أول الكلام:
الطفولة البعيدة تحضر بقوة، وكأنها نقشت نقشاً في تلافيف الدماغ المسؤولة عن الذاكرة في الفص الصدغي ! وفي زمن الجائحة الوبائية الخانق والجاثم على الصدر يبدو اللوذ بذكريات الطفولة خياراً وجبراً في آن، وفق المثل السائر على لسان المرأة العراقية: لو ضاق خلقج تذكري أيام عرسج! ! (الجيم معجمة في كلتا الحالتين بثلاث نقاط) .
دعوني أتوقف مستطرداً مع هذا المثل، فلا أدري كيف تطيب ليلة الدخلة التي تبدو امتحاناً عسيراً مؤلما مخيفاً للعروس، حين ينتظر الناس أن ترفع الراية البيضاء وقد تلونت بلون أحمر قان لقطرة أو قطرتين من دم عبيط تكمن فيه عذرية (شرف !!) العروس فتتنفس وأهلها والمنتظرون الصعداء !! ولا أحسب أن العريس أقل قلقاً وخوفاً في اختبار فحولته ! فالراية حبل نجاة للعروسين معاً ! فترتفع الزغاريد و"قد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان"!
وأحسب أن الأسلوب الحديث بين الزوجين المتفاهمين حين يقضيان ما اصطلح عليه بشهر العسل في سفر بعيد أو قريب سيعزز المثل أعلاه ويكسبه مصداقية بعد أن كُنست هذه العادة البالية دون رجعة..
***
ابن الرومي:
وحبَّبَ أوطان الرّجال إليهمُ - مآرب قضّاها الشّبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهم ذّكّرتهمُ – عهودَ الصِّبا فيها فحنّوا لذالكا
طرق سمعي لفظة ثقيلة استقرت في الذاكرة وهي الروضة، وهي صعبة اللفظ لجل الأطفال وصاحبكم ذو الخامسة سمع بها بل حلم بالذهاب اليها دون أن يفقه ماهيتها، حتى حلّ اليوم الموعود، وكان يوماً مشهوداً، حيث البست ملابس جديدة أو شبه جديدة، بنطالا قصيراً مع قميص ملائم وقادتني أختي في عطلة صيفية الى بناية صغيرة قرب السدة الترابية الثانية في أجمل بقعة من مدينتي الصغيرة غير بعيد عن دجلة الخير، يقابلها أجمل حديقة ظلت هي الأخرى تسمى حديقة الروضة، وعندما ذهبت إلى الهايدبارك في لندن تذكرت هذه الحديقة التي تشبهها ولكنها أصغر بكثير.. بساط اخضر وأشجار ورود الجوري بلونيه الأحمر والأبيض والرازقي والأقاحي.. تحف بها أشجار عملاقة من الكالبتوز والقيقب وبعض شجيرات رمان، ونارنج !
دخلنا البناية وهي قاعة مع مناضد وكراسي صغيرة صُفت بعناية موزعة بانتظام، بدأ التلاميذ الصغار يتقاطرون مع ذويهم..ثم جاءت هناء حسن النهر تصحبها عمتها فريدة ثم سهيل الهنداوي وأخوه الأكبر نزار (كلاهما سيصبح فناناً أو مثّالا)، ثم سلمان سليم وأخته الأكبر سليمة سليم وهما من اليهود هاجروا إلى المغرب، وعماد حسن الحديثي وسعدي حمزة وقاسم عبد الحميد وعزيز محسن ومحمد نصيف، وأظن محمد فاضل والأخوة حازم ومازن عبد الحميد النعيمي.. وأخرون، استقبلتنا المديرة صبرية أمين الدليمي وأجلستني وأختي رجاء مع أختها نزيهة عند منضدة صغيرة وكراسٍ..
لم يكن هدف رياض الأطفال تعليمياً وإنما تربوياً لإكساب الطلبة الصغار بعض المهارات وتنشيط ذاكرتهم وتركيز انتباههم على بعض المعارف وحفظ الأناشيد وتحويل الأرقام من مجردات إلى مجسمات لإدراك معانيها باستخدام وسائل الإيضاح، وقد أحببت نشيد " مليكنا المحبوب" ونشيد تمثيلي " هيك وهيك يعمل الفلاح"... وأعطيت لنا أقلام ملونة لنرسم ما نريد.. وكنا نتريض ببعض التمارين السويدية لتنشيط الجهاز الحركي؛ وكانت الوجبات هي كوب حليب مع حبات من التمر على الأغلب !
بدأت أتكيف مع جو الروضة وأصبحت من محبيها، أروي للأهل ما يحث بها بالتفصيل الممل، وكنا ننطلق في الفرص البينية نلعب ونلهو باشراف المديرة التي توجهنا في اللعب.. كانت الروضة تحتوي على حانوت صغير تديره المعينة "كَنطار" حيث كنا نتحصل من الوالد أنا وشقيقتي كلٌّ على عانة "آنة" والكلمة هندية من أجزاء الروبية الهندية التي أدخلها المستعمر البريطاني وكانت تساوي أربعة فلوس.. وقيمتها الشرائية لا بأس بها نشتري اللقم أو كعب الغزال، أو الشوكولات.. ومن العملة العراقية الدرهم ويساوي خمسين فَلساً، والدينار عشرين درهَما أي ألف فلس !
وكانت كنطار عالية الصوت حازمة صارمة مما تجعل الأطفال يخافونها.. وكانت تقرب المديرة صبرية، أظن أنها عمتها، وقد جاء ذكرها في كتاب إسماعيل العارف عن ثورة 14 تموز، حيث شغل وزارة المعارف، روى أنه طرق سمع الزعيم قاسم عن سيدة من أهالي الصويرة، إذ لم يكن لديها خدمة مايكفي للحصول على التقاعد بفارق صغير سنة أو بعض سنة عن سن التقاعد، والزعيم هو صويري يعرفها حق المعرفة، يقول العارف أن الزعيم فاتحه بمساعدتها بالنظر لظرفها الصعب وتمت مساعدتها، ويروي العارف بأنها أول وآخر واسطة عمل بها الزعيم بوازع إنساني، وهكذا دخلت "كَنطار" تاريخ ثورة الرابع عشر من تموز!
كنا نخرج مرات بفسحة في حديقة الروضة ثم نذهب نتمشى على السدة بحراسة المديرة صبرية وكنطار، والمديرة تشرح لنا عند توقفنا أمام إسالة الماء التي انشأت للتو، بخزانها العملاق وبنايتها وسياجها المُشبّك الأخضر ثم نذهب إلى السدة الأولى المحاذية للنهر ومزارع الخضروات التي من محاصيلها نبع خيار ولوبياء وباذنجان...الخ. ونعود للروضة..
كانت المديرة حريصة أن يستلم ذوو التلاميذ الصغار أبناءهم..من الروضة للعودة إلى المنزل ونحلم أن ينقضي سواد الليل بسرعة لنذهب للروضة..
أذكر مرة وأنا طالب جامعي اركب باص رقم 63 صعدت وجلست في مكان فارغ جنب سيدة وإذا بها الأستاذة صبرية فخانتني الشجاعة أن اسلّم عليها ونزلت في شارع فلسطين غير بعيد عن بيتنا، وقد خبّرتها شقيقتي فقالت : لو عرفته لبادرت بالسلام عليه..
كانت مدينتنا الصغيرة من أجمل المدن وأنظفها وحين حلّ عام 57 كان قائممقامها الأستاذ المثقف باقر الدجيلي الذي جعل مدينة الصويرة جنة حقيقية في المعمار والشوارع المبلطة وحسن التنظيم والحدائق المزدهرة.. وقد أصبح الدجيلي وزيراً للبلديات في العهد الجمهوري .
سقياً ورعياً لزمان جرى خبباً وخلّف ذكريات عزيزة لاتنسى!
بانغكوك
في20أيلول 2020