إلى كل عربيّ طاهر لم يتنجّس برجس العمالة .
أَجهشتُ سكوتاً في الظلماءْ،
من جرح الطين وجرح الماءْ.
ما أَطولَ ليلَ البحرِ،
وما أَبعدَ شمسَ الصحراءْ!
ما أَغربَ صوتي!
في زمن الصمتِ .
ماأغربني !
ما أَضيعَني نخلاً بين ضبابٍ وبحارْ!
قد مزَّق أَشرعتي الإعصارْ
أَبحث عن مرفأْ .
يُؤوي سفني .
يَحميها من أشباحٍ تتبعُني .
من سطوِ قراصنةٍ حكَّامٍ في وطني .
ـــ:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!
هل أبقَى الملاّحَ التائهَ حتى موتي ؟
لا أَدري في أيّةِ ريحٍ سأُقيمُ،
ولاأَدري في أيّةِ موجهْ .
جفَّتْ بيدي خضراتُ الدولارْ .
جوعان بلا أهلٍ، وبلا دارْ.
هل تُصبحُ، في يومٍ ما، ليْ دارْ؟
لأُزيحَ عن الجمرِ رمادي
وأَفكَّ عن الجرحِ ضمادي
هل من نارْ
أتطهّرُ فيها من ورم الغربةِ، أَشفَى ؟
ومتى أشفَى ؟
من خلفي سكّين بلادي،
وأَمامي سكّين المنفَى .
أَتعذَّبُ بين الشفرةِ والشفرهْ .
كالحَبّةِ مورقةً تحت الصخرهْ .
كالنُوتيِّ الفاتحِ صدرَهْ .
لسهامِ الريحْ .
وَدَّعتُ مآذنَ "طَنْجَةَ" مثلَ النسرِ جريحْ.*
مدحوراً أَسحبُ بين النورسِ أَجنحتي .
أَتملَّى جبلاً في البحر لـ"طارقْ".**
وعبرتُ، كأني اللصُّ، البَرزخَ في الميناءْ .
بجوازٍ أَعرجَ دون عناءْ .
وبكيتُ لأنّي أحسستُ بانّي إنسانْ .
وبأَنَّ الشرطيَّ يكونُ صديقاً بعضَ الأحيانْ .
أَعطيتُ السَّادِنَ تذكرتي ـ
ودخلت الباخرةَ- الجنَّهْ .
كانتْ فيها الحُوْرُ، وكان الوِلْدانْ،
وسواقٍ من خمرٍ ولذائذُ أَطعمةٍ في كلِّ مكانْ .
أَخذَ العشّاقُ الشقرُ يقبِّلُ بعضُهم الآخرَ فيها
وأخذتُ أقبِّلُ صاحبتي الأحزانْ .
صعدوا للسطح خفافاً سعداءْ .
وصعدتُ ثقيلاً مُرتبكاً أسيانْ .
كان البحرُ يمازحُهمْ رشّاً برذاذ الموجِ
وكان الحزنُ يمازحُني رشّاً بدموعٍ ودماءْ .
بدأ السيَّاحُ يُغنّون مع الموسيقى،
وسكتُّ غريباً كالمقعدِ جامدْ
شاردْ .
لا أَسمعُ غيرَ أزيزِ رصاصاتٍ ونشيج نساءْ .
حين يجرُّ خيالُ الحُبِّ يديَّ لأرقصَ،
أَبكي وطني .
ـــ:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!
ومضتْ بنتُ البحر تَشقُّ جيوشَ الموج وتَجري
وفزعتُ كطير البرِّ لأنّي
لم آلفْ غيرَ بنات الصحراءْ،
ورمالٍ حمرٍ وعواصفْ .
ورستْ
فإذا راية" لَنْدَنَ" فوق الجبل الشاهقْ
تخفق في الأفق كطيرٍ جارحْ .
ـــ:لم يبقَ سوى اسمِك ياطارقْ .
وخرجتُ من الجنَّة للأرض بلا حوَّاءْ،
وأَريتُ جوازي الضابطةَ الشقراءْ .
فابتسمتْ كالمومسِ دون عواطفْ،
واجتزتُ الحاجزَ في الميناءْ،
ووقفتُ كصخرٍ بين صخورْ .
قلتُ:هنا رفَّتْ رايات ابن زيادْ .
ونظرتُ إلى الدنيا من حولي وهي تدورْ .
لأُقارنَ يومي بزمان الأَجدادْ :
يا للبحرِ! ويا للجبل الشاهقْ !
كيف لوَى أنفَهما طارقْ ؟
أَسألُ نفسي :
هل جئتُ لهذا البحر فراراً
من تلك الصحراء لكي أَغرقْ ؟
هل جئتُ لأستبدلَ موتاً أَحمرَ
في الشرق بموتٍ في المغرب أَزرقْ ؟
أَسترجعُ عبر التاريخ العربيِّ دخاناً لحرائقْ
يَصعدُ من سفنٍ في الميناءْ
أَسالُ طارقْ :
طارقْ !
هل تقدر أَنْ تجتاز البحر الآن بغير جوازْ ؟
هل تَجرأ أنْ تحرق سفنَك ثانيةً ؟
هل تَجرأ أنْ تخطب فينا ضدَّ الأعداءْ ؟
ما زلنا نحفظ خطبتكَ العصماءْ .
مازلنا نفخر فيكْ .
ربّيتَ خيولاً كي تغزوَ فيها بالأمس بلاد الرومْ .
لوعشتَ معي اليوم، لربّيتَ كلاباً تحميكْ .
وشربتَ معي نخْبَ الخوفِ ونخْبَ الإملاقْ .
وفررتَ من الأرض المدعوّةِ في قائمة القمعِ : عراقْ .
ماأَبعدَ كأسَكَ، طارقُ، عن كأسي !
واليومَ عن الأمسِ !
لوتعلمُ شيئاً مما يجري في وطني
ـــ:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!
أَسمعُ نقَّ ضفادعْ
في ليلٍ ينزلُ فيه الرأسُ ليصعدَ فيه الذيلْ..
إيهٍ طارقْ !
هل تَسمعُني ؟
أنا أَبكي صمتاً طول الليلْ
لم يبقَ من الإنسان العربيِّ سوى الظلْ،
بين محطّاتٍ ومطاراتٍ وموانئْ .
هل كنتُ شيوعياً حقّاً ؟
لا. ليس لإبحاري بوصلةٌ تَهديني
لا. ليس لمُرسايَ مرافئْ .
جائعْ .
خائفْ .
ضائعْ .
في بلدان كسرابْ .
لا يوصلني فيها شارعْ
أَنزف لكنْ أَنزف واقفْ .
مثل جدارٍ قد سقط السقفُ عليه ولم يسقطْ
يَتحدَّى أنْ ينهارْ .
قد قاومَ خيلَ الريحِ وفرسانَ الأمطارْ .
أيّ بناءٍ ذلكْ !
طارق !
طارقْ !
هل تَسمعُني ؟
إنّي الوطنيُّ بلا وطنِ
أَحرقتُ ــ لكي أستسلم للمنفى ــ سفني
كي لا أرجعْ
لحِمَى الظلماءْ
ما زلتُ أفتّش عن وطني
بين الأشياءْ .
لو تنسَى ذاكرتي الطينَ وتنسَى الماءْ .
لو تنسَى الأَضواءْ .
لو تنسَى حنجرتي صوتي،
زمنَ الصمتِ .
لو أَسهو يوماًعن وطني .
لو أنساه
-:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!
لم تبقَ سوى الذكرَى منكَ،
ولم تبقَ سوى الآهْ.
-:آهٍ وطني.آهٍ.آهْ!
آهٍ.آهْ!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طنجة:مدينة مغربية تقع شماليّ المغرب على ساحل البحر الأبيض المتوسط
**طارق بن زياد فاتح الأندلس(ت 102 هـ)