مع الشاعر جواد كاظم غَلوم في ثلاثية الطير-2

2012-04-05
بَغا//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a096c9c8-c700-4e85-892a-bc27f52e1532.jpeg ث الطير وطائر الميمك والسوذق

عند الإنتقال من "بغاث الطير" الى "طائر الميمك"، يُلحَظ تغير واضح في الشعرية متمثلا بالعبارة الشعرية التي بانت مكثفة، والسرد الشعري الذي هو دَفَقٌ من إرهاصات ذاتية حزينة، كما أن الجانب الصوتي الشعري بدا بالأرتفاع بفعل سيادة التفعيلة "فاعلن" وظهور للقوافي المتنوعة في عدة مواضع ،كل ذلك بشكل انسيابي لاتكلف فيه. وفي الجانب العاطفي تحول الإنفعال الغاضب الى لغة هامسة حزينة لا سيما في الحركة الأولى ، مع مخيلة خصبة لم تتراجع رغم طول الشوط! إن هذه التغيرات ترجع الى تغير الطيور، من طيور شريرة متطفلة تعيث في الأرض فسادا، الى طائر جميل صادح هو "طائر الميمك" الميمون.
هذه الحوار بين الميك" والشاعر في حقيقته ليس حوارا بقدر ما هو تداعيات ذاتية مستمدة من الواقع المعاش للشاعر نفسه، ولئن بدا في الأمر غرابة في شعرنا العربي فليس الأمر كذلك مع الشاعر الرومانسي الإنكليزي برسي بيش شيلي في رائعته "الى قبّرة"، فالقبرة التي عبّر عنها الشاعر ب"الروح المتألقة" التي تنطلق نحو السموات العُلى كوهج من نار ، ثم تتلاشى مخلفة غناءها الذي يبقى مسموعا كما وردة قابعة بين الأوراق ماانفك عطرها يضوع وهي لا تُرى، فالقبرة هي الشاعر المبتهج، أما "ميمك" جواد كاظم غلوم فهو الشاعر الطائر المحزون المهاجر الذي عاد وليته ما عاد!
هذا الطائر الجبلي يؤوب الى دياره في الربيع بعد انقشاع الثلوج يبتني عشا له ولفراخه، فيستبشر الناس بأوبته، لكنه لم يستبشر ولم يتفاءل كما اعتاد فقد مر على" أرض السواد" ولم تكن سوداء للرائي من الصحراء بسبب النخيل سيد الشجر أو الحقول والبساتين بل سوداء لما ينبعث منها من دخان وسخام كما لم يعد ماء دجلة خير ماء ولا الفرات سائغا عذبا فراتا، بل كل شيء ملوث بفعل "بغاث الطير" من البشر التي عاثت في الأرض فسادا وأكلت السحت ولم تشبع! فلنسمع الميمك المؤدب الهامس كيف يشكو آلامه الى الشاعر:
طائر الميمك الجبلي/زارني في الصباح/نقر الباب خفيضا/كمن يستحي في الدخول/يستحي أن يقول الكلام المباح/واستراح ثوانٍ/وأنشدني مقطعا من اللحن /ما هزني/ لم يرجًّ كَياني/سكب الصوت في مسمعي ناشزا/وقال بصوت كسير:/الزعيق يحاصرني أينما رحت يا سيدي/النهيق يجلجل في أذني كالطبول/أنت ياأيها الشاعر المُكبُ على الكلمات/تعقر صوتي/وبُحَّ لساني/سئمت الحياة/أري الجنجويد تصول بحقلي/تعيث فسادا بدارة أهلي دلَّني عن مكان بعيدأمين/شردتني الأماكنُ/بنيانها كالقبور/وأفناننا كالأفاعي تصير/...فأشجارنا حملت حنظلا/حسكا شائكا/ربما يُسعف الشعرُ حنجرتي/إنما الشعر والشدوُ خِلاّننا التوأمان/فأنا متعب من الشدو في وطن لايُحبُ الغناء...يطاردني كاسر أهوجٌ/أينما طِفت يشتمني/يحيل الرياض هشيما/تصير الورود حصى/والينابيع نافورة من دماء.
إن أنسَ لا أنسَ، منظرا شاهدتُه خلال حرب الخليج الثانية، وقد استحالت مياه الخليح الى سائل يُشبه القطران، بينما انتشرت جثث أنواع من الطيور النافقة على الشاطيء، لاح للمصور طير يسبح بثقل حتى وصل الشاطيء بشِق الأنفس، خرج من الماء/القطران حاول أن ينفض جسمه فلم يقوَ على ذلك حاول أن يمشيَ، بدا سكرانا وما هو بسكران، وقف يدور برأسه ينظر الى الماء الذي استحالت زرقته سوادا، ينظر الى زملائه القتلى من الطيور والأسماك بدهشة، ولسان حاله يقول: ياله من عالم متوحش! ثم جثا على الأرض دون حراك!
في الحركة الاولى يلمس القارئ إضافة لما سبق التوافق اللفظي الذي أعطى إيقاعاتٍ وأصداءً موسيقية منسجمة من الصور والتراكيب البلاغية مما يُضفي على النص الشعري شفافية حزينة مؤثرة... تأتي مفردة "جنجويد" للمرة الثانية بعد "بغاث الطير" مشيرة الى عصابات القتل والسرقة والإغتصاب، التي ارتكبت جرائمها في دارفور بحق الناس الأبرياء العزّل.. والمفردة على غرابتها أدت مهمتها بفاعلية داخل النص، يُقال أن هذه المفردة أطلقتها إحدى قبائل الجنوب هناك على هذه العصابات التي كانت تمتطي الجياد وتعني "جن الجياد".
نعم سيدي الطائر لا أحد يحب الغناء في بلد الشعر والغناء فقد حل اللطم والنوح:
بين حين وحين/أرى غبرة في السماء/أرى كدرا في مرايا الغناء/....مرة في غروب كئيب/...سمعت فحيحا/يحط الرِّحال بقربي/تملكني الخوفُ/وارتعد القلبُ رعبا/تصاعد في النحيب/رايت الأفاعي تأكل نسلي/تعيث ببيتي الصغير خرابا/رياحيني أضحت رمالا يبابا/سمائيعلاها السخام/وجلدي حواه الجذام...
هناك تكرار لبعض المفردات والصور، كما في "السخام" أو مشاهد الدمار على لسان اللقلق، وعلى لسان الصقور، وعلى لسان السوذق.. ليس هذا النوع من التكرار مملا بل هو تكرار فاعل مقصورد أراد منه تعميم الخراب على الإنسان والحيوان والشجر وجاء بجمالية عالية يشفع له ثراء في المفردات وتمكن في التصوير وتنوع في الأيقاعات وانتقال في التفعيلات منسجم مع الجانب المعنوي وبحبكة فنية عالية. ثم نجد أن الشاعر جواد كاظم غلوم قد أحسن "إسكات" طائره الجميل بتخلص حسَن، وبإيجاز بليغ، إما أن تستمر بالصدح والغناء رغم عوامل الهلاك حتى وإن بُح صوتُك أو أن تُؤثرَ العافية بأن تنِزعَ ريشَك وتلبسَ الجُبّة وتغطي عُرفك بعِمَّة وتنوح مع النائحين فتسلم بريشك وقد تصبح مسؤولا أو حاكما فعندئذٍ لا تقرب الأفاعي فراخك!! فلنستمع الى الخاتمة:
أشرت إليه ..تعال صغيري/أترضى جواري؟/أعلمك الهزج والبوح في الظلمات/نصير معا ناعقين على الطرقات/نؤم القبور/ونتلو التسابيح والصلوات/نرتل أدعية العهر والفسق للميتين/نرتدي عِمّة الزيف للنائحين/زجلبلبنا من مخيطِ الشياطين والمارقين،هكذا سنغدو معا سيِّدين/من دعاة الصلاح/نجيد البكاء والنواح.
هل هناك ختام هادف أجمل من هذا؟
-للموضوع صلة-

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved