العظماء رجال من زجاج شفّاف غير قابل للكسر.
سأظل حرّاً طليقا
أتنقل كالنسيم من أمل إلى أمل
ومن المحال أن أسقط في كمين اليأس .
أعرف الطريق الذي أسير عليه جيدا
لذلك لا أتلفت يمينا أويسارا... أو إلى الوراء
لأنني أدرك يقيناً من أين انطلقت
وإلى أين سأمضي
فالهدف الذي أسعى إليه واضح كعينيّ أمي المخضلتين بالدموع
وهي تروي لي مآسي شعبها عبر العصور.
عندما ودّعت أبي في المقبرة
سمعته يهمس لي قائلا: أنا لم أمت يا بنيّ
كلما أردت أن تراني
أنظر في المرآة فستجدني ماثلا أمامك.
في البدء...
وقبل اضطرام البرق في السحاب
وقبل اكتمال جنين الأرض في رحم الكون
وهو يرفرف مع الألق فوق سطوح الأمواج
يلملم حبّات الضوء المتناثرة في الآفاق
يتهجّى حروف الكواكب والمجرّات
يقاسم الله زاده النوراني
وينساب برفيف رهافته في مدار المحيطات
ويتضوع في رحاب الأبدية
ليطوي بجناحيه ضفاف الأزمنة والعصور.
حينما أعبر بوّابة الشمس إلى زقّورة آشور المقدّسة
أنفض ما تعلّق بقدميّ من نثارات الشهب والغيوم
وغبار النجوم
وأزيل ما التصق بذاكرتي من رذاذ الأوهام
وأضغاث الأحلام
وفحيح الأفاعي
ونعيق الغربان
وعواء الذئاب
ونقيق الضفادع
ونهيق الحمير
كي أدخل إلى هيكل الربّ متلألئاً كنجمةٍ في الظلام
وطاهراً مطهّراً كزنبق البراري.
مهما حلّق السنونو في الآفاق القصيّة
وهُجّر... أو هاجر إلى البلدان والأمصار النائية
وتاه في أقاصي الأرض
وفي زحمة الاغتراب
سيعود، يوماً، إلى عشّه المخملي
وهو يلتاع شوقاً وحنينا
بينما العقبان
والحيتان
والعربان
ليس لهم أوطان
لأن أوطانهم في بطونهم
وحيث يحطّون رحالهم
وهم يطاردون فرائسهم
ويلاحقونها حتى آخر قطرة دم.
لماذا تبثّ الرياحُ لواعجَها للبحارِ
تهزّ غصونَ الغيومِ
لينهمرَ الغيثُ فوق خيامِ الذين يطاردهم أفعوانُ الجحيم؟
لماذا يجوع العراق وجنّة أرض الفراتين زاخرةٌ باللآلئ والماء والأقحوان؟
لا صديق للعصافير في بلاد الرافدين
شُرّد الكادحون من سهل نينوى الخصيب
فتهللت الأشواك والعوسج في أطراف الموصل
وأينعت أزاهير الدم في شعاب جبل سنجار.
لاعشب ينبت في بطاح العراق
لاشقائق تتفتّح في مروج الخابور
هبّت عاصفة الصحراء
واقتلعت زنابق الحضارات من جذورها
واستعصت على كل الأدعية والتعاويذ
أنثى مسلولة تنتهك ذكورية الوهاد والجبال
والبشر والحجر
ولا تلين عريكتها إلا للنجمة السداسية الزاهية
ومفتي الديار المقدّسة
يتلو آية الكرسي... ويستغفر الله
وينام آمناً مطمئنا في ظل محظيته الرابعة.
داعش الإبنة الشرعية لغزوات الرسول الأعظم
الذي أرسله الله رحمة للعالمين.
بلاد الرافدين... الأرض العذراء المسبيّة
المكتظة برفوف الملائكة على أسوار الإيساگيلا
الزاخرة بأسرار الآلهة
وملاحم الأمجاد المشرئبة من باطن الأرض
كالأجنّة في الأرحام
ورفوف النوارس المتدلية من أفنان الغيوم
الطافحة بالنشوة والعذوبة
في الجزيرة المحاطة بأسماك القرش
والثعابين الكامنة بين حفيف الأشجار
عقد الله قرانها إلى السماء برباط مقدّس
وهاهي الآن تصرخ بألم كامرأة داهمها المخاض.
كلكامش يمدّ جسراُ فوق خلجان الحرائق والرياح
إلى الأصقاع المجهولة في مخيمات الله
تحت الأنوار الراشحة من مسامات الشمس المدلهمة
ليعبر النازحون من سهل نينوى... وقرى الخابور
وهم يحملون في أعناقهم أيقونات الحمائم
وأكفانهم على أكتافهم
وفي قلوبهم تذكارات وشهقات الأسرى الذين احترقوا في هشيم الكلمات
وفي مآقيهم جنازات شهدائهم الذين قضوا كمداً
على طرقات الرحيل... والإنكسار.
هُجّر الملائكة والقديسون من على ضفاف الخابور
نُضبت الجداول والسواقي
استحالت الجنائن يبابا
وذبلت زنابق وأقاحي الأفراح والمسرّات
وخبا أريج كلمات الغزل من شوارع العشاق
وانبرى البوم يؤذّن فوق شواهد القبور المهشّمة
وفوق قباب الكنائس المهجورة.
نبشوا المقابر في القرى الثكلى
وحطموا تماثيل الآلهة الكبار
ونحروا العصافير التي كانت تتبادل القبلات على شفاه الأنهار
وطمسوا معالم مراعي االغزلان على سفوح الجبال
وأصبحت كقصائد مهجورة في كثبان الرياح
وحلّت الفاجعة على بهاء التلال المبعثرة كذكريات الطفولة.
ما كادوا يحطون رحالهم بعد عناء المسير بين شعاب الجبال
وقد نزفت أقدامهم وقلوبهم على طرقات الشوك والعذاب
حتى داهمتهم عقارب الصحراء
فلم يجدوا من يسعفهم
ويبكي عليهم
ويرثيهم
ويواريهم الثرى سوى أنفسهم
وهم في طريقهم إلى المنافي
كانوا يحدّقون بالماء المخضّب بالدماء
ويمرّون عطاشاً على طريق الموت
على إيقاع أنين الروح
صرير أرواحهم يتردّد في جنبات الكون
وأمامهم تلوح المدافن كشموع في سرداب الليل
والملائكة تتدلى بحبال السماء أمام أبصارهم
وهم يخرون شاخبين في أحلامهم ودمائهم
وقد أسدل ستار الأحزان على عيونهم
فتركوا حبق دموعهم على جسد الأرض
ورذاذ دمائهم على شقائق السماء
ولما حوّمت قلوبهم على النهر الكئيب
وفوق الحدائق والكروم المتوهجة خلف سياج الغبار
انهارت اللحظات الجذلى من سقف الذاكرة
وفقد الموت انبهاره ونضارته لهول المأساة.
(أسْلِم ... تَسْلَم)... عبارة شوهاء
يجترّها الهمج الرعاع
الأشد كفراً ونفاقا... عابدو الحجارة السوداء
على مسامع الفراشات العذراوات
والأفراخ الودعاء الذين تعمّدوا في جرن قدس أقداس السماء
وترعرعوا بظل الله
وعلى جباههم وشم الخلاص ناصعاً
كربّ المجد صاعداً إلى السماء
في غيمة السناء والبهاء.
أوغلوا في الرحيل
وتركوا آثار أقدامهم على الصخور
وفوق صفحات المياه
وعلقوا أمنياتهم على غصون الأشجار
وعلى مقابض الأبواب المغلقة
وقد يأتي يوم
يسدل العالم ستار النسيان
على مجازر الخراف والأنهار والأشجار والأقمار
ويغطي غبار التاريخ ما خلفوه من روائع الصور والأحلام.
في أقاصي المنافي
ينزل المطرودون من الفردوس من فوق جلجلة الآلام
مستندين على عكاكيز السراب
بأنفسهم
ينزعون المسامير من أيديهم وأقدامهم
ويمشون حفاة فوق أشواك النار المقدّسة إلى محراب القيامة
فتضيء جنبات الكون بأنوار المزامير المنهمرة من السماء .
سأظل أروي لكل عابر سبيل إلى انقضاء الدهر
كيف مرّ غيلان الصحراء في قريتنا النائمة تحت دوحة القداسة
وهم يلوحون بآيات الظلمات
ويسبحون في خلجان النساء
فأرعبوا الغيوم والنجوم... والآلهة الأبرار
بسحناتهم الشيطانية
ولحاهم العنزية
وارتشفوا مياه الينابيع والأنهار والآبار
وقطعوا رؤوس الرجال
والتهموا أجساد النساء
وبدأت الدماء تشرشر من أفواههم في كل الطرقات
وهم ينزلقون إلى قيعان الجحيم تحت ظلال السيوف
سكارى بالخمر المشعشعة بالآيات المتشابهة
ولكن رغماً عنهم وعن سيوفهم المسلولة
سنظل نرفرف فوق أسوار التاريخ
وفوق بيارقهم المكفهرّة
لأن في أجسادنا بقايا أريج نبتة الخلود
وفي دمائنا نقاط ضوء من ألوهية أجدادنا الأولين.
شعبي مدمن على الجراح والآلام والنكبات.
منذ ألفي عام
والآشوري تحت الراية السوداء
يتنفّس من ثقب الباب.
الآشوري بَرَكة في الأرض
حيثما تطأ قدماه تتدفق الينابيع والأنهار
أنامله سنابل ضوء
متى لامست الصحارى تحيلها واحات غنّاء متعةً للناظرين
حدائق... كروم... وبساتين على مدّ النظر
ومتى أرغم على الهجرة منها
تعود قاعاً سبسبا مسكناً للذئاب وبنات آوى.
كيف لي أن أصف النور المنبثق من قدسية آشور يتلألأ في قرص الشمس؟
أو أصوّر صدى البرق المنهمر من سماوات آنو؟
كيف لي أن أرسم صورة ليليث وهي تجرجر الصحارى في لجج البحر؟
وحدهما الليل والنهار يبحثان عن مملكة الأقدار
ويذوبان في شحوب الشروق والغياب
ويبقى الثور المجنح يحرس بوابات الأرض والسماء
ويسقي جنائن االله.
الثور المجنّح
أسمى المخلوقات جميعا
هو فوق الخلائق كلها
إنه سيف اللهب يذود عن شجرة الحياة
ويحرس الذات الإلهيّة
إن حطموا رموزه على الأرض
سينحدر من السماء
أو سينبعث من باطن وادي الرافدين
وادي الآلهة المخضرمين.
على طريق الرحيل تعشوشب الذكريات على عتبات السنين
والأطفال الذين كانوا يهدهدون أحلامهم في أراجيح الياسمين
فقدوا شهواتهم للحياة بعد أن رأوا أفراحهم تتداعى بين الحرائق والأنقاض
ومرّ قطار الطفولة أمام أبصارهم كلمح البصر
ووخط الشيب نفوسهم قبل الأوان
وشعروا بالألم لأول مرّة حين وخز الشوك أقدامهم
وهم يسيرون حفاة على الطرقات المخضلة بالدموع والزفرات
وأنينهم يأخذه الصدى إلى وديان سحيقة وبعيدة
تميد الأرض تحت أقدامهم
وقد أنهكهم تلويح الطيور المهاجرة إلى مدائن الرمال
وهم يمضغون عشب البكاء على وقع صهيل نجوم المساء
ويمشون فوق السحاب
وهم يرتلون آيات الموسم والحصاد
تتشظى في رؤوسهم أحلام الملائكة
تحت شآبيب شمس الصحراء المحرقة
التي ألهبت أجساد الأحبة الذين طالتهم سيوف الجلاد.
من أيّ الأحقاب قدمت أيها المبوء بقاذورات عصور الديناصورات؟
من أيّ الأصقاع أتيت مدجّجاً بنتن وزناخة الجاهلية وأنبيائها الفاسقين؟
من أي أقاليم الجوع والذباب والظلام قدمت تبشّرنا بالخلاص
وأنت تمشي على الأرض بدون روح ولا إحساس ؟
أهلكت الزرع والضرع بهذيانك
وترديدك للسور الطافحة بالمشتهيات
والجنّات الزاخرة بالعاهرات
ونحن من رسم حدود الأرض والسموات
وسكب الزيت في قناديل الشموس
ونحن من جعل اليوم صباحا ومساء
وزيّن السماء بأيقونة قوس قزح
ونحن من أنبت السنابل في الحقول
ولقّح الشذى في عروق الأزهار والورود
ونحن من أنجب الله
وعمّدناه ... ودعوناه بإسمائه الخمسين
وبنينا له هيكلا به قدس الأقداس رمزاً لجلاله
وتربّى في حضن أمه الآشورية
لترضعه الرحمة والعطف والحنان
وتعلمه الأبجدية لينطق وهو في المهد صغيرا
وتمنحه القوة والجبروت والسيادة على العالمين
ليبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى
وليقول لكل شيء كن فيكون
وليمحي بموته خطايا السائرين على نور تعاليمه.
يا ربّ
كم أنت كبير وعظيم لا تتسع لك الأكوان
وكم أنت صغير لا يراك الضالعون في التيه والضلال.
يعيشون في غابة من الجحيم
خالدون مخلّدون فيها
يتضورون جهلا
وأولادهم يتضورون جوعا
ولكنهم يحلمون بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار
(وحورٌ عينٌ كَـأمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).
إنه أغبى من حمار فقد أوراقه الثبوتية
يريد أن يصعد على كتفي
ليقطف عنقوداً متدليّاً من سدرة المنتهى.
،،،،،،،
adamhomeh@hotmail.com