
في بيته الفقير ـ الآن على الأقل ـ تعاوده الليالي المؤرقة، وهو الذي ينشد الهدوء مبتعداً عن مضار المدن التي لا ترحم .
هو الخارج من أوربا والداخل ـ عبر بوابات زنجيته ـ إلى داره القديمة في قلب الغابة، وحدها عطور الأزهار وخلايا النحل تسوّر الدار، ليس وحيداً بل معه مَنْ تركت أوربا الأنانية الجميلة، سيعيدا النكهة لرائحة المطبخ ولن تتسمم حياتهما بمصاحبة الثقلاء
عند شباك غرفة نومهما الخاوية ـ منتصباً كان ـ مدَّ ذراعه المعروقة مبعداً درفة الشباك ليرى الممر الشائك بالأشجار وليستقبل أنفه رائحة الطين والقرنفل معاً، وبهدوء لا يعكر صفوه سوى ازيز نحلة طائرة أونقيق ضفدع عابر، تتجمع الذكريات السحيقة عبر مياه الطفولة الجارية في عروقه محفزة جسده الاسود الواهن ـ والذي كان يوماً علامة ذل وإحتقار ـ إلى الإلتحام بالجسد المجاور .
بعد أن رقصا طوال الليل على أصوات التام تام والليوة، هاهي الديكة تحيي الفجر ودواليب العربات التي تجرها الثيران تكركر تحت شباكهما وعلى درب التراب الأحمر سار الرجال بملابسهم البيضاء نحو المسجد الصغير والصبايا بملابسهن الملونة نحو النبع .
ومع أشعة الشمس الأولى تلامس أو تكاد خشب شباكهما، كانَّ بريق ضحكتها يومض في أرجاء الغرفة وقبلة منه تضيء جبهتها الناصعة البياض، كانت تشد عليه بجسمها .. ملتصقة به، كانت يده عند ثنية فخذها وهما يعلنان إحتجاجهما ضد جلبة النهار.
macklm@hotmail.com

