أستضاف نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي الدكتور خالد يونس خالد في محاضرة حول موضوعة "فرضية طه حسين حول الشعر الجاهلي/ الأدب الجاهلي والتحقق من منهجه النقدي وتطبيقاته في صحة الشعر الجاهلي" يوم الجمعة 21- تشرين الثاني/نوفمبر2008، على قاعة النادي في منطقة آلفيك - ستوكهولم.
قدم الشاعر جاسم الولائي الأستاذ المحاضر مرحباً به وبالحضور شاكرا له تلبية الدعوة، حضر الأمسية جمهور النادي وضيوفه من المهتمين بالشعر الجاهلي.
تناول الدكتور خالد يونس خالد عدة محاور، مبتدأ محاضرته عن دراسة طه حسين في الشعر الجاهلي، ولا سيما ما جاء في كتابيه "في الشعر الجاهلي" و "في الأدب الجاهلي"، وأوضح أن الدراسة لم تنحصر في كونها نظرة أدبية في الشعر الجاهلي، إنما دراسة عن الحياة السياسية والدينية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية العربية في الجاهلية وبعد ظهور الإسلام، وما لها صلة بالشعر واللغة. يقول طه حسين: نحن بين إثنين، أما أن نقبل في الأدب وتاريخه ما قال القدماء، لا نتناول ذلك من النقد إلاّ بهذا المقدار اليسير الذي لا يخلو منه كل بحث والذي يتيح لنا أن نقول: أخطأ الأصمعي أو أصاب. وإما أن نضع علم المتقدمين كله موضع البحث بل أريد أن أقول الشك. أريد ألاّ نقبل شيئا مما قاله القدماء في الأدب وتاريخه إلاّ بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان. الفرق بين هذين المذهبين في البحث عظيم، فهو الفرق بين الإيمان الذي يبعث على الاطمئنان والرضا، والشك الذي يبعث على القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود.
ويقول: أفاجؤك أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححتُ في الشك حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلاّ يكون يقينا فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شئ، وإنما هي منتحلة مختلفة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. إن ما تقرؤه على أنه شعر أمرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شئ، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسدين والمحدثين والمتكلمين.
إن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. إذا أردتُ أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشى وزهير، لأني لا أثق بما ينسب إليهم، وإنما أسلك إليها طريقا أخرى، وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها في القرآن، فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي. ونص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه.
من الصعب فهم نظرة طه حسين، أو نظريته أو فرضيته كما يسميها البعض، دون الرجوع إلى دراساته الأخرى. وهو يقول: "فكما أنك لا تستطيع أن تزعم أنك تستخلص من هذا الكتاب، (يعني كتابه مع المتنبي) صورة صادقة لي تطابق الأصل وتوافقه، بل لا تستطيع أن تزعم أنك قادر على أن تستخرج من كتبي كلها صورة صادقة لي تطابق الأصل وتوافقه". والمعروف عنه أيضا تردده بين الأفكار بفعل ثنائيته الفكرية بين الشرق والغرب، والإسلام والعلمانية، فيقول: "أنحن عبيد اللحظات لا نملكها ولا نستطيع تصديها ولا دعاءها ولا ردّها عنّا حين تقبل علينا".
إذاً من أجل أن نفهم نظرة طه حسين في الشعر الجاهلي علينا أن نقف عند بعض النقاط الأساسية والتحقق منها:
إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في بشئ، وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام. ويورد طه حسين خمسة أسباب تثبت، من وجهة نظره، صنع كثرة الشعر الجاهلي بعد الإسلام. وهي:
السياسة والدين والشعوبية والقصص والرواة.
ويقصد بالسياسة: العصبية القبلية. بسبب الصراع القبلي أرادت قبائل كثيرة من بين هذه القبائل بعد الإسلام أن تجعل لنفسها مجدا قديما فلجأت إلى وضع أشعار نسبتها إلى الشعراء الجاهليين.
أما السبب الديني، فهو أن أتباع بعض الديانات الأخرى مثل اليهودية والنصارى وضعوا في عصر الإسلام شعرا نسبوه إلى الشعراء الجاهليين.
أما السبب الشعوبي فهو أن بعض الشعراء أو الرواة في العصور اللاحقة لعصر الإسلام وضع شعرا يمجد الماضي الفارسي، ونسب هذا الشعر إلى شعراء جاهليين للتقرب من بعض الوزراء الفرس كالبرامكة في عصر العباسيين.
أما القصاص فقد وضعوا شعرا يمجد الأمجاد القديمة لبعض القبائل، وأحيانا لقبائل كانت بائدة.
أما الرواة، فيعتبر أحد الأسباب الرئيسة في انتحال الشعر الجاهلي، وهذا السبب يعود إلى فساد الرواة. وخص طه حسين حمادا من الكوفة وخلف الأحمر من البصرة بكثير من الشك والاتهام في الوضع والانتحال، لجعل هؤلاء الرواة الشعر وسيلة للكسب. ومن هنا يمكن القول أن الشك بالشعر الجاهلي إزداد لأن الراوي ينقل الشعر شفاهة وليس كتابة، لأن أغلب الشعر الجاهلي آنذاك كان يُنقلَ شفاهة عن طريق الرواة، مما حدى ببعض المستشرقين أمثال دافيد مارجوليوث وفلهلم ألفرت إنكار كثير من هذا الشعر، في حين دافع آخرون عن الشعر الجاهلي أمثال جارلس جيمس ليال، أرش بروينلش وجورجيودلا فيدا، معللين أنه ليس كل الرواة مثل خلف الأحمر وحماد الراوية، إنما كان هناك رواة موثوقين مثل المفضل الضبي في المفضليات والأصمعي في الأصمعيات.
وأشار المحاضر إلى تأكيد طه حسين في حكمه على الشعر الجاهلي بسند من تاريخ اللغة العربية، لأن غاية الأدب في اللغة عند طه حسين. فأوضح، أن لغة العرب العاربة ولا سيما عرب الجنوب الحميرية كانت تختلف عن لغة العرب المستعربة أو لغة الشمال، وهي اللغة الفصحى، في ألفاظها وقواعد صرفها ونحوها. ولهذا فهو يشك فيما نسب شعراء الجنوب الجاهليون من شعر كُتِب بلغة الشمال أو العربية الفصحى، في حين أن لغة عرب الشمال لم تكن منتشرة بدرجة كبيرة بين عرب الشمال أنفسهم.
وذكر المحاضر أن طه حسين بدأ بالشك سبيلا إلى الإنكار أولا ثم إلى اليقين لاحقا. حيث يقول طه حسين أنه يريد أن يصطنع في درسه للشعر الجاهلي منهجا علميا هو منهج الشك سبيلا إلى اليقين. واعتبر طه حسين الشك منهجا، وسمي بمنهج الشك الديكارتي عند بعض الباحثين العرب لاحقا.
وهنا أشار المحاضر إلى الشك الديكارتي كما أشار إلى منهجه في البحث، معتبرا المنهج، طبقا لمفهوم ديكارت، عبارة عن القواعد التي تكفل لمن يراعيها بلوغ الحقيقة في العلوم، واعتبر ديكارت الشك هو التأمل الأول في الفلسفة، والشك يجعلنا أن نحلل ونتحقق لكي نصل إلى اليقين أو لا نقع في الخطأ. أما الشك عند طه حسين فكان أحيانا مرادفا للإنكار. ويقول طه حسين بهذا الصدد: "سأنكر طائفة من الشعراء، أو سأنكر شخصيتهم، وأنا أعلم أن فريقا غير قليل من الذين يعنون بالأدب لا يحبون هذا البحث الذي ينتهي إلى الإنكار أو إلى الشك".
وقال المحاضر أنّ الشك قديم، ويصعب أحيانا أن نجعل الشك منهجا، ولا سيما في الدراسات الأدبية. فالشك قديم، حيث سبق لإبن هشام صاحب السيرة النبوية في القرن الهجري الثاني أن شك بالشعر الجاهلي، لكنه لم يرفض بعض روايات ابن إسحاق لأشعار منسوبة إلى الأوائل. كما نبه ابن سلام الجمحي في القرن الثالث الهجري في كتابه "طبقات فحول الشعراء" إلى فساد بعض الرواة وانتهى إلى الحكم أن الشعر الجاهلي ثلاثة أقسام: شعر صحيح النسبة، وشعر موضوع مصنوع، وشعر يشك في نسبته. وقال المحاضر أن طه حسين تأثر بالشك عند كل من أبي عثمان الجاحظ وأبي حامد الغزالي وديكارت، ونجح في التفاعل بينهم في موضوع الشك على الأقل.
وأوضح المحاضر أن طه حسين أكد على الحرية الأدبية وحرية الأديب وأن لا يكون الأديب ترسا في آله، كما أبدع في مقياس سماه "المقياس الأدبي"، ذلك أن المقياس العلمي لا يصلح لدراسة الأدب. كما جاء بمقياس جديد سماه "المقياس المركب". ويتضمن هذا المقياس مجموعة من الصفات الأدبية منها "الجمال الفني، العاطفة والشعور، اللغة العربية الفصحى، معرفة جوانب الخطأ والصواب في الشعر من النواحي اللغوية والتاريخية والنفسية والفكرية والاجتماعية إلى جانب شخصية الأديب أو الشاعر أو البيئة، والتراكيب والنظم والقواعد، واللفظ والمعنى، والانتحال وأسبابها، وخاصة الرواية".
وأشار المحاضر إلى وجهة نظر الأستاذ عبد المنعم تليمة في الشعر الجاهلي كرد لنظرة طه حسين، من أنه لا يمكننا أن نرسم حدودا فاصلة بين القبائل اليمنية (القحطانية - الحميري) وتلك الشمالية (العدنانية - المعدية). لقد بقي الشعور برابطة مشتركة تجمع كل القبائل العربية المتحاربة، مهما تكن تلك الرابطة مفككة. فقد كانت هناك مشاعر أولية غامضة بالوحدة والتوحيد. وأن التنظيم الاجتماعي لعرب ما قبل الإسلام صار في آخر تطوره مجتمعا قبليا ينهكه التناحر لا يجد سبيلا غير السلام والوحدة. قاعدة البناء الثقافي في ذلك المجتمع كانت الوثنية، وصارت قبيل الإسلام في آخر تطورها متبددة لا تجمع جمهرة العرب على عقيدة واحدة. فظهرت "الحنيفية" مقابلة للوثنية، فالحنيفية تعني خلوص العبادة لله والرجوع إلى دين الفطرة الأولى، الدين الخالص، وارتبط هذا خاصة بدين إبراهيم.
وفي الختام شرح المحاضر أن منهج طه حسين النقدي يختلف عن منهجه في البحث، وأن ذلك المنهج النقدي إنتقاه طه حسين بشكل يلائم مواقفه المترددة، وثنائيته الفكرية العربية الإسلامية من جهة، والفرنسية الأوربية من جهة ثانية. ورفض المحاضر مصطلح "منهج هجيني" إنما قال بأن منهج طه حسين كان "منهجا انتقائيا توفيقيا" في النقد الأدبي. وقال أن الهدف من كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" أن يؤسس نظرة علمية في البحث لدراسة الأدب العربي القديم، وتجريد هذا الأدب من القدسية، وضرورة إخضاعها لمناهج البحث العلمي. ومن هنا نقول أن دراسة طه للشعر الجاهلي محاولة لإخراج النقد الأدبي من جموده إلى الحيوية والدعوة إلى الأسس المنهجية والعلمية دون أن يقص جذور التفكير الإسلامي، وهو بهذا نجح في إيقاظ العقل العربي من كسله فيما يتعلق بالأدب والفكر ولا سيما في الشعر العربي القديم.
ولخص المحاضر في الكلمة الأخيرة أن طه حسين رجع إلى أحضان الأدب العربي القديم، واعترف بأغلبية الشعر الجاهلي في الطبعة الثانية من كتابه، "في الأدب الجاهلي" بما فيه شعر زهير بن أبي سلمى من مضر، وتراجع عن شكه بإبراهيم واسماعيل عليهما السلام. ولا ننسى أنه تعرض للمحاكمة وفصل من وظيفته أستاذا للأدب العربي في الجامعة.
إذن النتيجة النهائية كانت لصالح الشعر الجاهلي والإسلام، بعد أن حقق طه حسين ما كان يصبو إليه في إحياء الأدب العربي القديم وتحقيق الشهرة لشخصه ناقدا، وعميدا للأدب العربي ومؤرخا مبدعا وجريئا. ويمكن في النهاية الإشارة إلى تأكيده على الأدب العربي القديم حين قال في مقالة رائعة من مقالاته التي نشرها بعنوان "أثناء قراءة الشعر القديم" ما يلي: "ومع ذلك نحب لأدبنا القديم أن يظل في هذا العصر الحديث كما كان من قبل، ضرورة من ضرورات الحياة العقلية، وأساسا من أسس الثقافة، وغذاء للعقول والقلوب ... لأنه أساس الثقافة العربية، فهو مقوم لشخصيتنا، محقق لقوميتنا عاصم لنا من الفناء الأجنبي، معين لنا على أن نعرف أنفسنا. فكل هذا الخصال أمور لا تقبل الشك ... لأنه صالح ليكون أساسا من أسس الثقافة الحديثة".
وبعد ذلك طرحت مجموعة من الأسئلة من الحضور، أجاب عليها الأستاذ المحاضر بشئ من التفصيل، وجرت حوارات مفيدة وقيمة بروح علمية، حيث ساهم البعض بمداخلات وشروحات جيدة ومهمة كان للمحاضر وللحاضرين منها إفادة ومتعة. في نهاية الأمسية كرم النادي الأستاذ المحاضر ومقدمه بباقات من الزهور.
المصادر التي اعتمد عليها المحاضر في محاضرته:
طه حسين، في الشعر الجاهلي
طه حسين، في الأدب الجاهلي
طه حسين، مع المتنبي، ج2
طه حسين، الأيام، ج3
طه حسين، خصام ونقد
طه حسين، على هامش السيرة، ج1
طه حسين، (ديكارت) في: من بعيد
طه حسين، "أثناء قراءة الشعر القديم" في حديث الأربعاء، ج1
عبد المنعم تليمة، مدخل لقراءة "في الشعر الجاهلي".
محمد مندور: معارك أدبية
أنور الجندي: طه حسين، حياته وفكره في ميزان الإسلام
ناصر الدين الأسد، (حول كتاب في الشعر الجاهلي)، في ذكرى طه حسين
Descartes, Avhandling om metoden, in Paul Valéry, Descartes.
خالد يونس خالد، الخطاب الفكري والمنهج النقدي في أدب طه حسين
خالد يونس خالد، اللغة العربية في الفكر النقدي
Khalid Younis-Khalid, The Literary Criticism of fi shi-shi'r/fil adab: Plagialism.
محمد الكحط - ستوكهولم-