لا شک فـﻰ أنّ الأدب العربـﻰ و الفارسـﻰ بمقوماتهما العريقة و تجاربهما الخصبة ، يعدّان رکنين رصينين فی تشييد الحضارة الإسلامية و العالمية . إنّ الأدب العربی لقد استطاع أن يتسّرب إلی أعماق الأدب الفارسی تسربّاً ودّياً عجيباً و هو يهديه أغراضاً حديثة و أساليب متعدّدة . أمّا بالنسبة إلی الأدب الفارسی ، فإنّه استقبله بترحيب حارّ و حسن ضيافة و حفاوة بالغة حيث شمّر عن ساعد الجدّ لإکماله و تطوّره .
إنّ هذا المقال ستعرض قطعة موجزة من تیيارات هذا التفاعل علی مستوی النقد المقارن ، فی الخمرة المادّة ، لدی شاعرين کبيرين هما ؛ ابـو نواس الأهوازﻯ البصرﻯ و الرّودکـﻰ السمرقندﻯ .
و الخلاصة أن هذا المقال يرمی إلی دراسة هاتين المسألتين :
أوّلهما : جولة عابرة فـﻰ تطوّر الخمرة المادّية فی کلا الأدبين .
و ثانيهما : دراسة تحليلية و تطبيقیية فی الخمرة المادّة عند ابی نواس و الرّودکی من حيث المضامين و الأساليب .
الکلمات الأصلية : الخمرة المادّية - ابونواس - الرّودکـﻰ السمرقندﻯ - الأدب التطبيقـﻰ .
1)التوطئة
إنّ التاریخ الأدبي أوقُل : التاريخ الإنساني ، لم يعرف التقاء أکثر غنیً و شمولاً من التقاء العرب و الإيرانيين علی مستويات عديدة و متنوّعة .
و هذه العلاقات الوطيدة التي يعود تاريخها إلی أقدم العصور ، قد برزت منذ البعثة المحمّدية و استمرّت حتّی العصر الحدیث فی ضوء علاقة قد بُنيت علی أساس الرّحمة و التّقوی و العدل ، لا العرق و الجنس و اللّون . و بما أنّ اللّغة العربية کانت لغة القرآن و الدن الجديد ، فقد أقبل أبناء الفرس علی تعلّمها و إتقانها کأهلها . و في إثر هذه الرّغبة ، صار کثيرمنهم يتقن اللّسانين حديثاً و کتابة . و من ثمّ أخذوا ينقلون إلی اللّغة العربية جمّاً غفيراً من معارفهم القدمة المکتوبة بلغاتها الأصلية ؛ فی کافّة المجالات العلمیية و الأدبیية .
و هنا أری لازماً علی نَفسي أن أختار بلاغة الإیجاز فی ذکر هذه العلاقات الوثیقة فی مجال الأدب ؛ لأنّ الحدیث عنها کلّها یحتاج إلی دراسات کثیرة ، عارفاّ بأنّ هناک بعض المحققین قبلنا سبقنا إلی ذکر نُتف منها . و الإیجاز في بيان تلک المشترکات هو أنّ هناک موضوعات أدبیية متنوّعة تبودلت فی الأدبين العربي و الفارسی ، أوانتقلت من أحدهما إلی الآخر ، ثمّ صارت موضوعاً حدثاً إتّخذت شکلاً رفيعاً علی مرّ العصور فنتج عنه فنّ آخر تّسم بلون عربـﻰّ أوفارسـﻰّ .
و قبل أن أدخل فی صميم البحث يلزم عليّ أن أفسّر و أعرّف مصطلح «الشعر الخمری» في صبغته المادّیّة. في الواقع أن الغرض من الشعر الخمري المادّيّ هو «فنّ غنائيّ وصفيّ وجدانيّ ، یقوم علی وصف الشاعر للخمر في لونها و صفائها و نقائها و لطافتها ، و مجالسها و نُدمائها ، و کووسها و أباريقها ، و وصف ماتترکه في الجسم من خَدَرٍ ، و في النّفس من نشوة و غبطة و ارتفاع فوق الحُجب الواقع» (عبد النور ، 1979 م :173) . أو بعبارة أخری «في هذا النّوع من الشعرالغنائيّ يصف الشاعر، الخمر ، وصفاً يکون في مضمار العين و الحسّ و اللّذّة ، مستقصياً فيه کلّ ما يتعلّق بمنظورها و مشمولها و مذاقها و تأثيرها في الحسّ ، معنياً فیه بذات الخمر و لابشيء سواها (صدقی ، 1957 م : 168 - 170) .
فقد حان الآن الوقت لنا أن نوضّح قصدنا من « المدرسة المادّية » - أو الإتجاه المادّﻯ - للشعر الخمرﻯ المقصود من المدرسة المادّیّة فـﻰ هذا النّوع من الشعر الغنائـﻰ هـﻰ مدرسة تّجه فيها الشاعر ، إتجاه «المادّة» و «الحسّ» . إنّه يضرم فـﻰ نفسه نار الغريزة الجسدية إضراماً ویتهتّک فـﻰ ذکر و مجونه ، مصوّراً نشوة تلک اللّذة المادّية التـﻰ يحسّها بجسمه فصار فـﻰ إثرها مغرقاً منغمساً ، أومذکّراً لتلک اللّذة التـﻰ لم تخمد و لم تهدأ فصار الشاعر من معاناتها ، صارخاً و صاخباً ، ولذلک یصفها باکياً ، بل لاعناً ساخطاً.
إنّ الشعر الخمري في القرون الأولی لکلا الأدبين ، العربي و الفارسي ، کان محدود الموضوع بحيث لا يتجاوز الوصف المادّي بما قيل فيه من اللّذة و الحسّ . إنّ «الأعشی» کان إمام هذه الصّناعة في الجاهلیّة ، و ممّن ألمّوا بوصفها ؛ عدﻯ بن زید العبادﻯ و عمرو بن کلثوم و طرفة بن العبد . و بعد الجاهلیّة و رغم بزوغ فجرالإسلام و تحریم الخمر تدرّجاً ، اشتر بوصفها ؛ ابو محجن الثّقفي ، و یزید بن معاویة و الولید بن یزید و الأخطل التّغلبی و صریع الغوانـﻰ .
و ما إن جاء العصر العبّاسي حتّی أخذ الشعراء یمیلون إلی وصف الخمر میلاً ، بحیث جعلوا القصیدة العربیة وقفاًً علی هذا الفنّ الشّعري أو استهلّوها بتحسین شربها ، بدلاً من وصف الأطلال أوالنّسیب أوالتّشبیب . یحدّثنا تاریخ الشعر العباسي بأنّ أبانواس هو الّذي أفرد فی هذا العصر و لعلّ في کلّ العصور ، بوصف الخمرة بما أمعن في نعتها ، و حتّی بلغ ما قال فیها بضعة آلاف من الأبیات . المدرسة الخمریة التی ابتدعها شاعرنا ، صارت نموذجاً مثالیّاً للشعراء الخمریین فی کلا الأدبین العربي و الفارسي (أنظر : الحاوي ، بدون التاریخ ؛ 9 ، 79 ، 97 ، 175) .
أمّا الخمرة فکانت جزأً أساسیّاً من الحیاة الأرستقراطیة عند الفرس و لکن الشّعرالخمرﻯّ لم یکن لدیهم - رغم شيوع الخمرة - من البدایة غرضاً مستقلّا ، بل قدجا في ضمن بقیة الأغراض الشعریة في أبیات قلیلة دون أي توسّع و تنوّع ، حتّی تطورت العلاقات الثقافیة بین العرب و الفرس فأخذ الشعراء الفرس هذا الغرض الشعري من العرب فوصفوها خاصّة فی تلک المراحل إلی نهایة القرن الخامس وصفاً مادّیاً و هم یقلّدون الشعراء العرب مثل ؛ الأعشی و الأخطل و أبي نواس .
أبرز الشعراء الفرس فی هذا الغرض الشعري ؛ الرّودکي السمرقندي (أواسط القرن الثالث -319 ﻫ) الذي یعدّ مؤسس الشعر الخمري المادّي و رائدها في الشعر الفارسي ، ثمّ الذي بلغ مقام أبي نواس في الشعرالفارسي هوأبوالنّجم أحمد بن قوص بن أحمد المنوچهري الدّامغانی (أواخرالقرن الرّابع أو أوائل القرن الخامس - 432 ﻫ ) صاحب الخمريات الرّائعة والمتنوّعة (أنظر: هدارة ، 1389 ﻫ . ق - 1969 م : 478 / رستگار فسایی 1373 ﻫ . ش : 281 ) .
نحن فی هذه المقالة - التي تعدّ في حقل ألادب التطبيقی - بصدد أن نبحث عن أساليب الشعر الخمرﻯ لدی زعيمه في الشعر العربي ( ابی نواس ) ورائده الأوّل في الشعر الفارسي ( الرّودکي السمرقندي ) متأمّلین فی مضامينهما الشعریة ، متبينين عن مکانتهما في هذا الشعر . و فی البدء و لکـﻰ نفصّل في الأمر ، لابدّ أن نعرف أسباب نزعتهما الخمرية ؛
2) بواعث نزعتهما الخمرية
2-1 ) العوامل النّفسانية :
إن الصّلة بین الأدب و النفس لاتحتاج إلی اثبات ؛ النفس تصنع الأدب ، ولذلک یصنع الأدب النفس ، النفس تجمع أطراف الحیاة لکي تصنع منها الأدب ، والأدب یرتاد حقائق الحیاة لکي یضيء جوانب النفس . و النفس التي تتلقي الحیاة لتصنع الأدب هي النفس التي تتلقی الأدب لتصنع الحیاة . في الواقع أنهما دائرتان لایفترق طرفاهما إلّا لکـﻰ یلتقیا ، و هما حین یلتقیان ، یضعان حول الحیاة إطاراً فیصنعان لها بذلک معنیً . إذن نستنتج أنّ الأدب یستمدّ من النفس کما أنّ النفس تستمدّ من الأدب ، و العلاقة بینهما علاقه تبادل من التأثیر و التّأثّر (اسماعیل ، 1988 م :13) .
2-1-1) ابونواس الأهوازي البصري
أوّلاً ؛ أنّ الخطيئة الأولی فی شخصّية ابی نواس ، کانت خطيئة التّربية و النشاءة إذ لم يشعر بجوّ البيت و صرامة الوالد ، کما أنّ والدته أهملته و جعلته يستطلع الحياة و يتدرّب علی العيش فيها بأسلوبه الخاصّ ، فانحرف في صباه و انحرفت حياته جميعاً (الحاوی ، بدون تاریخ ، ص 211) .
ثانیاً ؛ أنّ حبّه للجارية «جنان» تمثّل عقدة مزدوجة في نفسه فهذه الجاریة تعذّبه بصدودها و ربّما احتقارها ، و لو قدّر لأبـﻰ نواس أن يحظی بحبّ جنان ، لأنطفأت جذوته ، و لغدا أمره فی الحبّ کأمور الناّس جميعاً . هکذا يقول شاعرنا فی وصف جنان ؛
شَـهِدِتْجَلْـوَةَ العَرُوْسِ جِــنَانُ فَاسـْتَمَالَــتْ بِحُسـْـنِهَا النّظَـــاَرُهْ
حَسَــبُوهَا العَرُوسَ حِينَ رَأوْهَـا فَإِلَيهَـــا ، دُونَ العَـرُوسِ الإشَــارَهْ
قَََالَ أَهلُ العَرُوسِِ ، حِيــنَ رَأَوهَا مَا دَهَانَا بِهَا سِوَی عَمَّارَه(الخفيف)
(ابونواس (الغزليات) ، 1986 م : 127)
ولکن العاطفة الجنسیية أو «العقدة النّرجسیية » بقت لديها متأجّجة فتحوّل بها عن المرأة إلی الرّجل بحيث مُلأ ديوانه بالغزليات الغلمانية مکشفاً فيها عن ولعه بالتّهتّک و المجون ، مسرفاً لها في حياته أیيما إسراف ، منادماً مع الخلفاء ، متأثّراً بائمة الخلاعة و المجون کأمثال والبة بن الحُباب و مطيع بن إياس و حسین بن الضّحاک و حّماد عجرد (العقاد ، 1986 م : 33) .
و هنا نعرض نموذجاً و هو یتغزّلُ بساقیه الفتی القبطي المصری یصفه بأنُّه بدیع الخلق ، لطیف الخصر کالفرس الرّبیط ؛
بَدِیـعُ الخَلــقِ مَوفُورِ الخُطُــوطِ لَطِیفُ الخَصرِ کَالفَرَسِ الرَّبیطِ (الوافر)
(ابونواس (الغزلیات) ، 1986 م : 309)
ثالثاً ؛ کان ابونواس ، حسن الوجه ، رقیق اللّون ، أبیض ، حلوالشمائل ، و کان في رأسه سماحة و تسفیط حیث کان یُسدله علی وجهه و قفاه ، و کان ألثغ یجعل الرّاءغیناً ، نحیفاً ، في حلقه بُحَّةٌ لا تفارقه ، و طالما کان یتغنّی بها ، و یعبّرعن ملاحته (ابن منظور ، 1927 م : 6) .
و قد جاوزالشباب في هذین البیتین :
تُتِیهُ عَلَینَا إِنْ رُزِقتَ مَلَاحةً فَمَهلاً عَلَینَا بَعضَ تِیهِکَ یَابَدرُ
فَقَد طَالَما کُنَّا مَلَاحاً وَ رُبَّمَا صَدَدنَا وَ تُهنَا ثُمَُ غَیَّرَنَا الدّهرُ (الطویل)
( ابونواس (الخمریات ) 1986 م : 107 )
و هذه صورة لفتیً فیه مظاهر البیاض و الرّقة و النّعومة و الملاحة و الشّعر المتهدّل ، و هي أشبه ماتکون بملامح الفتی نرجس الذي حنا علی الجدول فاستحال نرجسته ، و اتّخذه الأسطوریون الیونان ، نموذجاً للجمال المفتون بمحاسنه (العقاد ، 1980 م : 16 ، 78 ، 79) .
رابعاً ؛ هویعانـﻰ من جهله لسرّ نفسه و سرّ الکون ، فهولاینفک یشکّک في ذکر الدین و القیامة و الأوامر و النّواهي و ما أشبه ، مصوّراً تنازع الإنسان مع الیقین :
أََحـلِي وَ ﺃجمَلِ مــِن تَنَظُّــرِ آجِــلٍ عِلمِـــي بِـهِ ضَرﹾبٌ مِــنَ الأَســوَارِ
مَـــاجَـاءَنَـ«ا أَحَــدٌ یُخَبّـــِرُ أَنَّــهُ فِي جَنَّةٍ مَن مَاتَ أَمﹾ فِي نَارِ (البسیط)
(ابونواس (الخمریات) ، 1986 م : 127) .
تلک کانت البواعث الجوهریة النّّفسیّة التي أثرت في نفسیّة أبـﻰ نواس فجعلته مرّة یشرب الخمر و یتعبّدها و مرّة جعلته رجل البؤس و الحرمان لاجئاً إلیها لعلّه ینسی همومه. فلأجل هذا تعدّ خمریاته مرآة صادقة تنعکس علیها نفسیة الشاعر الماجنة .
2-1-2) الرّودکي السمرقندی
أوّلاً : أنّه سُمّي ﺑ«شاعر روشن بین» یعنی «الشاعر البصیر» . و هذا یدلّ علی أنّه یعانـﻰ من ذلک الواقع الألیم الذی یعانـﻰ منه «الأعشی» . یشیر ناصر خسرو قبادیاني البلخـﻰ (394-481 ه. ق) إلی هذا النقص لدی شاعرنا حیث یقول :
اشعار زهد و پند بســی گفتســت آن تیره چشم شاعر روشن بین (المضارع)
(رودکي سمرقندی ، 1336 ه. ش : 393)
إذن لیس بعجیب أن یعاقرها هرباً من هذا الواقع الألیم کما قیل في الأعشی الجاهلي و إن لم یکن مکفوف البصر منذ و لادته ( أنظر : رودکي سمرقندي، 1336 ﻫ. ش : 405 ) .
ثانیاً ؛ شعره یبیّن قلق الأنسان الذي تحیّر بین حقائق المصیر و التّصّرف ، یتأمّلها و یحدّق فیهما لکنّه لا ینفذ منها إلی یقین دائم ، فیتردّی في المجون و العبث و یطلب کأساً التي لیست کأس خمرة و إنّما هي کأس سلوة ؛
باد و ابر است این جهان ، افسوس باده پیش آر ، هر چه شد بادا باد (الخفیف)
(المصدر السابق ، 495/107)
ثالثاً ؛ أنّ شاعرنا قد بلغ في نفسیّته - مثل ابي نواس - إلی أنّ الخمر تهبّ الإنسان الشرف و الکرم و کذلک النجیب یشتری من غالیها ؛
مَی آرد شرف مرد ، می پدید آزاده نژاد از درم خرید (المضارع)
(المصدر السابق ،499/ 221)
و یبدوأنّ الشاعر یترجم هذا البیت من أبي نواس حیث قال :
فَإنَّ الکَرمَ مِن کَرَمٍ وَجُودٍ وَ مَاءُ الکَرﹾمِ لِلرَّجُلِ الکَرِیمِ (الوافر)
(ابونواس (الخمریات) ، 1986 م : 345)
رابعاً : یبدو أنّ الخمرة کانت مادّة لهو و عبثه یعلّها للتسلیة خاصّة حین یقول ؛ إنّ الخمرة المشعشعة و التّذاور و الإمرأة الحسناء ، رغم ندورها مازالت حاصلة علـﻰّ متی ما أردتها ؛
نبیذ روشن و دیدار خواب و روی لطیف اگر گران بد ، زی من همیشه ارزان بود (المجتث)
(رودکی سمرقندی ، 1336 ﻫ.ش ( الباب الأوّل): 205/499)
2-2) البواعث الإجتماعیّة و الثّقافیه و الدّینیّة و السّیاسّیة :
الحضارة و الرّخاء ممّا یؤثّر في الذّوق و یزید في الصّور و المناظر و ینّوع في معانی الآداب و أغراضه ، و أثر الثقافة و العلم یکون في ترقیة العقل و تقویة الشعور و تنمیة التصّور کما أنّ للدین و ما یتّصل به من أخلاق و معتقدات ، تأثیراً کبیراً في الآداب ؛ فإنّه یخلق موضوعات جدیدة و یؤثّر في الأخلاق و العواطف تأثیراً یتردّد صداه فی مناحي الأدب ، و للنظام السیاسي أیضاً أثر بالغ في خلق فنون من الأدب أو إزدهار بعض ألوانه أوانحطاط بعضها (خفاجی ، 1982 م : 11) .
النواسيّ فارسي الأصل ، لکنّه عربـّﻰ المربع . إنه عاش فی عصر وصل مجتمعه من استهتار بالمعاصي و إستهزاء من الدین بسبب انتشار البدع ، إلی ذروة الفسق و الفجور . یتناول ابونواس في تصویر عصره بما ابتلی به عصره من خلاعة و مجون و فتک و بما عرف به من ثقافة و فنون ، و ما فیه من تفاعل بین الحیاة و الأدب . شعره یحمل لغة الجواري و الغلمان بتخنّثها و ظرفها ؛ و لغة الخمّارین و المجّان و أخبارهم و معابثاتهم ، کما یعدّ أصدق صورة لمجالسته مع «هارون الرّشید» و «الأمین» و غیرهما من الوزراء و الحکام و الأمراء الذین عاشوا في فساد سیاسي سافر (البستانی ، 1986 م ، 2: 90) .
أمّا ابوعبدالله جعفربن محمد الرّودکي السمرقندي ؛ فولد في قریة «بنج» من قراء رودک - من ضواحی سمرقند - و ما مرّ من حیاته شيء حتّی أعجب به الأمراء و الشعراء من فنّه و تبحّره في الموسیقا و التّغنّي بالشعر. الأخبار و الأشعارالتـﻰ جُمعت فیه ، تدلّ علی أنّه کان کثیرالتّنقل بین بلاط الأمراء و الحکام یحضر في مجالسهم و یجلس مع الحصان و الخمّارین ، بحیث ینشد أشهر خمریاته (مادرمی = أمّ الخمر) في مجلس الأمیر «سعید بن نصراحمد بن اسماعیل (331- 351 ﻫ )بمناسبة انتصار «أبي جعفرأحمد بن خلف بن اللیث » المعروف به « بانویه » علی الأمیر ، «ماکان بن کاکی »( صفا 137 ﻫ.ش ، : 372 -375 ) . مطلع هذه القصیدة التی تعتبر من أمّهات الشعر الفارسی هو :
مادرِمَي را بکرد باید به قربان بچه او را گرفت و کرد به زندان ( المضارع )
( رودکی سمرقندی ، 1336 ه.ش ، الباب الأوّل : 506/ 359 )
فضلاً عمّا قلنا فیه ، قیل أنّ شاعرناینتمي إلی القرامطة استناداً إلی ما قال معاصره «الشّهید البلخي » . هذا المذهب الذي عُدَّ في عداد الزندیق ، قد بُني علی تفسیر محرّر من الدّین والعقائد الدّینیّة و ربّما له أثر في نزعته الخمریة ( أنظر : المصدر السابق ، « المقدّمة » ، ص 14 ).
فهذه نبذة لحیاة من عاش في جوّ من الفساد و الفسق و الفجور و اللّادیني، فلیس ببدع أن یهرب من واقع الحیاة إلی سکرها ولذائذها . ولوبقی لنا شيء کثیر من أشعاره لکنّا نتسطیع أن نقارن بینهما أکثر - کما یقول زرین کوب ، 1362 ﻫ.ش : 15 - من الآن .
3) وقفة تحلیلیّة و تطبیقیّة في الموضوعات :
3-1 ) جوهر الخمر المّادي
إذا أنعمنا النّظر فیما جاءت في دیوانیهما ، یفتح لنا البحث موضوعاً مهمّاً و هو أنّ هذین الشاعرین یتحدّثان عن جوهر الخمر المّادي - خاصّة عند النواسيّ -مغایراً لما کان معروفاً عند الآخرین . الخمرة عند ابي نواس یماثل جوهرها جوهر الضیاء و هي تمتزج به فتتولّد الأضواء و الأنوار :
فَلَو مَزَجتَ بِهَا نُوراً لَمَازَجَها حتّی تَوَلَّدَ أنوارٌ وَ أَضواءُ ( البسیط )
( ابونواس( الخمریات) ، 1986 م : 10 )
و هذا الرّودکـﻰ السمرقندﻯ الذﻯ یقارن بین جوهر الخمر و العقیق و هو یفضّل جوهرها علی العقیق هکذا؛
رودکـی ، چنگ بـرگرفت و نواخـت بـاده انـداز ، کـو سـرود انـداخــت
زان عقیـق مییـی کـه هـر که بـدیـد از عقیــق گــداختــه نشنــاخــت
هر دو یک گوهرند ، لیـک بـه طبـع ایـن بیفسـرد و آن دگـر بگداخــت
نابســوده ، دو دست رنگیــن کـرد ناچشیده به ترک اندر تاخت (خفیف)
( رودکـﻰ سمرقندی ، 1336 ﻫ.ش ، الباب الأوّل : 493 / 61 - 64 )
3-2) الخمر واللّذة
بعد الإسترسال في الحدیث عن جوهر الخمر المادّي فالمقام هنا یقتضي أن نتوقّف للحدیث عن إحدی الخصائص العامّة التي تتمیّز بها هذه المدرسة ( المدرسةالمادّیة ) و هي اللّذة المادّیة .
في الحقیقة أنّ أولی خصائص الشعر الخمري وأبرزها، هـﻰ مایقوم الشاعر بوصف الخمر وصفاً یکون في إطارالحسّ و اللّذة ، مستقصیاً فیه کلّ ما یتعلّق بمنظورها و مشمولها و مذاقها و تأثیرها في الجسم ، معنیاً فیه بذات الخمر لا بشيء سواها .
في هنا نستمع إلی « عبید الخمر » و إلی من عُرف بها و عُرِفت به یعنی زعیم المدرسة المادّیین ،ابـﻰ نواس ، حیث یقول : ماالجهل کلّ الجهل إلی أن یُری صاحیاً و ما العیش الکریم إلّا أن یُری یلذّ و یسکر ؛
فَمَــا الطَّیشُ إِِلَّـا أَن تَرَانِــﻰ صَاحیــاً ، وَ مَاالعَیشُ إِلّا أَن اََلَذَّ ، فَأَشکَرَا « الطویل »
( ابو نواس ( الخمریات )1986م : 175 )
و یقول شاعرنا ، الرّودکي السمرقندي ؛ أیّها السّاقـﻰ ! هات الرّاح و غنّ یا مطرب ! لنحتسـﻰ الخمرة و حان لنا وقت الطرب و اللّهو ؛
ساقی ! تـو بده باده و مطرب تو بــزن رود تا می خورم که وقت طرب ماست ( الهزج )
( رودکی سمرقندی ، 1336 ﻫ.ش الباب الأوّل : 493 / 72 )
3-3 ) الخمرة و الموت :
إنّ رغبة الشعراء المادّیین في الخمر ، قد أدّتهم إلی تفاسیر مختلفه عن الحیاة و الموت . امّا الأغلبیة السّاحقة فیرون الحیاة کلّها فرصة للذّة و التّنعّم ، لابدّ للانسان أن یتنعّم بها تنعّماً ؛ لأنّهاتمرّ مرّ السحاب و الخمرة وسیلة لشفاء هذا الهمّ و نسیانه .
فتری ابونواس یوصّی خلیله بأن لایحضرا قبره إلّا « بقطربل » حیث الکروم الکثیرة و المشهورة بجودة خمورها وأن یدفن بین المعاصر و أن لایدنی من السنبل فلعلّه في رقاده یسمع أصوات الأرجل و هي تعصر الخمرة ؛
خَلِیلَـیَّ بــاللهِ لَــا تَحفِـرا لِــﻰَ القَبــرَ إِلَّا بِقـطرَ بـُلِ
خِلالَ المعَاصرِ بَینَ الکُـرومِ وَلَاتُدنِیَانــﻰ مِـنَ السُّنبُــلِ
لَعَلِّـي أَسمَـعُ فِـي حُفــرِتِي إِذَا عُصِرَت ، ضَجَّةَ الأَرﹾجُلِ
(ابونواس( الخمریات ) ، 986 م : 293 )
فیقول شاعرنا ، الرّودکي السمرقندی ، هو یتحدّث عن إبادة الحیاة متحیّراً عن الموت ؛ کُلّنا نحتسي الروح و نستریح بعدها طیبین ، لکنّک تسکن في قعر الثری دون خلیل و من مات لا یحیی ( لا یعود ) مرّة أخری :
ما همه خوش خوردیم و خوش خسبیم تــو در آن گــور تنــگ تنهــایــی
نـه چنـان خفتـه ای کـه بـر خیــزی نه چنان رفته ای که باز آیی ( الخفیف )
(رودکي سمرقندي ، 1373 ه.ش ( رباعیّات ) : 178 )
3-4 ) الخمرة و الهمّ
یبدو أن أکثر الشعراء الخمریین یلجؤونَ إلی الخمر بسبب عوامل مختلفة و من جملة هذه العوامل و لعلّ أهمهّا هي أنهّم یستخدمون الخمر للهروب من الواقعّیات السّائدة علی حیاتهم الفردیّة أولإجتماعیّة ، بحیث تصبح الحیاة في مذهبهم ذهولاً عن همومها و شقاواتها عن طریق الإنغماس فـﻰ اللّذة حتّی تتخدّر أعصابهم مذهلین عن الحیاة و مالها .
وإنّ من یلقـﻰ النّظر إلی خمریات أبي نواس یلاخط أن شاعرنا کثیراً ما یری أنّ الخمره تسلب الهموم و تعیّر القلب حلّة من السرور ؛ إنّه یراها ( الخمر ) نعم وسیلة یستخدمها صاحب الهمّ للتفریج عن همّه ؛
نِعــمَ سِــلَاحُ الفَتَـــی المُـــدَامُ إِذَا سَاوَرَهُ الهَمُّ ، أََم بِهِ جَمَحَا ( المنسرح )
ابو نواس ( الخمریات ) ، 1986 م : 100)
ویقول الرّودکي السمرقندي ؛ لنا الخمرو النّدیم و قصر کالإرم ذات العماد ، بعیدین عن الهمّ و الحزن و إن کان هناک غمّ ، فللأ عداء ؛
مَـی هســت ، وارم هـســت ، و بـت لالــه رخــان هســت
غـــم نیـست ، گــر هســت ، نصیـب دل اعداست (الهزج )
( رودکی سمرقندی ،1336 ه.ش الباب الاوّل : 494/73 )
و لکـﻰ لانطیل في الکلام ، هنا نشیر فقط إلی بعض هذه الموضوعات المشترکة في شعرهما :
3-5) الخمرة و الدّین :
- ابونواس : وَإِن قَالُوا : حَرَامٌ ؟ قُل : حَرَامٌ وَلکنَّ الّلذَاذَةَ في الحَرَامِ (الوافر )
(ابو نواس الخمریات )، 1986 م : 367 )
الرّودکی : شد روزه و تسبیح و تراویح به یک جای عید آمد و آمد مي و معشوق وملاهی (الهزج)
( رودکی سمرقندی ، 1336 هـ .ش الباب الاول ،513/ 558 )
3-6 ) الخمرة واللّوم :
- ابونواس : دَع عَنکَ لَومـﻰ ، فإِنَّ اللَََّومَ إِغرَاءُ وَدَاوِني بِالََّتـﻰ کَانَت هِيَ الدَّاءُ (البسیط)
(ابو نواس الخمریات )، 1986 م : 9 )
- الرّودکی : دیوانگان بیهشمان خوانند دیوانگان نی ایم ، که مستانیم ( المضارع )
( الرودکی سمرقندی ، 1336 هـ .ش ، الباب الاوّل :505 /354 )
3-7 ) الخمرة و تأثیرها :
- ابونواس : صَفراءُ ، لَاتَنزِلُ ِالأَحزَانُ سَاحَتَها لَو مَسَّهَا حَجَرٌ ، مَسَّتهُ سَرَّاءُ ( البسیط )
( ابونواس ( الخمریات ) ، 1986 م : 9 )
- الرودکی : سماع و بادۀ گلگون و لعبتان چو ماه اگر فرشته بیند در افتد در چاه (المجتث )
( رودکـﻰ سمرقندي ، 1336 هـ .ش ، الباب الأوّل : 510 / 481 )
بسا که مست در این خانه بودم و شادان چنانک جاه من افزون بد از امیر ملوک ( المجتث )
( المصدر السابق ، 504 / 327 )
3-8 ) وصف شعاع الخمرة :
- ابونواس : حِیریَّةٌ ، کُشُعاعِ الشَّمسِ ، صَافِیَةٌ یُحِیطُ بِالکَأسِ مِن لأ لاَئِهَا شُعَلُ ( البسیط)
( ابونواس ( الخمریات ) ، 1986 م : 306 )
- الرّودکی : بیارآن می که پنداری روان یاقوت نابستی
و یا چون برکشیده تیغ پیش آفتابستی ( الهزج )
( رودکی سمرقندی ، 1336 هـ .ش ، 503 /511 )
3-9 ) وصف ریح الخمرة :
- ابونواس : لَا تَحفِلَنَّ بِقَولِ الزَّاجرِ اللّاحِي واشرَب عَلَی الوَردِ مِن مَشمُولَةِ الرَّاحِ ( البسیط )
( ابو نواس ( الخمریات ) ، 1986 م : 154 )
- الرّودکی : ورش ببویی ، گمان بری که گل سرخ بوی بوداد و مشک و عنبر با بان (المضارع )
( رودکی سمرقندی ، 1336 هـ .ش 337 /506 )
4 ) خصائص أسالیبهما الشعریة
4-1) التقلید و التجدید
إن أبانواس یحتذﻯ و یجارﻯ في أسلوبه نهج الأعشی و الأخطل و مسلم بن الولید و الآخرین من الشعراء العرب ، کما أنّ الرّودکي - من الأحیان - یحتذی حذوهم من حیث المضامین و الأسالیب لکنهما (ابونواس و الرودکی) ألبسا علیهما (المضون و الأسلوب) ثوباً جدیداً یمتاز بالإبداع و الإبتکار بحیث یطلق علی شعرم ؛ اسلوب ابی نواس أوأسلوب الرّودکی .
امّا من حیث التجدید فإن شاعرنا ، أبانواس ، لایستهلّ قصائده الخمریة - مثل الأعشی و الأخطل و مسلم بن ولید - بالوقوف علی الأطلال و الدّمن و لایبکي لمنزلة «کانت تحلّ بها هند و أسماء » بل یختصّ قصائد مستقلة بالخمر و یبکی «لتلک» (الخمرة) و یری «قبحاً» أن «تبنی الخیام لها » و «و أن تروح علیها الإبل و الشاء» . بعبارة أخری إنه یعدّ زعیم الشعراء الخمریین في الأدب العربی بحیث عرفت الخمرة به کما عرف بها .
أمّا الرّودکي السمرقندی فمقامه في التجدید الشعري کمقام أبي نواس ؛ لأنّنا لانجد شاعراً فارسیّاً قد وصف الخمرة قبله نحو هذه الرّقة و السّلاسة . إنّه یمزج بین الخمر و المدیح و الغزل والحکمة ، لکنّه من الأحیان یصف الخمرة وصفاً مستقلّاً تمیّز بالعذوبة و الرّقة ، خاصّة حین یشخّص و یکثر من «الصّنعة الوجدانیة» الّتي لایحسّ القاریءأنّها صنعة ؛ و تتصاعد من ألفاظه و قوافیه موسیقی ساحرة تمتدّ تموّجاتها في النّفس ، و هو یضارع في موسیقاه ، الأعشی ، صنّاجة العرب .
و یکفینا أن نعلم ؛ أنه لویعُدّ ابونواس زعیم الشعراء المتجدّدین في العصر العباسي فإنّ الرّودکي یعدّ زعیم الشعر الفارسي و رائده علی الإطلاق .
4-2 ) المبالغة في أوصاف الخمر
من ینعم النّظر في شعر ابي نواس و الرّودکي یری أنّ کلا الشاعرین - خاصّة ابي نواس - ینظران إلی الخمرة نظرة الحبّ و العبادة و التّقدیس ؛ إذن لیس بعجیب أن نراهما مبالغین في أوصاف الخمر . فهذا هو ابونواس الذي یبالغ في وصف الخمرة و خاطبه الخمّار قائلاً ؛ أوضح لي کیف جئت هنا في هذا اللّیل المظلم ؟ فقلت له : ترفّق بي إفانّني رأیت الصّبح یطلع من دیارکم . فأجاب : صبح ؟! وما الصّبح الذي تتحدّث عنه سوی صبح صور الخمرة ثم ّ قام فسدّ فمّ العقار فاختفی الضّوء ، وعاد اللیل یرخی سدوله ؛
فَکَانَ جَوابُـه أَن قـَالَ : صُبـحٌ ! وَلَا صُبِـحُ سِـوَی ضُـوءُ العُقَـارِ
وَ قَـامَ إِلَـی العُقَارِ فَسَدَّ فَـاهَـا فَعَاد اللَّیلُ مُسوَدَّ الإزَارِ (الوافر)
(أبونواس (الخمریات) 1986 م : 17)
و یقول الرّودکي السمرقندي ؛ لوسقطت قطرة من تلک الخمرة في نهر «نیل» لسکرت جمیع حیطانها و لو شرب الغزال منها قطرة واحدة لصارت أسداً لاتخاف من النّمر :
ز آن مَي که گر سرشکی از آن درچکد به نیل صـد سال مســت باشد از بُــویِ او نهنــگ
آهو به دشــت گــر بخورد قطــره ای از او غرّنده شیر گردد و نندیشد از پلنگ (المضارع)
(رودکی سمرقندی ، 1336 هـ .ش (الباب الأوّل) : 504/231)
4-3) الخمرة و الأسلوب القصصی
و من الأسالیب المشترکة في شعرهما هي أنّهما یعتمدان علی «الأسلوب القصصي» في إعراض وصف الخمر مذکرّین تفاصیلها بأدقّّ شکل ، مراعین فیها «الوحدة العضویة و الموضوعیّة» کعنصرین أساسیین هامیّن .
و هنا نعرض لقصیدة خمریة من أشعار أبي نواس في هذا الباب ، و نذکر هذه القصیدة التی لها أثر کبیر في شعر الرّودکي السمرقندي و المنوچهري الدّامغانی ؛
یَا خَاطِبَ القَهوةِ الصَّهباءِ یَمهُرُهَا بِالرّطلِ یَأﹾخُذُ مِنـهَا مِلأَهُ ذَهَبَا
قَصَّرتَ بالرَّاحِِ فَاخذَر أَن تُسَمِّعَهَا فَیَحلِفُ الکَرمُ أَن لَایَحمِلَ الغِنَبَا
إِنّـﻰ بَذَلتُ لَهَا ، لمَّا بَصُرتُ بِها صَاعاً مِنَ الدّرِّ وَ الیَلقوتِ مَا ثُقِبَا
فَاستَو حَشَــت وَ بَکَــت فِــي الدَّنِّ قَائِلَـةً یَا أمُّ وَیحَــکِ ، أَخشَــی النَّــارَ وَ اللَّهَبَــا
فَقُلــتُ : لَـاتَخــذَرِیــهِ عِنــدَنَــا أَبــداً قَالَت : وَ لَا الشّمس ؟ قُلتُ : الحـرُّ قَد ذَهَبَـا
قَالَـت : فَمَـن خَاطبــﻰ هَـذا ؟ فَقُلـتُ أَنَـا قَالَـت : فَبَعلِــﻰ ؟ قُلتُ : المَــاءُ إن عَذُبَــا
قَالَت : لِقَاحِـــﻰ ؟ فَقُلــتُ : الثّلـجُ أَبـرَدهُ قَالَــت : فَبَیتِــﻰ ؟ فَمَـا استَحسِـنُ الخَشَبَـا
قُلـتُ : القنــَانــﻰ و الأَقـــداح وَلـدهَــا فرعون : قَالَـت : لَقدهَیجـت لــي طربهــا
لـا تُمکِننــي مِـــنَ العربیـدِ یَشـــربنــي و لـا اللئیـــمُ الــذّﻯ إن شَمّنـــی قطبــا
وَ لَـا المَجُــوسُ فَــــإنَّ النّــارَ رَبُّهـــم وَلَـا الیَهُــودُ و لَــامَـن یَعبُــــدُ الصّلبــا
و لـا الـأراذلُ إلّــا مَــن یـــوقّـرنــــي مِــنَ السُّقــاةِ و لکنّـی اسقنـــي العَــربـا
یــا قهـوة حُرمــت إلّا عَلَـــی رَجُـــلٍ أَثریَ فَأتلفَ فِیهَـا المَالَ وَ النَّشَبَــا (البسیط)
(أبونواس ، ( الخمریات) ، 1986م : 526)
إنّ شاعرنا هنا لایکتفی بوصف الخمرة - مثل الأعشی : أنظر دیوانه 1414هـ - 1994م ، ص 284 - بل یجسّد ها و یشخصّها ، أوقل : یجعلها کائناً یتحرّک و یغضب و یشعر و هو یبذل في سبیلها الغالي و الرّخیص ، و یقدّم لها التکریم و الإجلال ، ثمّ یعقد هذا الحوار بینه و بینها ، ثمّ تطلب منه أن یمنع المتهتّک و اللّئیم و المجوس و غیرهم من شربها (أنظر : نورالدین ، 2000 م :449)
ویبدو أنّ «الرّودکي السمرقندي» - و منوچهری الدامغاني أیضاً : أنظر دیوانه : 1363 ه.ش ،ص156 - 163 - قداقتبس عن هذا الأسلوب حیث یتطرق في قصیدته «مادر می = أمّ الخمر» إلی وصف الخمر . إنّ هذه الفصیدة الّتـﻰ تعتبرمن أمّهات الشعر الفارسی یتحدّت الشاعر فیها عن کیفیّة صنع الخمرة حین یأتي الخریف و یجتنی العنب و یجعل في الخمّ لکي یبلغ مبلغ الشّرب . ألاترون کیف یجعل شاعرناً - أوقل : کیف یشخّص و یجسّد - من شجرة العنب ، أمّاً قدسرق طفلها (العنب) ثمّ قبض علیه بالسّجن سبعة أشهر یحرس منها رجلٌ قويّ حتّی یرید الطفل أن یستیقظ و هو یقلي علی النّار؟ ! ثمّ بعد نضجها یفتح بابها و هي في اللّون کیاقوت حمراء أوعقیق یماني ، و في الطّیب کالمسک أو وردة حمراء و في الجلاء و الصّفاء کالشّمس المنیرة ؛
ماد مي را بکــرد باید به قــربان بچه او را گرفت و کـرد به زنــدان
بچه او را از او گــرفت ندانـــی تاش نکویی نخست و زونکشی جان
جز که نباشد حلال دور بکــردن بچه کوچک ز شیر مـادر و پستــان
تا نخورد شیر هفت مه به تمامـی از سر أردی بهشت تا بن آبان (المضارع)
(رودکي سمرقندي ، 1336 هـ .ش ، الباب الأول : 506/359-362)
4-4 ) استعمال صور الخیال
و بما أنّ کلا الشاعرین ینتمیان إلی المدرسة المادّیّة ، فنر اهما یحرصان علی استعمال صور الخیال فـﻰ الشعر الخمرﻯ ، خاصّة فیما تتعلّق بالتشابیه الحسیّة و ولعلّنا لا نُبعد إذا قلنا إنّ هذه التشابیه الحسیّة تدل علی أنّهما کانا مشغوفین و مدمنین بالخمرة ، فصارا فـﻰ إثرها منغمسین ، بحیث لا یبحثان عن الوجود إلّا عن طریق الحواسّ و المادّة کما تدلّ علی حذقهما الأدبـﻰ فـﻰ المشابهة بین الحالات والأشیاء یقول ابونواس : إنّها قهوة تفوح رائحتها کالمسک ، موطنها «الأنبار» و«هیت» ؛
وقهوةٍ کَالمِسکِ مَشمُولَةٍ مَنزِلُهَا «الأَنبارُ» أو«هِیتُ» ( مجروء البسیط )
( ابو نواس ( الخمریات ) 1986 م : 74 )
یقول الرّودکـﻰ : إنّها فـﻰ الکأس ، تبدو صافیة مثل ماء الورد ، أو تراها تبدو هنیئة مثل حلو النّوم لمن أرق ؛
به پاکی گویی اندر جام مانند گلابستی به خوشی گویی اندر دیده ی بی خواب ، خوابستی ( الهزج )
( رودکي سمرقندی ، 1336 هـ .ش ، الباب الأوّل : 511/ 504 )
5)النّتائج
5-1) الملاحظ في شعر هؤلاء الخمرﻯ یجدأ سباباً مشترکة لنزعتهم الخمریة منها ما یتصل بالعوامل النفسانیة و منها مایعود إلی الظروف الإجتماعیّة و الثقافیّة و السیاسیّة .
5-2) المتأمّل في أشعارهما الخمریة یری فیها المضامین و الأسالیب المشترکة و أحیاناً المتبانیة ، بحیث یصل إلی هذا الإستنتاج عن تحوّل الخمر هکذا ؛ من العربیة إلی الفارسیة .
5-3) یبدو أنّ الرّودکی السمرقندي قد اقتبس عن ابي نواس في المعانی الخمریة و أسالیبها لکنّه قد ابتدع و ابتکر فیها و ألبس علیها ثوباً جدیداً فارسیاً .
5-4) إنّ أهمّ مظاهر الخمر في شعرهما هي : «مظهر الوصف» الّذي یعرّضان فیه لنقل مایشخّصان في حواسهما عن الخمرة و «مظهر الوجدانیة» التي یعبّران فیها عن إنفعالاتهما و تصرفاتهما . و الفضل في کلاهما یرجع إلی ابي نواس .
5-5) خمریاتهما مرآة صافیة تنعکس علیها ذاتیّتهما الماجنة کما أنّها تعدّأ صدق صورة لتعریف وفهما الإجتماعیة و الثقافیة و السیاسیّة ، بحیث نطّلع في شعرهما علی مبلغ ما وصل إلیه مجتمعهما من استهتار بالمعاصي و استهزاء من الدین بسبب انتشار البدع .
5-6) إنّهما یختاران من حیث الشکل لخمریاتهما بحور الموسیقا الرّاقصة المغناة کمجزوء الکامل و الوافر و البسیط و المضارع و الهزج و الخفیف و غیرها من البحور ذات النغم الموسیقی التي تناسب المعاني الخمریة .
5-7) إنّهما یتدرّجان في «تفکیرهما» نحو الخمرة حتّی یصلان إلی «تعظیمها» و «تقدیسها» و هذا لایعنی ؛ أنهما «مفکّران» أو «فیلسوفان» بل هما فنّانان ، فوصولهما الأغلب إلی عبادة الخمر جاء عن طریق الإنفعال الفنّي .
5-8) کلاهما ینتمیان إلی « المدرسة البرناسیة » ؛ لأنّهما ینظران ألی الأدب في إطار« الفنّ للفنّ » محاولین أن یجعلا الفنّ وسیلة للتعبیر عن الذّات ولهذا نجد أنّ طبیعة الخمرة عندهما جاءت حافلة بالألوان و الأشکال و الصور خاصّة حینما ینقلانها نقلاً حیًّا متحرّکاً .
المصادر و المراجع
العربیة :
- ابن منظور ، جمال الدّین محمّدبن مکرّم ( 1410 هـ 1964 م ) ؛ أبو نواس في تاریخه و شعره ،تحقیق ؛ عمر ابونصر ، بیروت ، دارالجیل .
- ابونواس ، حسن بن هانی(1986 م) ؛ دیوان ابي نواس (الخمریّات و الغزلیّات) ، تحقیق ؛ علی نجیب عطوی ، الطبعة الأولی ، بیروت ، دار و مکتبة الهلال .
- اسماعیل ، عزّالدین (1988م) ؛ التفسیر النّفسي للأدب ، الطبعة الرّابعة ، بیروت ، دارالعودة.
- البستانی ، بطرس (1986 م ) ؛ أدباء العرب في الأعصر العبّاسیّة (ج2) ، بیروت ، دارنظیر عبود .
- جمعه ، حسین (2005 م) ؛ من القواسم المشترکة بین الأدبین العربي و الفارسي ، مجلة التراث العربي ، العدد (97) ، دمشق ، اتحاد الکتاب العرب . WWW.awu-dam.org
- حاوی ، ایلیا (بدون تاریخ) ؛ فنّ الشعر الخمري و تطوره عند العرب ، بیروت ، دارالثقافة .
- حسین ، طه (بدون تاریخ) ؛ حدیث الأربعاء (ج2) الطبعة الحادیة عشرة ، مصر ، دارالمعارف .
- حسین ، محمد محمد (1972 م) ؛ أسالیب الصناعة في شعر الخمر و الأسفار بین الأعشی و الجاهلیین ، بیروت ، دارالنّهضة العربیة .
- خفاجی ، محمد عبدالمنعم (1985 م) ؛ الحیاة الأدبیة في العصر الجاهلي ، القاهرة ، دارالمعارف .
- زینی وند، تورج (1385 ه.ش) ؛ المدارس الخمریة في الشعر العربي و الفارسی ، رسالة الدکتوراه ، جامعة اصفهان.
- صدقی ، ( 1957م ) ؛ ابونواس فی حیاته اللاهیه، مصر ، دار المعارف.
- ضیف ، شوقی (بدون تاریخ) ؛ تاریخ الأدب العربي (العصر العبّاسي الأوّل) ، مصر ، دارالمعارف .
- العقاد ، عباس محمود (1338هـ - 1968م) ؛ ابونواس ، الحسن بن هانی ، الطبعه الأولی ، بیروت ، دارالکتاب العربي.
- مبارک ، زکی (1936م) ؛ الموازنة بین الشعراء ، الطبعة الثانیة ، بیروت ، المکتبة العصریة .
- المقدسي ، أنیس (1989م) ؛ أمراء الشعر العربي في العصر العباسي ، الطبعه السابعة عشرة ، بیروت ، دارالعلم للملایین .
- نورالدین ، حسن (2000م) ؛ موسوعة أمراء الشعر العربي من العصر الجاهلي إلی العصر العباسي ، الطبعة الأولی ، بیروت ، رشاد برس .
- النویهی ، محمد (1970م) ؛ نفسیّة ابي نواس ، الطبعة الثانیة ، بیروت ، دارالفکر .
- هانیه ، بیتر (1996م) ؛ الخمر و الموت ، تأمّلات في إحدی موضوعات الشعر العربي ترجمة ؛ محمد فؤاد نعناع ، مجلة الموقف الأدبي ، العدد(302) ، دمشق ، اتّحاد الکتاب العرب .
- هداره ، محمد مصطفی (1389هـ - 1969م) ؛ اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري ، الطبعة الثانیة ، بیروت ، دارالمعارف .
الفارسیة :
- امامی ، نصرالله (1367 هـ .ش)؛ منوچهری دامغانی ، ادوار زندگی و آفرینش های هنری ، چاپ اول ، دانشگاه شهید چمران اهواز .
- (1373 هـ .ش) ؛ رودکی استاد شاعران ، چاپ اول ، دانشگاه شهید چمران اهواز .
- حقیقت ، عبدالرفیع (1381 هـ .ش) ؛ شاعران بزرگ ایران از رودکی تا بهار ، چاپ اول ، تهران ، کومش .
- رودکی سمرقندی ، ابوعبدالله جعفربن محمد (1336 هـ .ش) ؛ محیط زندگی ، احوال و اشعار ابو عبدالله جعفر بن محمد رودکی سمرقندی ،تصحیح ؛ سعید نفیسی ، چاپ اول ، کتابخانه ترقی .
- ------؛ (1373ه.ش) دیوان رودکی ، تصحیح؛ جهانگیر منصور، تهران ، ناهید.
- زرین کوب ، عبدالحسین (1362 ه.ش) ، ارزش میراث صوفیه ، چاپ سوم ، تهران ، امیر کبیر .
- سرباز ، مظفر (1373 هـ .ش) ؛ رودکی ، چاپ اول ، تهران ، شرکت توسعه کتابخانه های ایران .
- صفا ، ذبیح الله (1371 هـ .ش) ؛ تاریخ ادبیات در ایران ، چاپ پانزدهم ، تهران ، فردوس .
- فروزانفر ، بدیع الزمان (1350 هـ .ش) ؛ سخن و سخنوران ، چاپ دوم ، تهران ، خوارزمی .
- گنابادی ، محمد پروین (1356 هـ .ش) ؛ میگساری و گل در ایران باستان ، مجله باستان ، گزینه مقاله ، تهران ، 149 - 154 .
- الکک ، ویکتور (بدون تاریخ) ؛ تأثیر فرهنگ عرب در اشعار منوچهری دامغانی ، بیروت ، دارالمشرق .
- لسان ، حسین (1353 هـ .ش) ؛ باده افشانی در شعر فارسی و منشأ آن ، چهارمین کنگره تحقیقات ایرانی شماره (1) ، ص 155-170 .
- ------ (1355 هـ .ش) ؛ شراب زرین برگوریاران در ادب عربی ، مجله دانشکده ادبیات و علوم انسانی ، دانشگاه تهران ، شماره (1) : 131 - 136 .
- ----- (1355 هـ .ش) ؛ شعر و شراب ، مجله یغما ، سال (29) ، شماره اول ، (333) : 44 - 53 .
- منوچهری دامغانی ، احمد بن قوص بن احمد (1363 هـ .ش) ؛ دیوان منوچهری دامغانی ، تصحیح ؛ محمد دبیرسیاقی ، چاپ پنجم ، تهران ، زوار .
- نعمانی ، شبلی (1327 هـ .ش) ؛ شعر العجم یا تاریخ شعرا و ادبیات ایران ، ترجمه ؛ محمد تقی فخرداعی گیلانی ، تهران ، رنگین .
الدکتور تورج زينی وند
جامعة الرازي كرمانشاه