التساهيل في نزع الهلاهيل

2008-07-26

عن مؤس//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/4dd8689f-fff0-4354-8386-b2b61a035a43.jpeg سة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة؛ صدرت الطبعة الثانية من رواية "التساهيل في نزع الهلاهيل" للأديب والروائي د. زين عبد الهادي.تقع الرواية في 202 صفحة من القطع المتوسط. تصميم الغلاف للفنان أمين الصيرفي.

تتعرض الرواية إلى حقبة الثمانينيات والتسعينيات وأحوال المصريين فيها، بدءاً من فترة ما بعد معاهدة السلام مع إسرائيل، وتصور رحلة "سيد العبد" من الصحراء الغربية أثناء فترة تجنيده؛ مرتحلاً إلى الكويت، ملقيًا الضوء على عدد كبير من الأسباب التي أعادت تشكيل الحياة المصرية تاركة تأثيرات ضخمة عليها، فلم تكن رحلات المصريين مجرد انتقال جغرافي، بل ظهر تأثيرها الاجتماعي في الشوارع والحارات والبيوت، وحتى في قصص الحب.

إن رحلة سيد العبد طوال الرواية هي بحث عن حبيبته "سوسن" التي فقدها حين تم تجنيده ليُلقى هناك في قلب الصحراء كفأر لا قيمة له، ليكتشف أن روحه تغيرت، وأنه فقد كثير من أحلامه وطموحاته. وحين ينتقل إلى الخليج يكتشف أن المصريين أتوا معهم بكل موروثهم الاجتماعي، من الثأر إلى الأمراض، إنه يلاحظ التحول في الشخصية المصرية، وأسباب ما وصلت إليه الآن.

لقد نجح الكاتب في أن يرتحل مع قارئه إلى قلب الصحراء العربية، ليفتح أعيننا على ما حدث ويحدث. فهي ليست حكاية زين عبد الهادي وحده، إنما حكاية كل من ذهبوا وعادوا بأحلام وحيدة لم تتحقق، هؤلاء الذين أهدى إليهم "زين عبد الهادي" روايته:
( إليهم جميعًا
إلى هؤلاء الذين عاشوا أو ماتوا بحلمٍ وحيدٍ لم يتحقق،
أكتب مرثيتكم اليوم )

لكنه أيضًا يصدر غلاف الرواية بعبارة "مرثية للآخرين"، وكأنه يمهد بهذا العنوان شبه الفرعي لما هو قادم فيها.

كتبت الرواية بأساليب متعددة تجمع بين السرد المبني على تيار الوعي، والفلاش باك، والومضات السريعة الخاطفة لأحداث الماضي والحوار، كذلك على نوع من الكتابة الحميمية التي تجمع بين الكاتب وقرائه.

عن الرواية يقول الروائي د. زين عبد الهادي:
"حين بدأت كتابتها؛ كنتُ أكتب بعضًا من مذكراتي الشخصية، لم أكن أعلم أبدًا أنني أكتب روايتي الأولى، وعلى الرغم من أنها نشرت كرواية ثانية لي، إلا أني أعترف بأنها الرواية الأولى التي كتبتها، كنت أرصد معاناتنا في الخليج ، كيف ذهبنا بكل تلك الأحلام، ولم نحقق شيئًا على الإطلاق؛ سوى أن الوطن تمزق، بسبب الوهابيين، والانتهازيين، والفاسدين.
لم أتكلم سوى عن أحلام البسطاء التي تتهاوى في لحظة، لأن القدر لا يريد لهم شيئًا آخر".

يُذكر أن الطبعة الأولى من رواية " التساهيل في نزع الهلاهيل" صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2005، ونفدت نُسخها العشرة آلاف خلال عامين من نشرها.

د. زين عبد الهادي

zhady_411@yahoo.com

• أديب وروائي وأكاديمي مصري من مواليد عام 1956
• رئيس قسم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب جامعة حلوان منذ 2004
• شغل منصب مستشار المعلومات وتطوير النظم بالمنظمة العربية للتنمية الإدارية منذ 2005 حتى أكتوبر 2008
• حصل على درجة الدكتوراه في علم المعلومات من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1998، وكانت أطروحة الرسالة بعنوان "مراصد البيانات المباشرة في مصر: دراسة لواقعها والتخطيط لمستقبلها".
• نشر له العديد من الأعمال العلمية والإبداعية

• من أعماله الأدبية :

1. المواسم : رواية. دار العربي للنشر والتوزيع، 1995م
2. التساهيل في نزع الهلاهيل : رواية
الطبعة الأولى : الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2005
الطبعة الثانية : مؤسسة شمس للنشر والإعلام، عام 2008
3. مرح الفئران : رواية. دار ميريت للنشر، عام 2006
4. دماء أبوللو : رواية. دار ميريت للنشر، عام 2008

• المؤلفات العلمية :

1. الحاسوب في المكتبات المدرسية.ط1. القاهرة : الدار الشرقية، 1993
2. النظم الآلية في المكتبات.ط1. القاهرة : المكتبة الأكاديمية، 1995
3. الإنترنت: العالم على شاشة الكمبيوتر.ط1. القاهرة : المكتبة الأكاديمية، 1995
4. الذكاء الاصطناعي والنظم الخبيرة في المكتبات : مدخل تجريبي للنظم الخبيرة في الخدمات المرجعية
5. مصادر معلومات المكتبات على شبكة الإنترنت .ط1. القاهرة: ايبيس.كوم، 2001
6. التطورات التربوية والتكنولوجية الحديثة في المكتبات المدرسية .ط1 . القاهرة: ايبيس.كوم، 2003
7. صناعة خدمات المعلومات .ط1. القاهرة: ايبيس.كوم، 2004
8. محركات البحث على الإنترنت. القاهرة : إيبيس، 2006
9. الميتاداتا. القاهرة : إيبيس، 2006
10. تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في السياق البرلماني - دليل استرشادي. القاهرة: الأمم المتحدة، 2006

- البريد الإلكتروني: zhady_411@yahoo.com

مقاطع من رواية:

التساهيل في نزع الهلاهيل


ـــــــــــــــــــــ

( إذا لم تكن تدري من أين جئت

فليس من المهم أن تعلم إلى أين أنت ذاهب )

ـــــــــــــــــــــ


هبطت الطائرة في مطار الكويت، ذلك الهبوط الرخو، قلبي يدق في عنف، لا أحد في انتظاري، المجهول وأنا، أسير على بلاطٍ له بريق، ضحكات مختلطة بصراخ أطفال، نساء سمينات، ورجال يهتزون في ملابسهم اللامعة، أتحسس بنطلوني الجينز المتقرح، هنود وفليبينيون وصعايدة وأمريكان، الصعايدة يسيرون في جماعات لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة أفراد، الجميع يبدأ في الركض، فقط الأمريكان هم الذين لا يركضون، ومع ذلك خرج الأمريكان سريعًا؛ لا أدري كيف، لاحظتُ الابتسامات المتبادلة بينهم وبين العساكر والضباط، لم أجد في استقبالي سوى النظرات المتشككة للضابط الصغير، ملابسه الرمادية وحذاؤه اللامع، وشاربه العريض، كان الطابور طويلاً بشكل غريب وتساءلتُ هل هجر المصريون مصر؟
منذ ركبتُ الطائرة وأنا أشعر بأني داخل حضانة لجنين وُلِد قبل ميعاده، مُعرض فيها للأشعة البنفسجية وفوق البنفسجية وأشعة إكس وأشعة كشف الروح ومسح الجسد وتعطيل الدماغ، وكي العروق، وكل أنواع الإشعاعات، حضانة للميلاد، أم حضانة للموت؟!.
تم دفعي للخروج، قال الجميع بكل لؤم، خروجك فيه حياتك، بينما كنتُ أعلم أني يجب أن أتسلق السلك الشائك عاريًا أتوجس، موتي ينتظرني فوق كل شبر من هذه الأرض.

لاحظتُ أن مضيفات الطائرة من جنسيات مختلفة منهم الهندية والمصرية والكويتية واللبنانية والإنجليزية، وأجملهن هذه الباكستانية الفارعة التي تعلقتُ بعينيها الواسعتين الجميلتين، زميل المقعد النائم بجواري يسيل على شفتيه لعاب غريب ينحدر على جانب ذقنه، أشعر بأن وجهه كله يسيل، حتى لم تبق فيه ملامح، كل شيء فيه مطموس، حتى خلته هو والمقعد كتلة واحدة، كتلة من قماش ودم ولعاب، وكان الكثيرون نائمين، وأدركتُ في تلك اللحظة أني الوحيد الذي لا ينام أبدًا، مفتوح العيون دائمًا وبشكلٍ لا يطاق، وأقول لنفسي: ها أنت تركت القطار والغبار، وكلاب السكك وعربات البيجو التي كانت تحرث الأرض باتجاه "السَّلوم" محملة بشباب الفلاحين والصعايدة، ورأيت أطفالاً بينهم؛ وأيضًا عواجيز ونساء، كنت أراهم بالمئات والألوف في "سيدي براني"، ماذا كانوا يفعلون وإلى أين هم ذاهبون؟ إلى "ليبيا"؟ عيونهم جميعًا ممتلئة بأحلام، يرتدون طبقات من جلابيب كثيرة؛ منتفخين بأوهام الثراء، كم رأيتُ من عربات تعود بنعوش، فهل رأيتَ نعشك بينها يا غبي يا بن الغبي لتقرر الذهاب إلى الكويت، قُضي الأمر.

هيا أغمض عينيك، أمي كانت تردد على مسامعي وأنا صغير دائمًا عبارة وحيدة "لماذا لا تغمض عينيك يا حبيبي وأنت نائم" هل كنتُ كذلك؟
في تلك الليلة البعيدة مات "عبد الناصر" قال أبي: لماذا تركنا ناصر في مواجهة كل هؤلاء، يحدثني وهو يظن أني أفهم، لا أدري لماذا أصر على حفر هذه الكلمات في رأسي؟ أمي قبل أن تموت لم تهتم كثيرًا ولم تقرأ جرائد طوال عمرها، وتشيح بيدها إذا حدثناها في ذلك، وماتت وهي لم تعرف الفرق بين الملك "فاروق" والرئيس "عبد الناصر"، أو من أتى حتى بعده، وأذكر أنها قالت ذات يوم: "رئيس، ملك، وزير، كلهم شيء واحد"، سحبني أبي من يدي وسرنا في جنازته، ركبنا القطار حتى محطة الجيزة، وهناك ضعتُ وسط الناس وبعد عدة ساعات عثر عليَّ وأنا جالس فوق الرصيف في الليل أبكي وعيناي مفتوحتان، احتضنني وخبأني تحت معطفه من البرد، لكني كنت قد أُصبت، واعتقدت أن عينيَّ ظلتا مفتوحتين من يومها، فلم يلفتْ نظري أحد ما لذلك إلا بضعة مرات قليلة.
وكنتُ أنا أنسى، و"سوسن" لم تقل لي أبدًا أن عينيَّ مفتوحتان دائمًا، هل كنت أخاف شيئًا ما؟ أم أن هناك مرضًا ألمَّ بي فتصلبت جفوني على الوضع المفتوح، خوفًا من أن تُسرق مرة أخرى؟
ورغم عينيك المفتوحة فقد كانت تتم سرقتك كل يوم وكل ساعة. لم أرغب في الذهاب إلى طبيب ليفتش داخلي عن السبب في ذلك.

فتش شرطي الحقيبة بعناية وقلَّب الضابط جواز السفر الأخضر وعاد يتفحصني من جديد، عيناه تمتلئ بشكوك واتهامات لا تحصى، وفي أركانها تختفي عبارات السخرية واتهامات بشحاذة دولية، لقد انتهينا من الشحاذة المحلية فلم يتبق لنا سوى الشحاذة الدولية، تَرَكَنا النظام نقوم بالشحاذة بدلاً منه، سنؤكل يا أولاد الكلب وأنتم هناك تضحكون، أشحذ أنا ليقوم بطل الحرب والسلام بالتصوير في مجلة التايمز الأميركية مع كلبه الوولف وحذائه الأبيض وشورته الأبيض وعصاته التي يهش بها علينا.
أشار لشرطيين فسحباني إلى حجرة داخلية حيث تعرضتُ لتفتيش ذاتي، حاولت إفهامه أن شحاذًا مثلي لا يمكن أن يخفي شيئًا داخل ملابسه البسيطة، ولكنه أعطاني قفاه في حدة وتركني لهما، ها أنا أقف بعيدًا بمئات الأميال وحيدًا هذه المرة أخلع جميع ملابسي دون أن أنطق ودون أن أعترض، كانا يفتشان في كل شيء يقلبانه عدة مرات، بحثا تحت لساني، وداخل الحذاء أزكمتهما رائحة قدمي، وبين فخذيَّ وكنت أنا ابتسم، وكانا يضحكان وهما يشيران "للفانلة" الذائبة المهلهلة من على الصدر ولم أدر أنها ذائبة إلا في هذا الوقت فضحكت معهما، وفتح أحدهما علبة سجائري ومزقها أمام عيني باحثًا عن الحشيش والأفيون الذي عادة ما يخبؤه أمثالي من المصريين في تلك العلب، وفتحا دفتر المذكرات الصغير الأزرق وهو الشيء الباقي لي من "سوسن"، وكنتُ خائفًا من أن يمزقاه ولكنهما ألقياه على الأرض في إهمال بعد أن قرآ بعضًا من سطوره وضحكا في سخرية، انحنيت والتقطته في لهفة فأنزل أحدهما السروال الداخلي لي ليرى ما بداخله فاعتدلت سريعًا، أمرني بإنزال اللباس، تطلعت للضابط، أمرني هو الآخر بخلعه، وشبح ابتسامة متشفية تلوح على وجهه، كدت أصرخ ولكن الصرخة التصقت بسقف حلقي، وكنت أشعر بالحرج لكني نطقت أخيرًا بأن ذلك انتهاك لحريتي لكنهما استمرا فيما هم فيه دون أن يعيراني التفاتًا، هاجمني ضيق فجائي فلم يكن معي نقودًا لأشتري علبة أخرى، ولم أكن أدري ماذا يمكن أن يحدث لي في الخارج، وأخيرًا خرجتُ في صحبتهما مع الضابط الذي اعتذر في جمود قائلاً بأن اسمي تشابه مع اسم شخص مطلوب القبض عليه وأشار لي بأن أخرج.

حملتُ الحقيبة ولم تكن تحتوي سوى على خطابات لبعض المصريين تم فتحها جميعها وتساءلت في حيرة عما يمكن أن أقوله لأصحابها، كنتُ قد تعودت على النظام والطاعة هناك فلم أعترض كثيرًا، فالألوان أصبحت متشابهة؛ الكاكي والأخضر والرمادي، قابلتُ المضيفة الباكستانية على الباب نظرتْ لي ولم تبتسم، وتركتْ لي ذكرى وحيدة هي نظرة عينيها الواسعتين الممتلئتين ببرود لا نهائي في طائرة مجهولة.


• • • • •

لمحتُ يافطة معلقة خارج صالة الجوازات تشير إلى مكان تجمع المدرسين المتعاقدين، ووجدت آخرين اندسست بينهم، أغلبهم في مثل سني عدا ثلاثة أو أربعة كانت أعمارهم بين الأربعين والخمسين، واحدٌ فقط يبدو أنه تعدى الخمسين وكان لا يفتأ يشكو التعب والوقفة المرهقة، ظننت لوهلة أننا ذاهبون لمعتقل واحد في نفس اللحظة، كمجموعة من الجرذان تندفع فجأة لتلقي حتفها من فوق جرف عالٍ دون سبب معروف، وأعود أقول: ما هذا اللغو، هل أصبحتُ مجنونًا؟ ولم يجبني أحد، لقد وقَّعت العقد بكامل إرادتي ولم يدفعني أحد لذلك وتركتُ وظيفتي، وربما تركتُ "سوسن" و"سُنسُن" و"صلاح" وأبي وجميع من أعرفهم لذلك، فما معنى الانتحار.
وكنت أظن أحيانًا أني مجنون حقيقي، ضحكتْ سوسن بشدة ذات يوم وقالت لي: "ما الفرق بين المجنون الحقيقي والمجنون غير الحقيقي؟ سواء كنتَ هذا أو ذاك فأنا أحبك، مجنونة بك". لم أكن أدري ما الذي تجده فيَّ مختلفًا، كانتْ تعترف بحبي دائمًا، حتى مللتُ هذه الكلمة وربما مللتُ الحب نفسه، ولكن في تلك اللحظة كنتُ أحتاجها بشدة.
حين كانت تسير بجانبي وكانت أطول مني بسنتيمترات قليلة مرتدية حذاءها الواطئ وكانت موضة الأحذية الرجالية هي الكعب الأسفنجي العالي، فكنتُ أظهر أطول منها، وكنتُ أشعر بأننا نكذب على أنفسنا وعلى الآخرين وكانت تقول لي دائمًا: "دعك من هذا، أنا أحبك فلا تأبه". ولكني كنت أظن دائمًا أننا نكذب، هل هذا هو السبب وراء اختفائها الفجائي، ولما لم تكن هناك إجابة في تلك اللحظة فقد ابتلعتُ كلماتي وأخذت ألوك صمتي، وأنا أدور بين الأسباب والمسببات والعلل والنوايا والرغبات حتى لم يبق أمل في أي منها، أدور في حلقة مفرغة لا نهاية لها دون أن أعثر على سبب واحد قد يريح البال ويبلل الشفاه الجافة التي على وشك التكسر، ولكني لم أفكر أبدًا بأنني قد أكون السبب.

لاحظتُ أفواج الهنود والباكستانيين والبنجلاديش، ملامحهم واضحة، يقفون في طوابير طويلة، أغلبهم من النساء، وأدركت أنهم يأتون للعمل هنا كخدم، أو في وظائف دنيا، ولاحظتُ بعض النساء اللاتي يبكين وهن يتحدثن مع كفيلهن، كن يحاولن أن يثنينه عن تسفيرهن، والرجل يبدو كقطعة من الصخر الصلد ولم يتدخل أحد.

تقدم منا رجل ذو رأس ضخم وجسد هزيل يرتدي نظارات وغترة وعقالاً؛ ذو ملامح طيبة للغاية، وبعد أن فحص أوراقي وقرأ العقد انقلبتْ ملامحه بشكل فجائي وقال لي: "أنت راعي مكتبة وليس لك الحق في سكن أو الانتقال لدار الضيافة"، وأشاح بيده وواصل قائلاً "دبِّر حالك". ولم أفهم ما الذي يقصده تمامًا ما معنى راعي مكتبة، لكْنَتُهُ غريبة نوعًا ما بالنسبة لي، اقترب أحدهم مني قائلاً: "ولا يهمك، تركب معنا السيارة وتنزل في الكويت وهناك يمكن التصرف"، حاولتْ إفهامه أني لم أنظر للعقد وأني لم أقرأ بنوده، وضربتْ بالطاعة عرض الحائط وقلت له: "إني على استعداد أن أعود في نفس الطائرة التي أتيت بها"، هز رأسه ولم يجب وقال: "سوّ ما تريد"، قلت له في لهجة حاسمة مهددًا: "إذا لم تكن تستطيع أن تفعل شيئًا فأتني بأي مسئول آخر، لن أتحرك من هنا، إما الطائرة أو السكن"، نظر إليَّ في شك ونادى على أحدهم: "يا أبو جاسم". فأقبل آخر وكان سمينًا أسود البشرة عريض الأنف حركة أقدامه على الأرض مكتومة غليظة، وتبادلا حديثًا قصيرًا وفهمت أنهم يتحادثان بشأن عقدي، وأخيرًا نطق الرجل الأول قائلاً: "سنأخذك معنا، في دار الضيافة وغدًا تدبر حالك"، سكتُ ولم أنطق، وتذكرتُ الموظف المصري في لجنة التعاقد حين قلتُ له إني أريد قراءة العقد قبل أن أوقعه، رماني بنظرة نارية وقذف أمامي بنسخة أخرى من العقد وهو يهمهم "فقري"، ابتسمتُ وتناولت القلم من يده ووقَّعت دون أن أقرأ شيئًا.

حين خرجتُ من باب المطار خيل إليَّ بأن هناك من ألقاني في الجحيم، وأن ما أحس به ربما يكون أسوأ من جهنم، درجة الحرارة فوق الأربعين، والرطوبة فاقعة، كبستْ أنفاسي وطبقت على صدري، أما زجاج المطار فقد كان يخفي ما يمكن أن يكون بالخارج، خرجتُ من البوابة وقفلت راجعًا من الباب الآخر والجميع خلفي، وارتفعتْ ضحكات الجميع، قلت لهم لا يمكن أن نلقي بأنفسنا من فوق الجرف في هذا الجو، سننتظر للمساء، انزعج الرجل ذو النظارات عريض الرأس وقال: "ايش فيه؟" حدثه أحدهم بالأمر، ضحك حتى ظننت أن قلبه سيتوقف وقال: "هيا هيا يمكنكم أن تتحركوا الآن، الباص يقف أمام المطار، لا تؤاخذوننا"، وكنا ننشوي بنار الكويت في الخطوات العشر الأولى حتى باب "الباص". وكانت المفاجأة الثانية اكتشافنا أن الباص غير مكيف، وهكذا تم شيّنا وسلقنا بعد تجريدنا من ملابسنا بدعوى الشيِّ على العريان....


• • • • •

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved