي أقول :
اثر في ما كتبت فاحببت أن أوضح ماخفي عنك وعمن سيقرأون هذا الموضوع ، حتى نضع الحق في نصابه .
سيدي الأستاذ والزميل المحترم
لم يظلم جيل من الاساتذة الجامعيين كما ظلم جيلنا.
من اواخر الستينات حتى سنة 1979
تطورنا في الترقية الإدارية حتى لم يبق بيننا وبين الدرجة العاشرة والنهائية من سلم الترقيات إلا سنة واحدة
اجتزت مباراة اساتذة التعليم العالي لجامعة القاضي عياض بعد حصولي على شهادة الدراسات المعمقة تخصص أدب اندلسي ومغربي . لما نجحت كنت سيدة واحدة والاستاذ الوالي من فاس واستاذ من مراكش . عينا مساعدين بدأنا من الصفر، بعد عامين عدت إلى جامعة محمد الخامس . وضاعت السنوات العشر في الثانوي، وبدأنا الترقية من اول السلم .
بعد عامين حصلنا على الترسيم في الجامعة، لم نحصل على التفرغ ولا على نصفه، كان علي ان احضر شهادة دبلوم الدراسات العليا في الأدب الاندلسي بموازاة مع مسؤولية ام لولد وبنت، عندما سجلت الدبلوم تحت إشراف عميد الادب الاندلسي بالغرب الأسلامي الدكتور الكريم محمد بن شريفة أطال الله عمره في 1983 ثم حصلت عليه بعد ثلاث سنوات، مباشرة سجلت اطروحة دكتوراه الدولة تحت إشرافه حصلت عليها سنة 1991 وانا اشتغل في الكلية ما بين 14 ساعة، و10ساعات .
بترسيمنا ضمن اساتذة التعليم العالي عدنا ادراجنا مرة أخرى لنبدأ سلم الترقيات من الاول، كنت اول امرأة مغربية تحصل على هذه الشهادة من جامعة محمد الخامس واول من تعينت استاذة بشعبة الأدب، اكتشفت أني كنت الهث وراء العلم وشرفه ولم انتبه ان عددا من سنين شبابي ضاع تقديرها الإداري والمادي، لم اعر الماديات اهتماما كان همي ان اكتب وانشر واشارك في المؤتمرات واللقاءات داخل المغرب وخارجه كانت تطبع مع الاشغال المشاركة فيها، اين جامعتنا وكليتنا، أين زملاؤنا في الشعبة المهتمين برصد الحركة الادبية والعلمية والنقدية غادرنا الجامعة ولم نحظ حتى بكلمة تأبين، وشاهدنا من جاؤوا بعدنا يكرمون ويحتفل بهم وبهن ويحتفى، مع ذلك لم نذكر احدا بسوء ولا اشرنا لا من قريب ولا من بعيد ولا حملناك وجيلك باعتباركم جئتم بعدنا إلى الجامعة عن عدم الاعتراف بجهودنا لا ولا اطلعتم على اعمالنا ولا اوصيتم بطبعها ولا حتى بقراءتها ونقدها .
لم نخلد للراحة كما وصفتنا، لا، ولم نتوقف عن العطاء، اشتغلت 4 سنوات عضو مجلس علمي وسنتين عضو ملاحظ للمجلس العلمي الاعلى لدى مجلس الجالية . فمن اهتم بنا واهتم باعمالنا ؟ من منكم ومن جيلكم الزميل المحترم سعيد ياقطين سال عنا إن كنا متنا او مازلنا نعيش .
أخي الكريم
يجب ان تعلم ويعلم غيرك اننا لم نستمتع بطفولتنا لأننا قضيناها نتالم على بلدنا وعروبتنا ونبكي نفي ملكنا واستعمار بلدنا كنا اول من قاد مظاهرات ضد الفرنسيين من كوم وساليكان، من تكن طفولته الاولى هكذا ينشأ محبا لوطنه الصغير والكبير، محبا لدينه محبا للعلم متفانيا في الحصول عليه ليشرف بلده وأهله وعصبته ...
كيف تحكم علينا بالخمول والكسل ؟
ما ادراك بما خطت اناملنا وما رقنت من موضوعات وابحاث ودواوين ونفثات صدور من ذكريات ومذكرات ؟
أذكرك بالامس القريب سنة 2016 م عندما صدرالجزء الاول من روايتي محطات في حياة امراة، كنت اول من اتصلت به وسالتك رايك فيه ووعدت بقراءتها ووضعت في خزانتك بالكلية نسخة من الرواية ونسخة من مذكرات لا ريفييرا التي صدرت بعد الرواية بشهر فهل وفيت ؟؟
كتبت لك رسالة وقراتها ولليوم لم اتوصل منك لا بلا ولا بنعم وعلمت انك فتحت الرسالة واطلعت عليها لانها تترك علامة متى فتحت .
عملي ومؤلفاتي قرأها وكتب عنها العلماء والأدباء والدكاترة في علم النفس الافاضل قرأوها وقيموها في العراق وفي كندا وفي فرنسا وفي جمهورية مصر العربية ..
لم نكن يوما من الايام جاحدين لاساتذتنا ومن سبقونا إلى الجامعة نجلهم ونحترمهم ولا يمكن ان نسلط اقلامنا في التقليل من قيمهم .
ألم تسأل لماذا يهاجر المتفوقون من جيلنا للهجرة بعيدا عن الوطن ؟
الم تكلف نفسك في الكتابة عن مشاعرهم اليوم كيف هي؟ ولا احد يكلف نفسه السؤال حتى بالهاتف، بل بكلمة او جملة على الهاتف او في يوم عيد ؟
ماذا ننتظر من جيلكم غير القدح والذم ؟
خير ما اختم به أخي الكريم سعيد يقطين ما قاله ابو الطيب يعاتب سيف الدولة :
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخ الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الانوار والظلم
هذا عتابي إليك إلا أنه مقة
قد ضمن الدر إلا أنه كلم
الدكتورة ثريا لهي
Jul 13, 2016