أول الكلام:
بين يديّ كتاب هام وإن قلت أنه فائق الأهمية ما جافيت الحقيقة بل عانقتها، لأنه يتعدى السيرة الشخصية الى التأريخ والسياسة والى الأدب والى أدب الرحلات تحديداً وكذلك الى الشعر والنثر، معنى هذا أن صاحبه أديب ومؤرخ وضع إصبَعه على محطات جدّ هامّة من تاريخنا العربي الإسلامي، تناولها بمنهجية جديدة ومحّص الأحداث تمحيصاً وفحصها فحصاً دقيقا، وخرج بنتائج هامّة أثارت ردود فعل متفاوتة ودافع عن آرائه وأحسن الدفاع بالحقائق الدامغة وأسكت أصحاب اللغط العالي فصمتوا صمت الأموات ! وهو سياسي خاض دروب السياسة بشجاعة ثم هجرها بعد أن نقد السياسة وكتب عن الساسة الشرفاء وعن الساسة العملاء بالاسماء الصريحة، ولم تأخذه في الحق لومة لائم، وهجرها غير مأسوف عليها ولم يؤلف فيها أي كتاب ! وزد على ذلك هو رحالة رائد شرّق وغرّب وهو محقق ثبت .. وهو شاعر وناثر منذ نعومة أظفاره؛ أفيحق لنا أن نصفه وننصفه بلقب علّامة، وهو الموسوعي الفذ ! وقد ألّف أربعة وثلاثين كتاباً من غير المقالات والبحوث التي كتبها مذ كان في الخامسة عشرة في أمهات المجلات اعتباراً من "العرفان" اللبنانية و "الرسالة" المصرية و "العربي" الكويتية ...
***
الكتاب هو " حلٌ وترحال" وكنت قد انتويت أن أكتب عن هذا الكتاب قبل اليوم بنحو عشرين عاماً، وقد سجلت في أوراق متناثرة ثم نقلتها الى الحاسوب حين أمتلكت الأول، وكلما قرأت طرفاً منه رحت أدون بعضه، وكلما يحين وقت الكتابه عنه تأتيني "جائحة" عرضية فتلهيني عنه وأعيد المواصلة وظللت أكتب وأنقطع تلهيني عنه قراءآت النتف وكتابات هي الأخرى تُشبه النتف، حتى اجتاحت الحاسوب "جائحة" كبيرة فخمّدت أنفاسه وأتت على كل ماكتبت .. فعقدت العزم من جديد بفضل جائحة خبيثة اسمها كوفيد-19 ألزمتني الدار وغدوت حبيسه، فرجعت إلى الكتاب أقرأ وأدوّن ما أراه مهماً، خاصة عن العراق في الاربعينات والخمسينات !!
والكتاب يشمل قسمين هما "الحِل" ويشمل نحو ربع الكتاب الأول ويتناول حياته من المولد في دمشق وانتقالة مع الوالد بين سوريا وجبل عامل، فلسوريا رحلة الشتاء ولجبل عامل من لبنان وفي قرية "شقرا" رحلة الصيف وهذه الأخيرة هي موطن الأهل والأجداد، وترى أن "الحِل" هو رديف للمكوث والإستقرار فالبلاد مع فلسطين هي بلاد الشام !
أما الترحال فهو السفر خارج بلاد الشام، وكان الغرض بين السياحة الهادفة أي ليس للترويح عن النفس وحب الإطلاع وحسب وإنما للتعرف على أحوال البلدان ودراسة أحوالها، وهناك هدف أهم خاصة عند زيارته لبلدان الشرق والبحث والتنقيب في أمهات الكتب ومظانها الضرورية لبحوثه في علم الرجال وفي التاريخ وفي الشؤون الإسلامية وهذه الرحلات :
العراق الذي زاره ثلاث زورات : عام 1927، 1938، و1945 والزيارتان الأخيرتان للمكوث والعمل كمدرس، وفيهما أهم ماكتب عن أحوال العراق السياسية والإجتماعية والإقتصادية .. وهي التي تعنيننا من هذا الكتاب .
وزيارات متعددة إلى إيران : زيارتان قبل الثورة عام 79 وثلاث زيارات بعدها .
ونصيب كل من الهند والباكستان زيارة .
ورحلاته الأفريقية : مصر (عدة مرات) والسودان وأثيوبيا وتنزانيا وكينيا (بضمنها جبال كليمنجارا) وتونس ..
وزار أمريكا اللاتينية ..
نشأ حسن الأمين في بيت علم وأدب، فقد نهل من علم أبيه العلامة محسن الأمين (1865-1952)، مؤسس المدرسة المُحسنية في حي الأمين من دمشق، التي تعلم فيها الطفل حسن الدروس النظامية الحديثة، ومن أبيه الفقه وعلوم اللغة من نحو وصرف والآداب، وقد أبدى الطفل ميلاً شديداً إلى الشعر والآداب واللغه والتاريخ ودرسها بشغف، وأبدى نفوراً من الفقه وأصوله ومن الرياضيات ولم يُحبب دراسة أية لغة أجنبية ! وكان والده رجل الدين المتبحر حازماً ومرناً متسامحاً مع أولاده مؤمناً بمقولة الإمام علي مخاطباً الآباء " لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم" فلا غرابة أن يكون للسيد حسن أشقاء التزموا دراسة العلوم والنهج الماركسي !
ومن الضروري بمكان التطرق إلى حادثة ذكرها وسمعتها منه في قناة "المنار" قبل وفاته بعام أو عامين (توفي عام 2002) حيث في إحدى زياراته لوالده عندما كان طريح الفراش في أحد مستشفيات لبنان، وقد أحس الوالد بقرب أجله، فمدّ يده من تحت الوسادة وأخرج ورقة وأعطاها لنجله وكانت الدموع تترقرق في عينيه فقرأها الإبن :
بكيتُ وما بكيتُ لِفَقد دنيا – أفارقها ولا خلّ أليفِ
ولكني بكيت على كتاب – تُصنِّفه يداي الى صنوفِ
سيمضي بعد فقداني ضياعاً – كما يمضي شتاء بالخريفِ
فتعهد للوالد أن يتم المهمة، وقد كان الوالد قد أنجز من موسوعته "أعيان الشيعة" حتى حرف السين الذي لم يتمه، فتعهد ابنه أن يكمل الموسوعة وينجز ستة أجزاء وكلفته أن يُنظِّم نثاراً من مسوَّدات الوالد وكلفته أسفاراً ورحلات لكي يتعنى إلى مكتبات عالمية ويتزود كم شتى المصادر الهامة لترجمة أعيان الشيعة ويطبعها، وهو عمل لو بقي عليه لكفاه أن يوصف بالمحقق الثبت والباحث النزيه ..
ولست بصدد استعراض منجزات السيد حسن الأمين إنما لا بدّ أن أذكر موسوعته "دائرة المعارف الإسلامية الشيعية" في ثلاثين جزءاً، فهو عمل عظيم تنؤ بتأليفه لجنة من الباحثين، أنجزه لوحده، وكان السبب الذي دفعه إلى هذا العمل هو كثرة الأخطاء البريئة وغير البريئة في "دائرة المعارف الإسلامية" التي اعتمدت على مؤلفات المستشرقين وعلى مؤلفين معروفين في تشويه التاريخ الشيعي لأغراض سياسية ومذهبية ضيقة، فكان في عمله كشف الأخطاء وتصحيحها بمنهجية علمية صارمة وموضوعية ..
لا يسعني الحال أن أستعرض أو أنوِّه على الأقل ببعض مؤلفاته الأخرى :
الغزو المغولي، صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين، الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي، جنكيز وهولاكو والغزو المغولي للبلاد الإسلامية، مقالات في التاريخ والأدب، مظاهرات وثورات وحروب عربية.......الخ
أما الكتاب الذي نحن بصدده "حِلٌ وترحال"، فقد صدر عن دار نجيب الريس في طبعته الأولى في بيروت سنة 1999 . وسنعرض لرحلاته العراقية الثلاث :
رحلته الأولى عام 1927:
لاتنطوي هذه الرحلة على أهمية كبيرة، فقد كان في عمر التاسعة عشرة قد أنهى دراسته النظامية وكان والده يريد له أن يكمل دراسته الدينية ويشِدُّ الرحال إلى النجف، التي هي منارة تجذب طلاب العلوم الدينية ويؤمونها من شتى دول العالم الإسلامي، ألم يدرس فيها والده لعشر سنوات حتى رجع مرجِعاً مهماً للشيعة في بلاد الشام ؟!
لبّى رغبة والده الشيخ ووصل الشاب حسن الأمين بغداد واستقبله بعض معارف والده وتعجب لمرأى الفتى الأفندي المعتمر الطربوش، فاقترح عليه ألا يذهب للنجف بهذا الحال فاعتمر عقالاً وغترة بيضاء، وفي النجف بدا وحيداً بين طلبة العلم بهذا الزي الغريب فاعتمر العمة السوداء ولم يبق في النجف سوى ثلاثة أسابيع وجدها كافيه فالتقط صورة وحيدة بالعمة والعباءة هي الصورة الوحيدة له بهذا الزي الديني، ونفر من النجف ومن علومها الدينية وعاد أدراجه الى لبنان والشام ذات الطبيعة الخلابه والهواء العليل بدلا من مدينة صحراوية بكل ما للكلمة من معنى ولكن فيها معاهد العلم والمكتبات مزدانة نضرة عامرة بأمهات الكتب والموسوعات بكل ما للكلمة من معنى !
- للموضوع صلة –
في السادس عشر من نيسان/أبريل 2020