أستاذ في معهد الملكة عالية :
مما آخذه على الأستاذ الأمين في كتابه هذا، أنه لم يعطِ التواريخ حقها، وأظن السبب في ذلك هو حرصه ألا يكون كتابه هذا كتاب مذكرات، والحال هو كتاب كشكول فيه سيرة ذاتية وتأريخ وسياسة وأدب وشعر ونثر وفلسفة وأدب رحلات ! وكل هذا مختلط بانسياب وحسن انتقال كبحر هادىء التموج لا تشعر بالتكلف في الإنتقال من مادة الى أخرى.. وعلى القارىء أن يكون فطناً ليصل إلى التواريخ من الأحداث أو من قرائن الأحداث وارتباطها وتفاعلها مع بعضها البعض..
يعود السيد الأمين إلى بغداد في عام 1945 أستاذاً في معهد الملكة عاليه (كلية التحرير لاحقاً ثم كلية البنات أخيراً).. وأستاذاً أيضاً في دار المعلمين العالية (كلية التربية) التي تخرج منها صفوة شعراء العراق ومثقفوه وهي قلعة اليسار طلبة وحتى أساتذة.. وفي كلية الملكة عالية قررت الطالبات أن يقمن بتظاهرة تضامناً مع الشعب الفلسطيني الذي بدأت تلوح مؤامرة الإنكليز وتحالفهم مع الصهيونية باستقبال يهود العالم وتوطينهم تنفيذا لوعد بلفور.. فدعته الطالبات للمساهمة، واشترط عليهن أن تكون التظاهرة وهتافاتها وشعاراتها مخصصة لفلسطين فوافقن؛ وسارت المظاهرة منتظمة من الشابات العراقيات وهن يرددن الهتافات والأُستاذ في طليعة التظاهرة، ثم حانت منه التفاتة إلى الخلف وراح يتفقد المتظاهرات وأذا بهن يهتفن : ماذا تريدون ؟ الحرية والخبز! وبسقوط الحكومة العميلة للإنكليز!! فخرج الأُستاذ من طوره وغيرت الطالبات الهتاف إلى فلسطين ولم تجدِ محاججتهن بأن الحكومة عميلة لبريطانيا وبريطانيا حليفة الصهيونية، وشخصياً أرى السيد الأمين كان متعاطفاً مع النظام الملكي وظل كذلك حتى رحيله عن دنيانا !!
ومن وحي المظاهرة التي نظمها مع الطالبات ولدت هذه القصيدة التي أعتبرها من أروع ما كتب عن المرأة ونضالها ومن أجمل وأصدق قصائد الشاعر حسن الأمين وأكثرهن خفّة :
ردد عليّ حديثهنّه – وأعِد لسمعي ذكرهنّه
يا من يسائل كيف هنّه – أوما رأيت جموعهنه ؟!
لمّا مشين غواضباً - يُذكي العزائمَ مشيهنه
متوثبات لاتلين – على الخطوب قناتهنه
أكرِم بهن وقد نفر – نَ ثوائراً أكرم بهنّه
هِجن الحماسة فالتظت – منّا النفوس المستكنّه
ومشت رجالٌ للنزال – يثيرها إنشادهنه
أيهٍ فلسطينَ الشهيدة – لو سمعتِ هتافهنه
الخ.. والقصيدة طويلة .
وللجواهري ما يجاري هذه القصيدة بمناسبة يوم المرأة العالمي حيث قال:
حييتهن بعيدهنه – من بيضهن وسمرهنه
الأمين وراء شهرة نازك الملائكة ونقده لأزهار السيّاب الذابلة :
إنها فترة نهاية الأربعينات وهناك تململ شعبي جديد وإن شئت مخاض من قرائح شعراء واعدين في دار المعلمين العالية، نازك الملائكة التي تخرجت لتوها، وبدر شاكر السياب في قسم اللغة الإنكليزية، وعبد الوهاب البياتي ولميعة عباس عمارة، ثم بلند الحيدري، كان الأستاذ الأمين يتردد على التجمعات الأدبية والمقاهي ناهيك عن كونه استاذاً في دار المعلمين العالية يتابع فيها الطلبة الشعراء.. وكان يتردد على مقر مجلة أسبوعية – للأسف لم يذكر اسمها- في بغداد يحررها نخبة من خريجي الجامعات الأمريكية، وهو جالس بينهم ورئيس التحرير يفرز الرسائل وفض إحداها وقال معلقاً مازالت هذه البنت تشغلنا برسائلها وما تزعم أنه من الشعر، ثم رمى الرسالة في دُرج مكتبه، مخصص للمهملات !
لندع الأمين يصف الحادثة ص 195: " فلما سمعت منه كلمة (شعر) طلبت منه إعطائي الرسالة لعلمي بانعدام خبرته بالشعر، ولما أخرجت الرسالة من ظرفها وبدأت اقرأ ما فيها وإذا بي أمام شعر وأرقاه منطلق بأسلوب جديد رائع . فقلت له أعطني ما عندك من أمثال هذه الرسالة، فأخرج رسالتين، كانتا تحتويان على مثل ما احتوت عليه الرسالة التي بيدي من الشعر العذب الرقيق الجديد الأسلوب ." .
فصمم على إرسال القصائد الثلاث إلى لبنان حيث تنعدم المجلات الأدبية في بغداد ولو أرسلها إلى الجرائد لكان مصيرها الإهمال، إذن أرسَلها الى مجلة "العرفان" الذائعة التي يصدرها الشيخ عارف الزين، التي رعت الأمين ذاته مذ كان عمره خمسة عشر عاماً، ورعت الشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ علي الشرقي وغيرهم.. وهكذا وصلت "العرفان" إلى بغداد تحمل قصائد الشاعرة الجديدة وشعرها الجديد الذي هزّ الأوساط الأدبية، لا في العراق وحسب بل ديار العرب التي تصلها "العرفان"! ثم أخذت قصائد نازك الملائكة تترى في "العرفان" ترسلها الشاعرة بنفسها، وبذلك واصلت مسيرها نحو الشهرة..
كان المؤلف حسن الأمين أستاذاً في دار المعلمين العالية حيث كان السياب يَدرس، لكنه لم يكن أحد طلبة الأقسام التي يدرّس فيها الأمين، وكان معروفا على صعيد الكلية وزادت شهرته حين أصدر ديواناً صغيراً " أزهار ذابلة".. ووقعت الأزهار الذابله بيد الأستاذ حسن الأمين ليعجب بها أيما إعجاب، ويكتب عن هذا الديوان نقداً " فإذا بي أمام شاعر يُنبىئ ديوانه هذا بأنه سيكون من فحول الشعراء المجددين، فكتبت تعريفاً به وبديوانه، مقالاً في جريدة (الأخبار) اليومية، كان أول ما يُكتب عن السياب، فلفت المقال الأنظار إليه وأخذ يتألق يوماً بعد يوم حتى وصل إلى ما وصل إليه" .
والمقال بعنوان " ديوان أزهار ذابلة"! أقتطف أطرافا منه :
" "ديوان شعر ملؤه غزل" هذا أول شطر يستقبلك وأنت تفتح الصفحة الأولى من ديوان الشاعر الملهم بدر شاكر السيّاب الذي شاء أن يسميه " أزهار ذابلة" فتقرأ ما تقرأ هذا الشطر الجميل فتتساءل في نفسك أكان تعريفاً هذا بالديوان ومقدمة له ؟!"
"أجل ديوان شعر ملؤه غزل ولكن أي غزل إذاك التقليدي الفارغ الذي لايزال يطغى حتى اليوم في قرائح الكثيرين من شعرائنا ؟ أم ذاك الغزل الداعر الذي يباهي به بعض نظّامينا، أم ذلك الغزل الباهت الذي يحاول أن يصوّر فيفشل في التصوير؟!" .
ثم يستمر ليبين لنا طبيعة الغزل ويذهب به بانه غزل عذري وهّاج صادق بلغة مكثفة معبرة " غزل مشبوب يتحدث إليك حديث الروح للروح لا حديث الجسد للجسد، حديث العاطفة للعاطفة لا حديث المادة للمادة، يحدثك عن القلب والضمير لا عن اليد واللسان، عن اللواعج والهواجس لا عن النزوات والعربدات" .
ويرى الناقد الأستاذ حسن الأمين أن السياب كان حاذقاً في أن يضع هذه القصيدة في أول الديوان لتعرف به وتختصر المسافة لتعرف بكل شعره، وكان الأمين قد وقعت هذه القصيدة في يده ودخلت قلبه قبل أن يرى الديوان وقبل أن يتعرف على الشاعر! وقد وقع هذا البيت في نفس الناقد ودخل روعه لفرادته وحسن سبكه وهو ينطلق من خاطر الشاعر القلق في عاطفته ومخياله :
ولربما قرأته فاتنتي – فمضت تقول : من التي يهوى؟!
وتمضي به خواطره القلقة التي تولد خواطرَ أُخرى في سلسلة لاتنقطع من الأسئلة هي أقرب إلى المونولوج الذي في تفاعلات تشبه التفاعلات المتسلسلة في الكيمياء الذرية :
ديوان شعر رُبّ عذراءِ – أذكرتها بحبيبها النائي !
ولكنني ياسيدي الأستاذ الناقد أرى في الديوان لوعة جسد صاحبته وحلمه بالنهود المُرتجّة وفق المثل العراقي "هي روح أم خشبة ؟!" فهو يقول أيضاً :
لما يحين النّوح والشكوى - كلٌ تقول من التي يهوى ؟
و سترتمي نظراتهنّ على الصـ - ـفحات بين سطوره نشوى
و لسوف ترتج النهود أسىً - ويثيرها ما فيه من بلوى
ولربّما قرأته فاتنتي - فمضت تقول : من التي يهوى ؟
مشاكل الطلبة :
يروي الأستاذ المشاكل التي تواجه الطلبة خاصة عندما لا يكون لهم رأس قوي يسندهم في مواقع الدولة، فقد كتبت له طالبتان متفوقتان من الموصل عينتا في مواقع بعيدة عن مدينة الموصل حيث يسكنّ بينما عُيِّنت بفعل الوساطة طالبات ذوات معدل منخفض في مركز المدينة، وقد اهتز ضمير الأستاذ حسن الأمين ووقف مع المظلوم بوجه الظالم وعرض مشكلتهن عل الوزارة حتى أنصفتهن الوزاره بجهده !
ويروي حين عين ضمن ثلاث أساتذة في لجنة قبول الطالبات في الكلية، وكانت اللجنة تتألف من عراقي ومصري ولبناني هو الأستاذ الأمين، وقابلوا من بين الطالبات طالبة كانت لبقة ومثقفة أجابت على كل الأسئلة بشكل مدهش دللت فيه على طول باعها وثقافة عامة متنوعة، بيد أنها تلثغ بحرف السين ليكون ثاءً فقرر الأستاذ العراقي حرمانها وأصر على الرفض وداجنه المصري إيثاراً للعافية وأصرّ الأستاذ الأمين وحضّر استقالته، وعندما تولّى كتابة المقبولات باعتباره أمين اللجنة جعلها من المقبولات وعلق أسماء المقبولات وكانت منهن، فجن جنون الأستاذ العراقي ولكن بعد فوات الأوان !!
وأما القبول في البعثات فقد كان للوساطات فيه دور وأذكر من ضحيته كان الأستاذ على الوردي المتفوق حرم من البعثة وحجز المقعد لغيره من أبناء الذوات، فاشتكى وتهيأ له في الوزارة من يسنده لنيل حقه في البعثة !!
للموضوع صلة - -
30 نيسان 2020