التسمم الرصاصي والإمبراطورية الرومانية

2011-08-20

تقول الأساطير أن قبائل الغاليين قد استولت على روما وحاصرت قلعتها الكابيتول. وذات ليلة، أخذوا يتسلقون جدران القلعة دون أن يحدثوا أي صوت، ولكن طيور الوز المقدسة طفقت توقوق وأيقظت الرومانيين، ومرّ كل شيء بسلام في هذه المرة، لكن الإمبراطورية الرومانية المقدسة سقطت بعد ذلك!
يعد سقوط الإمبراطورية الرومانية حدث محوري كبير، ومن الأهمية بمكان لدارسي تاريخ العصور الوسطى، لذا فقد خصص المؤرخ البريطاني إدوار جيبون(1737- 1794) Edward Gibbon كتاب من ستة أجزاء بعنوان: "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها"،( ) وهو من أهم وأعظم المراجع في موضوعه، حيث أرجع جيبون سقوط روما إلى هجمات البرابرة وانتشار المسيحية. وقد أختلف المؤرخون في تفسير سقوط الإمبراطورية الرومانية سنة 476 م على يد الجرمان، لأسباب اقتصادية واجتماعية ودينية وأخلاقية ... وغيرها، إلا أن فريق من الباحثين يرى أن معدن الرصاص هو أحد الأسباب الضالعة في سقوط الإمبراطورية الرومانية.( )
الرصاص استخدمه البابليون والآشوريون في البناء، وصنع الصينيون منه النقود قبل 4000 سنة وكذلك اليونانيون والرومانيون، واستخدم المحاربون القدامى كرات الرصاص كطلقات.( ) وقد استخدم الرصاص في عهد الفراعنة للحصول على اللون الأبيض في الرسم والزخرفة، وهو من أول الألوان التي عثر عليها الإنسان، فكانوا يملئون الجرار المصنوعة من الرصاص (بالخل) الحامض القوام، ويضعون الجرار تحت كومة من مخلفات البقر، وكانت المصدر الوحيد لدى القدامى للحصول على الحرارة، فيتحلل الرصاص إلى مسحوق أبيض يستخدمونه كمادة مهمة في الأصباغ البيضاء التي يستخدمها الفنانون في رسومهم لأنها تقاوم الزمن.( )
إلا أن علاقة الرومان القدماء بالرصاص كانت كبيرة وبشكل مستمر، فقد استخدموا الرصاص لصنع أنابيب المياه وأواني الطبخ، وخزانات المياه وأوعية التخزين، ومواد التجميل، والنقود والأصباغ، والألعاب، والتماثيل، والتوابيت، وفي طلي الحمامات، وكجزء من عملية الحفظ، وكمحسن نكهة، حتى الأكواب المستخدمة في الطقوس الدينية المسيحية - في تلك الحقبة - كانت مصنوعة من الرصاص أو البرونز الذي يحتوي على الرصاص،( ) كما أن النبيذ كان ملوث بالرصاص من ما يصل إلى أربعة عشرة مصدر خلال إعداده.( )


لقد ارتبطت اللامبالاة والشراهة بانهيار الإمبراطورية الرومانية، ومن المحتمل أن يكون وجود الرصاص في الطعام والماء والنبيذ قد تسبب في هذه الحالة من اللامبالاة. فقد لاحظ مُسونيوس Musonius - كاتب روماني عاش في القرن الأول الميلادي- أن طبقة السّادة كانت أضعف صحياً وأقل قدرة على تحمل العمل من طبقة الخدم، والذين نشئوا في الريف أقوى من هؤلاء الذين نشئوا في المدينة، والذين يأكلون الطعام العادي كانوا أكثر حظاً في العيش لفترة أطول، كما كانوا أقل عرضة للإصابة بالأمراض المرتبطة بالتسمم بالرصاص.( ) لقد تركت لنا السجلات إشارات عن "النقرس" و"المغص" و"التشنجات" مما يدعم فرضيات التسمم المزمن بالرصاص في الإمبراطورية الرومانية، لأنها بمثابة الأعراض المرضية الناتجة عن تعرض الجسم للرصاص.( )
لقد كان للطبقة الغنية النصيب الأكبر في التسمم بالرصاص لأنها كانت تحصل على هذا التلوث من مصادر عدة؛ فقد كانوا يستعملون أوعية الطبخ من الرصاص لأنها تعطي مذاقاً حلواً وذلك بسبب تكون أسيتات الرصاص التي تسمى سكر الرصاص.( ) كما أن وجود الماء في الأنابيب المصنوعة من الرصاص والتي استخدمت على نطاق واسع في المدن الرئيسية بالإمبراطورية، أدى مع الوقت إلى حدوث عملية ترشيح لمادة الرصاص من الأنابيب، ولأن الأغنياء في روما سيطروا على معظم منافذ المياه العامة، فكانوا أول من ينعم بالماء في الصباح قبل الآخرين، ذلك الماء الذي ظل طوال الليل يمتص الرصاص. لقد أدى التسمم المزمن إلى تدمير الأرستقراطية الرومانية،( ) وبالتالي خلق حالة من ندرة الإدارة الجيدة.
لقد توفيت العائلات القديمة الارستقراطية ليحل محلها آخرون عانوا من نفس المصير، لذلك استنتج نرياجو Nriagu - بروفيسور البيئة الأمريكي- أن التلوث الناجم عن الرصاص كان سببًا رئيسيًا لانهيار الإمبراطورية الرومانية.( ) وقد نشر هذا الرأي سنة 1983 في مجلة الطب البريطانية الجديدة New England Journal of Medicine . وقد أكد هذا الرأي في كتاب صدر له نفس العام تحت عنوان (Lead And Lead Poisoning In Antiquity)( ) بعد أن أجرى دراسة على رفات العديد من الرومانيين القدامى، عُثِرَ عليها أثناء الحفريات الأثرية، وقد أَثبت التحليل أنها تحوي كمية كبيرة من الرصاص. إلا أن سكاربورو جون John Scarborough- صيدلي ذو فكر كلاسيكي- استعرض هذه الأدلة وتهكم عليها، ورأى أن السلطات القديمة كانت على علم بشأن التسمم بالرصاص، إلا أنه لم يكن مستوطنا في الإمبراطورية الرومانية ولم يتسبب في سقوطها.( )
الواقع أن روما تقع على تربة جيرية رسوبية تؤدي إلى تكتل كميات من كربونات الكالسيوم فوق الأنابيب، لذا كان لابد أن تكون هذه الأنابيب معزولة ومحمية ضد التآكل، فكان الرصاص مادة مثالية لإنتاج أنابيب المياه نظراً لتوفره، وبساطة تشكيله (صهره) بقليل من الحرارة، وسهولة تركيبه، فاستخدم الرومان هذا النوع من الأنابيب على نطاق واسع.( ) يذكر فرونتينيوس Frontinus أن الترسبات أدت إلى تقلص عرض قنوات المياه في روما، إلا أن المياه تدفقت في المواسير المصنوعة من الرصاص بشكل مستمر.( ) غير أن هذا النوع من الأنابيب لم يكن الوحيد، فيذكر فيتريفيوس Vitruvius ، الذي عاش في عهد أوجستس Augustus ، أن الرومان عرفوا خطر الرصاص وبالتالي، كانوا يفضلون الطين في صناعة الأنابيب. حيث لاحظ الكاتب الروماني كوليميلا Columella فائدة الأنابيب الفخارية "فبعد هطول الأمطار في كل مناسبة تكون هذه المياه أكثر فائدة لصحة الجسم، وتعتبر جيدة بدرجة غير عادية إذا كان نقلها من خلال الأنابيب الأرضية إلى صهريج مغطى".( )
إلا أنه هناك أكثر من سبب محتمل للتسمم الرصاصي غير الأنابيب المصنوعة من الرصاص، فالنبيذ كان أهم مصدر تعرضت من خلاله الطبقة الثرية للرصاص،( ) فعصير العنب غير المختمر كان يجب أن يُغلى لتركيز السكر، والأواني كانت من الرصاص، حتى أن بليني Pliny أوصى بإعداد النبيذ في أوعية من الرصاص.( ) وقد طرح جيلفيلان S. Columba Gilfillan في عام 1965 نظرية عن "الاضمحلال الروماني بسب السموم".( ) فقد عانت روما القديمة من مشكلة تلف الأطعمة، وقد اكتشف الخمارون أن طعم النبيذ يكون أفضل، كما أنه يكون صالح للشراب لفترة أطول إذا تم خلطه وتركيزه مع شراب العنب الذي يطلق عليه سابا "Sapa". وكان أفضل أنواع السابا هو النوع المغلي في الأواني المصنوعة من الرصاص، مما يسمح بتشبع الرصاص في الشراب. وعند خلط النوع الجيد من السابا مع النبيذ فإن مذاقه يصبح حلو الطعم، وأيضاً مسمم بالجراثيم الدقيقة التي تسبب التخمر. وقد استخدمت السابا أيضًا في المشروبات، والفواكه، والعسل، وكمادة حافظة للطعام.( )
ويقدر جوزيف ايسينجر Josef Eisinger أن الرومان كانوا يستهلكون لتر من النبيذ يوميًا، وهو ما يستوعب حوالي 20 مليجرام من الرصاص، وهذه الكمية - في رأيه - أكثر من كافية للإصابة بالتسمم الرصاصي المزمن.( ) غير أن سكاربورو Scarborough أوضح أن المرء يحتاج إلى قراءة النصوص بعناية، فقد استخدم الرومان أيضاً القدور البرونزية والنحاسية، وإذا كان النحاس والبرونز مشتبه فيهم كذلك، فإن مدة الغليان القصيرة لن تلوث العصير.( )
كما افترض نرياجو Nriagu أن الطبقة الأرستقراطية في روما كانت تستهلك اثنين لتر من النبيذ في اليوم (ما يقرب من ثلاث زجاجات)، وهذا يجعل مدمني الكحول أكثر عرضه "للتسمم الرصاصي"، فارتفاع معدل مستويات الرصاص في الدم مع الوقت له عواقب فيزيولوجية خطيرة( )، من تلف الدماغ والكلى، وفقر الدم، وانخفاض عدد الحيوانات المنوية، وضعف النمو العقلي للأطفال ونقص معدلات الذكاء لديهم مع صعوبة في التركيز بسبب مستويات الرصاص لدى الأم. بالإضافة إلى عدم اتزان الفكر، وفتور الشعور، واللامبالاة. الحق أن عدد كبير من الأرستقراطيين الرومان تناولوا كميات كبيرة من الرصاص كل يوم مع الأطعمة والمشروبات، لذا أصر جيلفيلان Gilfillan على أن "التسمم بالرصاص" يجب أن يأخذ في الحسبان لتأثيره الكبير في تخريب الثقافة الرومانية، والتقدم، والعبقرية( )
وبالإضافة إلى النبيذ والمياه المنقولة عبر أنابيب الرصاص، فإن الأطعمة الطيبة و"الصلصات" المعدة على أيدي النهمون، من المرجح أنها كانت المصدر الرئيسي لتناول الرصاص من قبل الأرستقراطية الرومانية. ( ) غير أن النظام الغذائي للفقراء لم يكن مسمومًا بهذه الدرجة السيئة، فعلى الرغم من أنهم كانوا يشربون من نفس خط الأنابيب( ) ، إلا أن هذه الطبقة افتقرت إلى الكماليات من مستحضرات التجميل والمشروبات والفواكه والعسل والأطعمة المحفوظة. لكن الماء كان مشبعاًَ بغاز ثنائي أكسيد الكربون، وهذا الغاز يتفاعل مع الرصاص الذي يذوب جيداً في الماء، فيدخل إلى الجسم ويبقى فيه، حيث يحل تدريجياً محل الكالسيوم، الذي يدخل في تركيب العظام، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إصابة الجسم بأمراض مزمنة .( )
وهكذا؛ كان الشعب الروماني يموت ببطء، والإمبراطورية تضمحل تدريجيًا، فقد أصاب التسمم الكثير من الأباطرة والقادة والنبلاء فسبب لهم أمراض عقلية وجسدية خطيرة، فكان هذا التسمم باعثًا على كثير من قراراتهم العشوائية، وتصرفاتهم الحمقاء( )، وعاملاً من عوامل تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، بسبب تلوث البيئة.( )
المراجع:

أشرف صالح

 عضو هيئة التدريس/ الجامعة الاسكندينافية - النرويج

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved