من نورٍ إلى نور

2018-03-11
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/d4db3064-ab80-4358-81eb-02553f4d31c9.jpeg
كان يعالجُ عجوزاً في ساعاته الأخيرة، وقد استدعوه إلى دار المسنين على عجل، فبذل جهدا شاقا في إنعاش المريض ليردَّه مرة أخرى للحياة، وراهبة شابة تعاون الطبيب وترفده بمزيدٍ من الأوكسجين، وتضاعفُ جهدها في الضغط على صدره، وتحفيزِ قلبه على الحركة لكي لا يغدر بهما ويموت العجوز، حينما دخل الغرفة رئيس المشفى. رجل تعدَّى من عمره السبعين، يطفح محياه بالرضا والرصانة والهدوء.

راقب ما يجري عند دخوله من بعيد، ثم اقترب أكثر فأكثر حتى صار وراء الطبيب. والطبيب منهمك يتعرق جبينه، وينحدر العرق على وجنتيه من شدة تعبه في إسعاف العجوز . وحينما حاذاه..؟ دقّ الرجل بيدٍ لطيفة على كتف الطبيب وسأله: هل تعدني يا بنيَّ وقد تجاوزتُ السبعين من عمري، وأكادُ أبلغ نهاية الطريق أن ألقى منك ذات العناية، إذا ما كنتَ إلى جانبي وأنا أتحضَّر للرحيل..؟
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8c42bd85-2793-4686-8f85-6b872fa55241.jpeg
تابع الطبيب  عمله دون أن يلتفت إلى السائل الرئيس، وأجابه بعفوية خالصة دون الحاجة إلى تفكير طويل؛ وقال له بصوت واضح لا تردد فيه أو كمن يحسم الموضوع : حدِّثني عن الحياة يا سيدي لكي أتمكن من الرد عليك. وبعد الإجابة المقتضبة، تابع الطبيب عمله ولزم السكوت؛ والسائل لم يجد ما يضيف .. أو يقول .

لكن إرادة الحياة لا تسعف دائما . بل تخون أحيانا كثيرة يا صديقتي، ويبقى المؤسف في حكايتي القصيرة أن يرحل رئيس المشفى إيَّاه بنوبة قلبية، بعد أسابيع قليلة من الواقعة دون أن تتحقق رغبته، ويدركه الطبيب في الوقت الذي كان يرجوه . 

هذا الرجل لم يكوِّن أسرة ينفق عليها ماله..؟ لكنه كان يساهم في مساعدة بلدان منكوبة قصيَّة لا يعرفها؛ فيرسل معظم ما يتقاضاه من الرواتب لصالح مراكز الأبحاث والمساعدات العلاجية.. كان يؤمن ويعمل ويعيش في عالم مختلف يحترم الطبيعة، ويقدس حياة الآدميين حتى الرمق الأخير، دون أن ينسى الرفق بالقطط والكلاب، وسائر أنواع الحيوانات الأليفة.. أو البريَّة . 

أحسنتِ كثيرا يا صديقتي وأنت تتحدثين عن الحب والحياة والأمل . ولو أننا كلنا غدا مائتون، لكن يبقى هناك من يثقل قلوبنا بالْهُموم ويبشِرنا بالموت كلما لهج لسانه "بالدعاء"، ممن لا تغيب المآسي عن نفوسهم المتخمة بالأحزان، ولا السواد ينحسر عن مساجدهم طيلة العام . 

هؤلاء لم يروا في التاريخ إلاّ نكبتهم وحسب..! فلينظروا إلى دواهي العصر الحديث، وما يجري من جوع وجهل وظلم وقتل وسفك للدماء، ونبش للرفات على هذا الجانب المنكود من الأرض فحسب . ربما خففوا من غلوائهم وجلد  نفوسهم، وخففوا عنا وطأة الموت والترويج لظلام القبر . 



 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved