مئة عام وعام على اغتيال روزا لوكسمبورغ

2025-06-30

قبل 100 عام وعام بالضبط، تم اغتيال روزا لوكسمبورغ، المنظّرة الاشتراكية الألمانية الكبيرة وواحدة من زعماء الحركة "السبارتاكية"، في برلين في أعقاب محاولة تمرد ثورية دموية. أما فكرها الفلسفي والسياسي ونشاطها العملي فيعودان إلى دائرة الأضواء في ظل أزمات النظام الرأسمالي المتسارعة والاضطرابات الشعبية العالمية التي ترافقه

 
في 25 كانون الثاني عام 1919، احتشد عشرات الآلاف من سكان برلين في أجواء برد قارس حول قبر جماعي في مقبرة فريدريشفيلد بانتظار 32 تابوتاً تحتوي معظمهما على رفات رفاقهم الشيوعيين الذين ذُبحوا في الأيام التي سبقت انتفاضتهم الفاشلة بينها واحد لكارل ليبكنخت، القائد المؤسس للحركة "السبارتاكية". أما التابوت المخصص لروزا لوكسمبورغ فكان فارغاً: اغتيلت شريكة ليبكنخت في الخامس عشر من كانون الثاني من قبل عسكريين كان من المفترض أن ينقلوها إلى السجن لكنهم قتلوها وألقوا بجسدها في قناة لاندفيهركانال. لم يعثر على لوكسمبورغ إلا بعد أربعة أشهر. باغتيال هذين القيادين في ذلك الصباح، تهاوت آمال ثورة شيوعية في ألمانيا وفشلت آمال الثوريين الألمان في أن تحذو بلادهم حذو الجار الروسي.

وُلدت روزا لوكسمبورغ قبل اغتيالها بثمانية وأربعين عاماً بالقرب من مدينة لوبلين البولندية (شرق)، التي كانت تابعة حينها للإمبراطورية الروسية، في عائلة من كبار التجار اليهود غير المتدينين، وعانت الطفلة الخامسة للعائلة مدى حياتها من العرج بسبب خطأ طبي. بعد انتقال العائلة إلى مدينة وارسو، التحقت روزا، على الرغم من قيود كانت مفروضة على اليهود، بمدرسة ثانوية للفتيات وبرزت كطالبة لامعة في المرحلة الثانوية. ورغم الأجواء المعادية للسامية، فقد كانت روزا أكثر اهتماماً بالسياسة من جذورها العبرية، ومنحها تفوقها المدرسي الفرصة للخلاص من المناخ "القيصري" في بولندا ولالتحاق بجامعة زيورخ في سويسرا لدراسة علوم الحيوان.

وفي تلك المدينة "الماركسية"، المليئة بالمنفيين السياسيين الشيوعيين والاشتراكيين، وقع اللقاء التاريخي المؤسس بينها وبين ليو جوكيش، المثقف والمناضل الفاعل اليهودي البولندي، وتحولا إلى رفيقين لصيقين ثم صديقين مدى الحياة. ويبدو أن الفضل يعود إلى جوكيش في حث "الرفيقة روزا" على دراسة الفلسفة والاقتصاد وتقديم أطروحتها للدكتوراه عام 1897 حول البسط الصناعي في بولندا، بعد أن أسسا معاً "الحزب الاشتراكي الديمقراطي لمملكة بولندا وليتوانيا" الذي كان يعارض الاتجاه الاستقلالي "القومي" للحزب الاشتراكي البولندي.

لا جدوى ترجى، برأي لوكسمبورغ، من المطالبة بالاستقلال البولندي في ظل النظام الرأسمالي لأن من شأن ذلك أن ينقل استغلال العمال من يد البرجوازية الروسية إلى نظيرتها "الوطنية" البولندية. فالقمع الوطني لن يتوقف إلا بسقوط الرأسمالية والتأكيد على التباينات الوطنية، باعتباره هدفاً للنضال الاشتراكي، قد يضعف التضامن الأممي بين البروليتاريا ويؤدي، بالتالي، إلى دفع عمال العالم في سياقات نضالات وطنية ميؤوس منها. وتلك كانت واحدة من نقاط الخلاف الكبرى مع ثوريين آخرين هامين، وعلى رأسهم لينين.

في عام 1896، أصبح الحزب عضواً في الأممية العمالية وباتت روزا التي كانت تتقن الروسية والبولندية والألمانية والفرنسية واليديشية واحدة من شخصياته الرئيسية وكاتبة اشتراكية "معترفاً بها". انتقلت روزا بعد تقديم أطروحتها الأكاديمية إلى ألمانيا، البلاد التي برزت فيها، في تلك الأيام، آمال كبيرة للحركة الاشتراكية الدولية، وانضمت إلى الحزب الاشتراكي الألماني الذي كان ساحة نقاش خصب وصاخب بقدر ما هو أساسي بين الإصلاحيين والثوريين. وجاءت "الثورة التمهيدية" في روسيا عام 1905 لتقدم دفعاً جديداً في نشاط روزا، فعادت إلى بولندا حيث تم القبض عليها هناك لكنها تمكنت من الخروج من السجن بفضل جنسيتها الألمانية الجديدة. رغم ذلك، فإن هذا لم يمنع السلطات الألمانية من محاكمتها فور عودتها وحُكم عليها بتهمة التحريض على الثورة لتقضي شهرين في السجن عام 1907.

ما تبقى من حياة روزا لوكسمبورغ القصيرة ليس سوى صراعاً سياسياً مستمراً مع حرية محفوفة بالمخاطر والسجون، وقطعت علاقتها مع الحزب الاشتراكي الألماني، كما وجهت، لاحقا، نقدا مستمرا لأطروحات لينين ورفاقه بعد انتصار الثورة الروسية 1917، والتي كانت بالإضافة إلى الحرب العالمية الأولى أهم حدثين حياة روزا لوكسمبورغ.

فقد تمكنت هستيريا الحرب من تفكير غالبية أعضاء الحزب الاشتراكي الألماني وجعلتهم يصوتون بالموافقة على الاعتمادات المالية المقررة لخوضها كما كان حال نظرائهم الفرنسيين بعد اغتيال جان جوريس، وهو ما دفعها إلى أن تؤسس مع رفاقها كارل ليبكنخت وليو جوكيش وكلارا زيتكين وغيرهم مجموعة حملة اسم "الرابطة السبارتاكية" تيمناً بالعبد الروماني الثائر الأشهر سبارتاكوس. قبض على ليبكنخت في أيار 1916 أثناء تظاهرة مناهضة للحرب الطاحنة المدمرة كانت تصرخ "تسقط الحرب. تسقط الحكومة" ووضعت روزا تحت الرقابة قبل أن يقبض عليها بدورها.

وقالت روزا في شرح لأسباب تأسيس الرابطة أنه "لا يوجد علاج آخر، ولا مخرج آخر، ولا خلاص آخر غير الاشتراكية. إن الثورة العالمية للبروليتاريا هي وحدها القادرة على إحلال النظام في هذه الفوضى، ومنح الجميع العمل والخبز، ووضع حد للآلام المتبادلة بين الشعوب، وإحلال السلام والحرية والحضارة الحقيقية للإنسانية المتهالكة (...) يجب أن يحل العمل التعاوني محل العمل الأجير والهيمنة الطبقية، ويجب ألا تكون وسائل العمل بعد اليوم حكراً على طبقة، بل أن تغدو ملكاً عاماً للجميع. لا مزيد من المستغِلين أو المستغَلين!"، والذي ينتهي بالصرخة الرمزية التي ميزتها "فإما الاشتراكية أو السقوط في البربرية".

تخلى الحزب الاشتراكي الألماني سريعاً عن السبارتاكيين، لكن الثورة الروسية أعادت بث الأمل بين صفوفهم، فدعمتها لوكسمبورغ من سجنها وخاصة شعارها الأثير "كل السلطة للسوفيات" دون أن يمنعها ذلك، في الوقت نفسه، من إبداء قلقها من مخاطر ما وصفته بـ"شطط" بلشفي يريد تحويل "المجتمع بأكمله إلى مكتب واحد ومشغل واحد مع مساواة في العمل وفي الأجر" وفق تصور لينين حول اشتراكية تفرض "من فوق"، وفق ما استشفه من نصوص لماركس يبرز فيها إعجابه الشديد بالثورة البرجوازية المستمرة، عندما قال "تجعل الصناعة الكبيرة (...) فلاح المجتمع القديم الزاحف يختفي وتحل محله العامل الأجير" و"يُستبدل الاستغلال الروتيني وغير العقلاني بالتطبيق التكنولوجي للعلم" و"يُقطع نهائياً الرابط الذي كان يوحد بين الزراعة والمانيفكتورة"... كل ذلك على الرغم من التحذير من طبخ المستقبل أو "طناجر المستقبل".

روزا لوكسمبورغ رفضت، من جانبها، التناقض بين "الديكتاتورية الإشتراكية" والحريات العامة، قائلة "الديكتاتورية الاشتراكية ألا تتراجع أمام أي وسيلة إكراه بهدف فرض تدابير معينة لصالح المجتمع العام"، فإن روزا تؤكد فوراً إنه "بدون حرية غير محدودة للصحافة وبدون حرية مطلقة للتجمع وتكوين الجمعيات، من غير الممكن تصور تحقق لسيطرة الجماهير الشعبية الواسعة" وأن "الحرية هي دائماً حرية ذلك الذي يفكر بشكل مغاير".

في ألمانيا، ومع وقوع الهزيمة ووصول الحزب الاشتراكي إلى السلطة، تمكنت روزا، مستفيدة من أجواء غليان عامة، من الخروج من السجن، بينما كان السبارتاكيون يرغبون في "إعادة إنتاج" التجربة الروسية عن طريق الاستيلاء على السلطة من قبل "مجالس" العمال والجنود الذين كانت تزدهر في البلاد، ويأسسون في 30 أيلول 1918 "الحزب الشيوعي الألماني". بعد عدة أشهر، وتحديداً خلال ليلة 5 – 6 كانون الثاني 1919، أقدم السبارتاكيون على محاولتهم "الانقلابية" لكنهم سيفشلون. وسيقوم وزير الداخلية الاشتراكي غوستاف نوسكي بالتعاقد سراً مع ميليشيا يمينية متطرفة تقوم بالقضاء على روزا ورفاقها، مما أدى إلى مذبحة قتل فيها من قتل وأعدم كل من سلّم نفسه للسلطات. ويعيد الحدث إلى الأذهان ما ألمحت إليه روزا نفسها، عن التشابه بين ما حصل في هذه الحالة وما حصل سابقاً خلال "الإخفاقات التاريخية" الأخرى مثل كمونة باريس لجهة تولي "الاشتراكيين" مهمة "العمل الوسخ" لحساب القوى الرأسمالية والقضاء على كل تمرد اشتراكي.

نشرت روزا مقالها الأخير في 14 كانون الثاني 1919 بعنوان "النظام العام يسود برلين" وتم القبض عليها في اليوم التالي، وبينما كانت ستنقل نظرياً إلى السجن، ضربها العسكريون بالبنادق ووضعت في سيارة قطعت بها مئة متر حين أطلق عليها جندي من المرافقين النار في رأسها فقتلت وألقي جسدها في القناة النهرية. واتهم بيان رسمي حشوداً من المواطنين الغاضبين بقتلها، فيما لقي ليبنكخت المصير ذاته في اليوم ذاته. وعلى الرغم من أن أمر قتلة روزا ورفاقها قد افتضح فيما بعد، فإنهم كانوا يتمتعون بحماية الحكومة "الاشتراكية" وحصلوا في وقت لاحق على ثناء خاص من قبل النازيين.

ختمت روزا لوكسمبورغ مقالها الأخير بالعبارة الأخيرة التالية: "النظام العام يسود برلين! ويلكم من أتباع حمقى! إن "نظامـ"ـكم مبني على الرمال. من الغد، ستنهض الثورة مجدداً بكل قوة معلنة بصوتها الصاخب وسط فزعكم: كنتُ، أكونُ وسأكون!

ولدت روزا لوكسمبورغ في مدينة زاموسك الصغيرة يوم 5 آذار/مارس 1871. منذ بداية شبابها نشطت في الحركة الاشتراكية. فقد انضمت إلى حزب ثوري يدعى “بروليتاريا”، الذي تأسس عام 1882، أي قبل 21 سنة من تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي (البلشفي والمنشفي). منذ البداية كان حزب “بروليتاريا”، في مبادئه وبرنامجه، متقدما خطوات عن الحركة الثورية في روسيا. في حين اقتصرت الحركة الثورية في روسيا على الأعمال الإرهابية الفردية التي يقوم بها عدد من المثقفين المغامرين، كان “بروليتاريا” ينظم ويقود الآلاف من العمال خلال الإضراب. عام 1886، تلقى “بروليتاريا” ضربة كانت عمليا شبه قاضية عبر إعدام 4 من قادته وسجن 23 آخر لمدة طويلة مع الأشغال الشاقة، ونفي أكثر من 200. نجت مجموعة صغيرة من ذلك، ومن بينهم كانت روزا لوكسمبورغ التي انضمت إليهم عن عمر 16 سنة. عام 1889 لاحقتها الشرطة، فاضطرت إلى مغادرة بولندا، اعتقد رفاقها أنها ستكون مفيدة في العمل من الخارج مما لو كانت في السجن. فذهبت إلى سويسرا، وتحديدا إلى زيوريخ التي كانت مركزا مهما للهجرة البولندية والروسية. فدخلت إلى الجامعة وتعلمت العلوم الطبيعية والرياضيات والاقتصاد. ولعبت دورا نشيطا في الحركة العمالية المحلية وفي الحياة الفكرية القوية للمهاجرين الثوريين.

لم يمض أكثر من بضعة سنوات حتى جرى الاعتراف بروزا لوكسمبورغ كالزعيمة النظرية للحزب الاشتراكي الثوري في بولندا. وقد أصبحت المساهمة الرئيسية لمجلة الحزب، حال العمال (Sprawa Rabotnicza)، التي تصدر في باريس. عام 1894 تغير اسم حزب “بروليتاريا” ليصبح الحزب الاشتراكي الديمقراطي لمملكة بولندا؛ بعد ذلك بوقت قصير أضيفت ليتوانيا إلى الاسم. واستمرت روزا قائدة نظرية للحزب (SDKPL) حتى نهاية حياتها.

في شهر آب/أغسطس عام 1893 مثلت الحزب في مؤتمر الأممية الاشتراكية. هناك، وكشابة عمرها 22 سنة، كان عليها أن تتعامل مع المناضلين المعروفين لحزب بولندي آخر، الحزب الاشتراكي البولندي، الذي كان هدفه الرئيسي تحقيق استقلال بولندا والذي نال تأييد جميع الزعماء المحنكين في الأممية الاشتراكية. وكان لتأييد الحركة الوطنية في بولندا ثقلا كبيرا خلفه: ماركس وإنجلز، عبر جعله هدفا رئيسيا لسياستهما. دون أن تخشى من كل ذلك، استهدفت روزا لوكسمبورغ الحزب الاشتراكي البولندي، متهمته بنزعة قومية واضحة وقابليته لتحييد العمال عن طريق الصراع الطبقي؛ فتجرأت على اتخاذ موقفا مغايرا للسادة القدماء وعارضت شعار استقلال بولندا. (للمزيد حول ذلك، راجع/ي: روزا لوكسمبورغ والمسألة الوطنية). وقد انهال خصومها عليها بالاتهامات المهينة، مثل تلميذ وصديق ماركس وإنجلز المخضرم، ويلهلم ليبكنخت، الذي ذهب إلى حد اتهامها بأنها عميلة للمخابرات القيصرية. ولكنها أصرت على موقفها.

وقد نمت فكريا بسرعة فائقة. وانجذبت بقوة إلى مركز الحركة العمالية العالمية، ألمانيا، حيث شقت طريقها منذ العام 1898.

وبدأت بالكتابة الدؤوبة، وبعد فترة أصبحت واحدة من المساهمين الرئيسيين في المجلة النظرية الماركسية الأهم في ذلك الوقت، الأزمنة الحديثة (Die Neue Zeit). مستقلة دائما في الحكم والنقد، حتى في ظل الهيبة الهائلة لرئيس تحريرها كارل كاوتسكي، “بابا الماركسية” كما كان يسمى، لم يمنعها من إبداء رأيها ما إن تصبح مقتنعة به.
انضمت روزا لوكسمبورغ بقلبها وروحها إلى الحركة العمالية في ألمانيا. كانت مساهمة منتظمة في عدد من الصحف الاشتراكية- وفي بعض الحالات رئيسة تحريرها- وقد خطبت في العديد من اللقاءات الجماهيرية ولعبت دورا فعالا في كل المهمات التي طلبتها الحركة منها. في كل خطبها ومقالاتها كانت أعمالا ابداعية أصيلة، حيث ناشدت العقل بدلا من العاطفة، وكانت دائما تفتح أمام قرائها آفاقا أوسع وأكبر مما كانوا يعرفونه من قبل.

في ذلك الوقت انقسمت الحركة في ألمانيا إلى اتجاهين أساسيين، الأول إصلاحي والثاني ثوري، مع تنام في قوة الأخير. كانت ألمانيا تتمتع بازدهار مستمر منذ ركود العام 1873. وقد تحسنت معيشة العمال بشكل مستمر وإن كان بشكل بطيء؛ وتنامت قوة النقابات والتعاونيات أكثر فأكثر.

بهذه الخلفية، فإن بيروقراطية هذه الحركات، إلى جانب تزايد التمثيل البرلماني للحزب الاشتراكي الديمقراطي، ابتعدت عن فكرة الثورة مقدمة قوة كبيرة لأولئك الذين يتبنون مبدأ الانتقال التدريجي أو الإصلاح. وكان إدوارد برنشتاين المتحدث الأساسي باسم هذا الاتجاه، أحد مريدي إنجلز. بين عامي 1896 و1898 كتب برنشتاين سلسلة من المقالات في مجلة الأزمنة الحديثة حول مشاكل الاشتراكية، وقد هاجم فيها بشكل متصاعد المبادئ الماركسية. وأدى ذلك إلى اندلاع نقاشات طويلة ومريرة. وكانت روزا لوكسمبورغ قد دخلت للتو في الحركة العمالية الألمانية، فهبت للدفاع عن الماركسية. ببراعة وبدافع رائع، هاجمت انتشار السرطان الإصلاحي في كتيبها، إصلاح أو ثورة اشتراكية. (للمزيد حول ذلك، راجع/ي: إصلاح أو ثورة).

بعد ذلك بوقت قصير، وفي عام 1899، دخل “الاشتراكي” الفرنسي ميلرند في حكومة ائتلافية مع حزب رأسمالي. وقد تابعت روزا لوكسمبورغ هذه التجربة عن كثب وحللتها ضمن سلسلة من المقالات الرائعة للتعامل مع الوضع ضمن الحركة العمالية الفرنسية بشكل عام، ومسألة الحكومات الائتلافية بشكل خاص (للمزيد حول ذلك، راجع/ي: إصلاح أو ثورة). بعد الفشل الذريع لماكدونالد في بريطانيا، وجمهورية فايمار في ألمانيا، والجبهة الشعبية في فرنسا خلال الثلاثينات والحكومات الائتلافية خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في البلد نفسه، من الواضح أن الدروس التي استقتها روزا لوكسمبورغ ليست فقط ذات أهمية تاريخية.

عامي 1903-1904 انغمست روزا لوكسمبورغ في جدال مع لينين، حيث سبق لهما أن اختلفا على المسألة الوطنية (راجع/ي: روزا لوكسمبورغ والمسألة الوطنية)، على مفهوم بناء الحزب، والعلاقة بين الحزب ونشاط الجماهير (راجع/ي: الحزب والطبقة).

في عام 1904، وبعد “إهانة القيصر” حكم عليها بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، أمضت شهرا واحدا منهم وراء القضبان فقط.

عام 1905، مع اندلاع الثورة الروسية الأولى، كتبت سلسلة من المقالات والكتيبات للحزب البولندي، طورت فيها فكرة الثورة الدائمة، التي تم تطويرها بشكل مستقل من قبل تروتسكي وألكسندر بارفوس ولكن اقتصر تأييدها على عدد قليل من الماركسيين في ذلك الوقت. في حين كان البلاشفة والمناشفة، وعلى الرغم من الانقسام العميق بينهما، قد اعتقدوا أن الثورة الروسية كانت ستكون ثورة برجوازية، اعتبرت روزا لوكسمبورغ أنها ستتطور متجاوزة مرحلة الديمقراطية البرجوازية وإما أن تنتهي حتى يتولى العمال السلطة أو تصاب بهزيمة كاملة. وكان شعارها “ديكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الثورية”. (لم يكن عن عبث عندما ندد ستالين بلوكسمبورغ بعد وفاتها عام 1931 حين وصفها بأنها تروتسكية (1)).

ومع ذلك، أن تفكر وتكتب وتخطب عن الثورة لم يكن كافيا لروزا لوكسمبورغ. كان شعار حياتها “في البدء كان الفعل”. وعلى الرغم من أنها كانت بحالة صحية سيئة في ذلك الوقت، دخلت عن طريق التهريب إلى بولندا الروسية في أقرب وقت كانت قادرة فيه على ذلك (في كانون الأول/ديسمبر 1905). في ذلك الوقت كانت ذروة الثورة قد تلاشت. لكن الجماهير كانت لا تزال ناشطة، لكنها باتت الآن مترددة في وقت كانت فيه الرجعية تطل برأسها. كانت كل الاجتماعات ممنوعة، ولكن كان العمال ما زالوا يعقدون اجتماعاتهم في معاقلهم، وفي المصانع. كل الصحف العمالية كانت ممنوعة، ولكن صحيفة حزب روزا لوكسمبورغ كانت تظهر على نحو يومي، على الرغم من طباعتها سرا. في 4 آذار/مارس عام 1906 اعتقلت وسجنت لمدة أربعة أشهر، في البداية في سجن ومن ثم في قلعة. بعد ذلك أطلق سراحها، بسبب ضعف صحتها وجنسيتها الألمانية، وطردت من البلاد.

ثورة 1905 في روسيا قدمت لروزا أفكارا لتصور تخيلته منذ بضعة سنوات: أن الإضرابات الجماهيرية- السياسية والاقتصادية- تشكل عنصرا أساسيا في نضال العمال الثوري من أجل السلطة، وهذا ما يميز الثورة الاشتراكية عن كل الثورات السابقة. فبلورت عندها هذه الفكرة على أساس تجربة تاريخية جديدة (راجع/ي: الإضراب الجماهيري والثورة).
وعندما تحدثت في هذا الشأن خلال ندوة علنية، اتهمت بـ”التحريض على العنف”، وقضت شهرين آخرين في السجن، هذه المرة في ألمانيا.

عام 1907 شاركت في مؤتمر الأممية الاشتراكية الذي عقد في شتوتغارت. وتحدثت باسم الأحزاب الروسية والبولندية، مطورة موقفا ثوريا ثابتا ضد الحرب الامبريالية والعسكرة (راجع/ي: النضال ضد الامبريالية والحرب).

بين عامي 1905 و1910 زاد الانقسام بين روزا لوكسمبورغ والقيادة الوسطية للحزب الاشتراكي الديمقراطي، حيث كان كاوتسكي يمثل لسان حالها النظري. عام 1907 تخوفت روزا لوكسمبورغ من أن قياديي الحزب، على الرغم من اعتناقهم الماركسية، سيحجمون أمام وضع يتطلب عملا حاسما. وكانت الذروة عام 1910، مع قطيعة تامة بين روزا لوكسمبورغ وكارل كاوتسكي حول مسألة طريقة وصول العمال إلى السلطة. مذاك انقسم الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى ثلاثة أجنحة: الجناح الاصلاحي الذي تبنى بالتدرج سياسة امبريالية؛ وما يسمى بجناح المركز الماركسي بقيادة كاوتسكي (الذي تلقبه الآن لوكسمبورغ بـ “زعيم المستنقع”) الذي حافظ على راديكالية لفظية ولكن اقتصر عمله أكثر فأكثر على تبني البرلمانية في النضال؛ أما الجناح الثوري فكانت روزا لوكسمبورغ مصدر إلهامه الرئيسي.

عام 1913 نشرت روزا لوكسمبورغ عملها النظري الأكثر أهمية، “تراكم رأس المال: مساهمة في التفسير الاقتصادي للامبريالية”. كان هذا الكتاب من دون شك واحد من أكبر المساهمات الأصيلة للنظرية الماركسية الاقتصادية منذ كتاب رأس المال. بغناها المعرفي وتألق أسلوبها وتحليلها واستقلالها الفكري الواضح، كان هذا الكتاب، كما قال ميهرينغ، كاتب سيرة ماركس، الأقرب إلى كتاب رأس المال من أي عمل ماركسي آخر. المشكلة المركزية أنه يدرس بأهمية نظرية وسياسية شديدة: ما هي آثار توسع تمدد الرأسمالية إلى مناطق جديدة ومتأخرة على التناقضات الداخلية وعلى استقرار النظام (لمراجعة تحليلنا لهذا العمل: تراكم رأس المال).

في 20 شباط عام 1914 اعتقلت روزا لوكسمبورغ لتحريضها الجنود على التمرد. وكان أساس هذا الاتهام خطابا لها أعلنت فيه: “إذا كانوا يتوقعون منا أن نقتل أخانا الفرنسي أو غيره من الأخوة الأجانب، إذاً دعونا نقول لهم: “لا، تحت أي ظرف من الظروف”. في المحكمة تحولت من متهمة إلى مدعية، وخطابها الذي نُشِرَ لاحقا بعنوان “العسكرة والحرب والطبقة العاملة”، هو واحد من أكثر الإدانات الاشتراكية الثورية الملهمة بوجه الامبريالية. وحكم عليها بالسجن لمدة سنة ولكنها لم تعتقل فورا. وبعد مغادرتها قاعة المحكمة ذهبت فورا إلى لقاء جماهيري كررت خلاله دعايتها الثورية المناهضة للحرب.

عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، ارتد، عمليا، معظم قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لتبني ميلا وطنيا. في 3 آب/أغسطس عام 1914، قررت المجموعة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي التصويت لصالح قرار حرب حكومة القيصر. من بين 111 نائبا أظهر 15 نائبا فقط رغبتهم بالتصويت ضد الحرب. ومع ذلك، وبعد أن تم رفض طلبهم الحصول على إذن للقيام بذلك، وامتثلوا لانضباط الحزب، وفي 4 آب/أغسطس صوتت كامل المجموعة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي لصالح الحرب. بعد بضعة أشهر، في 2 كانون الأول/ديسمبر، خرق كارل ليبكنخت الانضباط الحزبي منحازا لضميره. كان صوته الوحيد ضد الحرب.

وكان قرار قيادة الحزب هذا بمثابة الضربة القاضية لروزا لوكسمبورغ. ومع ذلك، قالت أنها لن تفسح مجالا لليأس بأن يتسرب إليها. في اليوم نفسه، 4 آب/أغسطس، وفي وقت احتشد فيه نواب الحزب الاشتراكي الديمقراطي تحت لافتة القيصر، التقت مجموعة من الاشتراكيين في شقتها وقررت أن تباشر النضال ضد الحرب. المجموعة التي قادتها روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت وفرانز ميهرينغ وكلارا زيتكن أصبحت لاحقا عصبة سبارتاكوس. لمدة أربع سنوات، أغلبها من السجن، واصلت روزا قيادة وإلهام وتنظيم الثوار، محافظة على ارتفاع راية الاشتراكية الأممية (للمزيد من التفاصيل حول سياستها المناهضة للحرب، راجع/ي: النضال ضد الإمبريالية والحرب).

اندلاع الحرب قطع روزا لوكسمبورغ عن الحركة العمالية البولندية، ولكنها كانت راضية بعمق من واقع أن حزبها البولندي بقي مخلصا لمبادئ الاشتراكية الأممية.

وكانت الثورة الروسية في شباط/فبراير 1917 تحقيقا لسياسة روزا لوكسمبورغ المعارضة للحرب والمناضلة من أجل الإطاحة بالحكومات الامبريالية. بحماس شديد تابعت مجريات الأحداث من السجن، ودرستها عن كثب من أجل استخلاص الدروس للمستقبل. بدون تردد، أعلنت أن نصر شباط ليس نهاية النضال، إنما بدايته، وأن وحدها سلطة العمال ستضمن السلام. من السجن أصدرت النداءات المتتالية تدعو فيها العمال والجنود الألمان حتى يحذوا حذو إخوانهم الروس، وإسقاط النظام الحاكم والرأسماليين، وبالتالي، وفي وقت يخدمون فيه الثورة الروسية، عليهم في الوقت عينه منع أنفسهم من النزف حتى الموت تحت أنقاض البربرية الرأسمالية.

وعندما اندلعت ثورة تشرين الأول/أكتوبر رحبت روزا لوكسمبورغ بحماسة شديدة، مشيدة بها بأشد التعابير. في الوقت عينه، لم تعتقد أن الموافقة دون نقد لكل ما فعله البلاشفة سيكون في خدمة الحركة العمالية. وتوقعت بوضوح أنه إذا بقيت الثورة الروسية معزولة فإن عددا من التشوهات سيشل تطورها؛ وعند بداية نشوء روسيا السوفياتية، أشارت في وقت مبكر جدا إلى مثل هذه التشوهات، وخاصة بشأن مسألة الديمقراطية (راجع/ي: نقد روزا لوكسمبورغ للبلاشفة في السلطة).

في 8 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1918 حررت الثورة الألمانية روزا لوكسمبورغ من السجن. بكل طاقتها وحماسها ارتمت في أحضان الثورة. للأسف كانت قوى الرجعية قوية. انضم الجناح اليميني من قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وجنرالات الجيش القيصري القديم للقوى القامعة للطبقة العاملة الثورية. فقتلوا الآلاف من العمال؛ وفي 15 كانون الثاني/يناير عام 1919 قُتِل كارل ليبكنخت. في اليوم نفسه، حطم أحد الجنود بكعب بندقيته جمجمة روزا لوكسمبورغ.

بمقتلها خسرت الحركة العمالية الأممية واحدة من أنبل أرواحها. انطفأ “أجود الأدمغة من بين الخلفاء العلميين لماركس وإنجلز”، كما قال ميهرينغ. في حياتها ومماتها أعطت كل شيء من أجل تحرر الإنسانية.

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved