رغم رواج القوالب الغنائية والأنواع الموسيقية الأخرى في مصر، كالمقطوعات الموسيقية البحتة، حاول بعض المؤلفين الموسيقيين شق طريقهم في عالم التأليف، الذي يعاني من نقص في رواده وانتشاره بسبب سيادة الثقافة الغنائية لدى الجمهور العربي. حتى أن أهم رواد التأليف الموسيقي في مصر، نالوا شهرتهم بسبب اتجاههم إلى بعض التجارب الغنائية، والموسيقى التصويرية للأفلام، والأوبريت والأوبرا وغيرها .
بدأت حركة التأليف الموسيقي بمصر في تكوين ملامحها وخصائصها وأسلوبها الخاص، بالتزامن مع الحركة الوطنية للتحرر من الاستعمار الأجنبي في مصر بعد ثورة 1919، التي نتجت عنها محاولات المثقفين والفنانين إبراز كل ما هو مصري في مواجهة كل ما هو آتِ من المستعمر. فظهر في الفن جيل من الموسيقيين انطلق من ذلك المبدأ، مثل سيد درويش ودوره في تطوير الأغنية المصرية والعربية، والثلاثي يوسف جريس وحسن رشيد وأبو بكر خيرت في التأليف الموسيقي.
الثنائي الأقدم: "رشيد "و"جريس"
أولى المحاولات الجادة في التأليف الموسيقي بدأت على يد يوسف جريس، المولود في القاهرة سنة 1899. بدأ مسيرته الموسيقية فور تخرجه من كلية الحقوق عام 1926. وألف في سنة 1932 سيمفونية بعنوان "مصر"، جاءت بعد انضمامه إلى جمعية المؤلفين والملحنين في فرنسا بعامين. وتفرغ بعدها مع زملائه حينذاك، مثل حسن رشيد، لتنشيط حركة في التأليف الموسيقي وفق النسق الغربي داخل جمعية لهواة الموسيقى في مصر. ويعتبره النقاد والمؤرخون أول مؤلف لموسيقى مصرية، وأول واضع لقواعدها وأسلوبها المعتمد على الإيقاعات والألحان المحلية. ومن أشهر مقطوعاته: "بنت البدوية"، و"ريف مصري"، و"مصر، أهرام الفراعنة".
مع جريس ظهر حسن رشيد (1896- 1969) مكملاً مشروعه الهادف لاستلهام القواعد الغربية في التأليف الموسيقي، وتطويعها مع القصص والألحان الشعبية والمحلية، ولاقى شهرة واسعة بسبب أوبرا "مصرع أنطونيو" سنة 1947، التي تعتبر من أهم أعماله وأول أوبرا مصرية. وإلى جانب شهرته كمغنٍ أوبرالي، عرف عنه اهتمامه بالجانب الغنائي والموسيقى الخفيفة للشباب والأطفال.
أبو بكر خيرت (1910 - 1963)
أشهر رواد الجيل الأول من المؤلفين الموسيقيين المصريين، نال شهرته بسبب تجاربه الكثيرة في مختلف القوالب الموسيقية، مثل الكونشرتو والقصيد السيمفوني والأوبريت وموسيقى الحجرة والمؤلفات الغنائية مثل "لما بدا يتثنى". ووصل عدد مؤلفاته إلى 45 مقطوعة.
وقد جاء تأثير خيرت على حركة التأليف الموسيقي في مصر، بسبب ترجمته كل المحاولات السابقة في تطويع الروح المصرية على الموسيقى، إلى الاعتماد عليها وعلى الألحان الشعبية بشكل رئيسي، وفي مسيرة أكثر احترافية وجدية عن بقية زملائه، ونيله اهتماماً ودعماً من عدة مؤسسات وجهات رسمية، وتأسيسه الفني والمعماري، لكونه مهندساً معمارياً، لمعهد الموسيقى "الكونسرفاتوار". كما يعتبر حلقة وصل بين الجيلين القديم والوسط، اللذين سارا على النسق نفسه الذي وضعه خيرت مع زملائه، بالاعتماد على التراث والفلكلور الشعبي في تأليف سيمفونيات ومؤلفات موسيقية كبيرة. ومن أشهر أعماله: "السيمفونية الشعبية 2"، و"المتتابعة الشعبية".
جيل الإذاعة ودار الأوبرا
هو الجيل الأكثر تعدداً في التأليف الموسيقي، ومعظمه سار في اتجاه الأوائل نفسه، بالاعتماد على الألحان والآلات الشعبية. وأبرز هؤلاء عزيز الشوان (1916 - 1993)، آخر ممثل للجيل القديم، وله إسهامات عديدة في التأليف الموسيقي الكلاسيكي الغربي، وأشهر أعماله "أوبرا أنس الوجود" التي ألفها عام 1970، وتعتبر من أهم الأعمال التي تقدم حتى الآن في دار الأوبرا المصرية منذ إنشائها، بالإضافة إلى "باليه إيزيس وأوزوريس"، وأوبرا "عنترة".
ساهمت نشأة الإذاعة المصرية ببرامجها الموسيقية وفقراتها في ظهور جيل جديد من المؤلفين، الذين غيروا من القوالب الكلاسيكية، إلى المقطوعات الصغيرة والخفيفة الملائمة لجمهور الإذاعة، بجانب مؤلفاتهم الكلاسيكية. وأبرزهم عبد الحليم أبو نويرة (1916 - 1985) مؤسس فرقة الموسيقى العربية، وعطية شرارة (1923 - 2014) الذي كون فرقة من عائلته باسم "سداسي شرارة". ألف شرارة عدداً من المقطوعات الشهيرة مثل "ليالي القاهرة"، و"ليالي الإسكندرية"، والموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام مثل "ابن حميدو". كذلك رفعت جرانة (1929)، المعروف بقيادته أوركسترا فرقة القاهرة الاستعراضية، التي قدم من خلالها عدداً من مقطوعاته الشهيرة مثل "النيل"، و"انتصار الإسلام".
ومن أهم رموز ذلك الجيل أيضاً جمال عبد الرحيم (1924 - 1988)، الذي يحسب له تأسيس قسم التأليف الموسيقي في معهد الموسيقى العربية. ومعروف عنه تأثره بالموسيقى الأوروبية، حتى أن معظم أعماله انتشرت في ألمانيا وسويسرا، وأهمها "باليه أوزوريس"، و باليه "حسن ونعيمة".
محمد عبد الوهاب
لمحمد عبد الوهاب تجارب متعددة في التأليف الموسيقي الآلي، بعيداً عن تأليفه لموسيقى الأغاني التي اشتهر بها، مثل أعماله مع أم كلثوم. وخاض في فترة من حياته تجربة تأليف المقطوعات الموسيقية القصيرة، التي جرب فيها عدداً من أفكاره المميزة، مثل إدخال آلات ومقامات جديدة للموسيقى الشرقية، وإعادة استخدام مقدمات أغانيه في مقطوعاته، بالإضافة إلى رغبته في إطلاق عنوان عام على مقطوعته، مثل "حبيبي الأسمر"، "عش البلبل"، "فرحة"، و"فكرة" التي تعتبر أول مؤلفاته عام 1933. وكانت معظم هذه الأعمال، وعددها نحو 40 مقطوعة، تذاع في برامج وفواصل الإذاعة المصرية.
الجيل الحديث
عادت محاولات الجيل الجديد من المؤلفين الموسيقيين إلى الأولين، بسبب قلة التجارب، وعدم انتشارها. إلا بعض النماذج القليلة التي استطاعت تكوين قاعدة جماهيرية لها من مؤلفاتها الموسيقية، خصوصاً المؤلفة للسينما أو الدراما التلفزيونية، والتي تعد من أهم أسباب شهرة عمر خيرت وراجح داود.
ولد عمر خيرت عام 1947، وعمه أبو بكر خيرت، وهو الأكثر نشاطاً وجماهيرية في الفترة الحالية، بسبب كثرة أعماله للسينما والتلفزيون وارتباطها بذاكرة الجمهور المصري. ويسير أيضاً على نهج عمه وزملائه بالاعتماد على الألحان والموسيقى التراثية والشعبية. وامتد ذلك التأثر إلى موسيقى محمد عبد الوهاب، حتى أنه أنتج أسطوانتين بتوزيعات جديدة لأعماله باسم "وهابيات". ومن أشهر أعماله خارج السينما والتلفزيون: "بانوراما"، "افتتاحية مصرية"، "اللقاء الثاني". ويعتبر المعادل التجاري الحديث لجيل الإذاعة، لانتشاره عبر الوسائل الحديثة مثل الأسطوانات وYouTube.
أما راجح داوود 1954، فهو أقل انتشاراً في السينما والتلفزيون مقارنة بعمر خيرت، لكنه يعتبر من أهم مؤلفي الموسيقى التصويرية حالياً. ارتبطت موسيقاه بمخرجين كبار مثل داوود عبد السيد، وتميز أسلوبه بالرومانسية والميل لإبراز فلسفته الخاصة في موسيقاه. ومن أشهر أعماله في السينما موسيقى أفلام: "أرض الخوف"، و"الكيت كات"، و"رسائل البحر". ومن أحدث أعماله خارج السينما، مقطوعة مهداة لثورة 25 كانون الثاني - يناير، و"نصر السماء".
يهتم داوود بجانب عمله في المؤلفات الموسيقية، بعمله الأكاديمي في قسم التأليف الموسيقي في المعهد العالي للموسيقى، بالإضافة إلى عمله في لجنة الموسيقى والأوبرا في وزارة الثقافة.
المصدر: صحيفة رصيف الألكترونية