مركز دراسات الأندلس و حوار الحضارات 2

2016-05-21
في  " الصلة" لابن بشكوال- وهي أقدم المصادر التي ترجمت لولادة وأقربها إلى العصر- ذكر ابن بشكوال شهادة شاهد عيان عاش في نفس الفترة التي عاشت فيها ولادة، وفي نفس المدينة أيضا، وهو شيخه أبو عبد الله ابن مكي " يصف نباهتها وفصاحتها، وحرارة نادرتها وجزالة منطقها". وقال أيضا ينتقد سلوكها :"ولم يكن لها تصاون يطابق شرفها." وأضع خطا تحت هذه الجملة لأنها أضرت بسمعة ولادة، واعتبرها البعض شهادة على انحلال أخلاقها، ويجب أن نميز هنا بين قولين :أن يقول : " لم يكن لها تصاون " ، ويسكت ، فهذا حتما سيدل على انحلال أخلاقها وسوء سلوكها، وبين أن يقول:  " لم يكن لها تصاون يطابق شرفها " ، فنفي التصاون هنا مشروط بمكانتها الأرستقراطية العالية ،إذ هي في أول الأمر وفي آخره أميرة  مروانية ابنة خليفة وحفيدة خلفاء عظام حكموا الأندلس، تنتمي إلى أعلى الطبقات في مجتمع طبقي يحرص كل الحرص على ان يظل التميز الطبقي واضحا جليا بين طبقاته،فجلوسها إلى عامة الأدباء والشعراء يقلل من قيمتها، وهو ما كان ينتقد عليها ولاشيء سواه، بدليل انها كانت تحظى باحترام الناس ، العامة منهم والخاصة، وكانت تزور وتزار، كما كانت ترتاد المجتمعات الأندلسية العالية  فتستقبل وتكرم، فهذا أبو عبد الله جعفر بن محمد بن مكي ، أحد وزراء قرطبة يشهد أنها جاءته معزية في والده سنة 474 هـ،، وقد جاوزت السبعين من عمرها. فلو كان لها سلوك مشين يمس شرفها وأخلاقها، ولو عرفت حقا بغرامياتها وعلاقاتها المتعددة، وبتنقل عواطفها بين رجل وآخر، هل كان بنو أمية يسمحون بذلك؟ وهل كانت الأسر والطبقات الأرستقراطية تسمح لها بزيارتها أو باستقبالها؟ قطعا كان بنوا أمية – و في فترة الاضطرابات السياسية كل شيء ممكن وقوعه- وجدوا إلى التخلص منها بدل الوسيلة ألف وسيلة، ولكانت الطبقات الاجتماعية المتميزة ضربت عليها الحصار، وأوصدت الأبواب في وجهها.
إذا انتقلنا إلى العصر الموالي لعصرها، نجد ابن بسام في ترجمته  يشهد لها بقوله:"كانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر و مخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب."( )وهذه شهادة واضحة منه، وإن كان يتحرج في ذكر أخبارها دون لتأكد منها، وعندما قال :" على أنها- سمح الله  لها ،وتغمد زللها- اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها."قال بعد هذا الكلام وكأنه يعلله:"كتبت- زعموا-" واستعمل لفظ زعموا للدلالة على أن هذا القول قد يحتمل الصدق وقد يحتمل الكذب. وبعد أن أورد ما زعمه الناس قال بعده:" هكذا وجدت هذا الخبر، وأبرأ إلى الله من عهدة ناقليه،  وإلى الأدب من غلط النقل إن كان وقع فيه."

وابن بسام وإن أورد مقالة ابن زيدون في ترجمة ولادة إلا أنه لم  يتحدث مطلقا عن علاقتها به وبغيره، ولم يخض في هذا الحديث، بل على العكس أشار ومن طرف خفي إلى كثرة القيل والقال، وصعوبة التحقق منه. قال:"ولها مع أبي الوليد بن زيدون أخبار، طوال وقصار، يفوت إحصاؤها، ويشق استقصاؤها."

وبالرجوع إلى تراجم ابن زيدون في عصره والقريبة من عصره،لا نجد أي حكاية من هذا النوع، فكل الإشارات الواردة كانت تشير إلى حبه لولادة، وتعلقه بها.  
في كتاب "المغرب من أشعار أهل المغرب" لابن سعيد-  ينقل عن" القلائد"قول الفتح بن خاقان:"وقال تغزل في ولادة بنت المستكفي التي كان يهواها وكانت شاعرة"( ). وفي مكان آخر"وله في ولادة القصيدة التي ضربت في الإبداع  بسهم."( ) 

وفي كتاب"المعجب" لعبد الواحد المراكشي من ترجمة ابن زيدون" ومن نسيبه الذي يختلط بالروح  رقة، ويمتزج بأجزاء الهواء  لطافة  قصيدته التي قال فيها يتشوق ابنة المهدي ولادة وهي بقرطبة وهو بإشبيلية"( ). 

ومن المؤلفات المشرقية نجد لابن زيدون ترجمة في "وفيات الأعيان " لابن خلكان( ) لم يرد فيها أي شيء عن ولادة.

وفي" تمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون" نجد "الصفدي" يذكرها ويصفها بالعفة. يقول:"وله مع ولادة هذه أخبار تطرب القلوب، وتشنف المسامع، لأنه خلع فيها عذاره، وأعطى هواه فيها فضل زمامه. وكانت ولادة هذه من أهل بيت الخلافة، ابنة محمد المستكفي   بن عبد الرحمان، وهي واحدة زمانها، لمشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة. وكانت مشهورة بالصيانة والعفاف"( ).وذكر في مكان آخر:"وكانت ولادة تهوى ابن زيدون، ثم مالت عنه إلى الوزير ابن عبدوس"( ).

وفي" سرح العيون" ساق ابن نباتة المصري بعض أخبارها، كما ساق شعرا في هجائها لابن زيدون عقب عليه بقوله:"وكان سبب قولها فيه هذا الشعر، أنه اتهمها بمواصلة الوزير أ بي عامر بن عبدوس"( ).

وفي "الأعلام" قال في ترجمتها الزركشي:" اشتهرت بأخبارها مع الوزيرين ابن زيدون وابن عبدوس ، وكانا يهويانها، وهي تود الأول وتكره الثاني، حتى وقع بينهما ما وقع، وكتب ابن زيدون رسالته التهكمية المعروفة إلى ابن عبدوس"( ).

وفي" أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام" اكتفى عمر رضا كحالة بنقل ما في كتب التراجم كالذخيرة والمغرب ( ).

بعد هذا العرض السريع والمختصر لبعض المصادر، أود أن أعرف بولادة و بابن زيدون للوصول إلى الحقيقة ، أو على الأقل التقرب منها . وأقصد في التعريف بهما إلى ذكر جوانب شخصية كل منهما وحقيقة العلاقة بينهما. فمن هي ولادة هذه؟

ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمان بن عبيد الله بن الناصر عبد الرحمان،أميرة أندلسية من أميرات الدولة الأموية بقرطبة، ولدت في بيت خلافة ،جدها عبد الرحمان هو حفيد عبد الرحمان  الناصر،وابنة الخليفة المستكفي بالله الذي تولى ملك الأمويين ما بين سنة 414 هـ و 416 هـ. لم تحدد المصادر التي ترجمت لولادة تاريخ ميلادها،بينما حددت تاريخ وفاتها سنة 484 هـ ، وحددت بالتقريب عمرها. ذكر ابن بشكوال في "الصلة" أنها توفيت يوم مقتل الفتح بن محمد بن عباد يوم الأربعاء  لليلتين خلتا من صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة"( ). وذكر ابن بسام أنها عاشت حتى أربت على الثمانين، فعلى هذا يمكن تحديد ميلادها ما بين 400 و403 هـ .

ولدت بقرطبة في أسرة بني مروان  الحاكمة، وسميت  باسم عمة جدها ،ولادة بنت عبد الرحمان الناصر( ). والظاهر أن الأمويين كانوا يتفاءلون بهذا الاسم، إذ أن ولادة الأولى كانت بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن جزيمة العبسي ،زوجة عبد الملك بن مروان التي أنجبت اثنين من خلفاء بني أمية : سليمان والوليد ابني عبد الملك( ).

نشأت أديبتنا تنشئة الأمراء، فتربت و تعلمت يساعدها في ذلك ذكاء حاد، وقريحة وقادة، ونباهة وفصاحة، فأقبلت على الشعر والموسيقى،ونبغت وكونت مدرسة لتعليم الناشئات ممن توسمت فيهن الموهبة والذكاء، ،كمهجة بنت التياني،إذ" أن أباها كان يبيع التين ، وكانت تدخل عند ولادة،وكانت من أجمل نساء زمانها، وأخفهن روحا، فعلقت بها ولادة ولزمت تأديبها حتى أصبحت شاعرة"( ).

كانت ولادة بيضاء اللون،شقراء الشعر، زرقاء العينين، وهي صفات موروثة عن بني أمية، إذ أن جماعة خلفائهم كانوا على هذا الشكل، وابن حزم نص على هذه الصفات في كتابه"طوق الحمامة"قائلا:" وأما جماعة خلفاء بني مروان – رحمهم الله- ولاسيما ولد الناصر منهم ، فكلهم مجبولون على تفضيل الشقرة، لا يختلف في ذلك منهم مختلف، وقد رأينا من رآهم من لدن دولة الناصر إلى الآن، فما منهم إلا أشقر،نزاعا إلى أمهاتهم، حتى قد صار ذلك فيهم خلقة، حاشا سليمان الظافر-رحمه الله- فإني رأيته أسود اللحية،وأما الناصر والحكم المستنصر-رضي ا لله عنهما-فحدثني الوزير أبي –رحمه الله-وغيره، أنهما كانا أشقرين أشهلين، وكذلك هشام المؤيد ومحمد المهدي وعبد الرحمان المرتضى-رحمهم الله-، فإني قد رأيتهم شقرا شهلا وهكذا أولادهم و إخوتهم  وجميع أقاربهم."( )

وهذه الأوصاف نجدها تتكرر في كل أشعار ابن زيدون فيها، ففي قصيدته النونية الشهيرة:
ربيـب مـلك كـأن اللـه أنـشـأه مسكا، وقدّر إنشاء الورى طينا
أو صاغه وَرِقا محضاوتوّجه     من ناصع الّتبر إبداعا وتحسينا

أما شخصية ولادة الحقيقية فإننا نستطيع أن نستقرئها من شهادات الذين ترجموا لها، ومن أخبارها بصفة عامة، وهي صفات تتجلى في :

الجرأة:  فقد فتحت أبواب قصرها للأدباء والكتاب والوزراء وأعيان الدولة لجلسات وسهرات شعرية وغنائية، كانت فيها تخالط الشعراء و تساجل الأدباء، ومن المؤسف أن أيا من المصادر القديمة لم يشر إلى مجريات هذا الصالون الأدبي، ولم ينقل إلا ما أحدثه في أخلاق رواده، وفي علاقاتهم مع بعضهم البعض، كالشعر الذي هجا به ابن زيدون أبا عامر بن عبدوس، والشعر الذي بعث به إلى أبي عبد الله البطليوسي حين علم بمراسلته لولادة،، ولعل طابع الجرأة الذي اتسمت به هو الذي دفع معاصريها من الرجال إلى إصدار أحكام قاسية على سلوكها( ).

التحدي :  ويتجلى في الشعار الذي وضعته في وشاحها، وفيه تحدي الشاعرة للمجتمع الرجالي الذي كان يسمح  للرجل بكل شيء، ويمنع المرأة من أبسط شيء. ويظهر أيضا في تحديها للظروف السياسية، فقد سقطت خلافة الأمويين، وانهار ملك أبيها، فعوضت كل هذا بأن جعلت نفسها ملكة في بيتها، وفي ندواتها، وحاكمة متحكمة في قلوب علية القوم والصفوة من أدباء ووزراء قرطبة.

الإباء : وهو صفة جمعت فيه بين إباء وشمم الملوك وبين عزة النفس وصونها عن المهانة، فقد رفضت أن تقبل الإهانة كيفما كان شكلها أو حجمها، مقصودة كانت أو غير مقصودة، لقد أبت أن تستغل ـ ولو كان الأمر في مجال الهزل ـ للإساءة إلى الغير، يظهر هذا الجانب الصارم عندها في موقفها من ابن زيدون لما كتب رسالته الهزلية على لسانها، فقد قررت إبعاده عن مجالسها، وإقصاءه عن كل مكان توجد به إقصاء لا رجعة فيه، حتى يكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه التجاسر عليها.
أما ابن زيدون  " فكان أحد أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة في أيام الجماعة والفتنة، وفرع أدبه ، وجاد شعره، وعلا شأنه، وانطلق لسانه، فذهب به العجب كل مذهب، وهون عنده كل مطلب "( ). ذكرا بن بسام أنه كان يجمع بين ا لجمال والبيان والبراعة واللسان والظرف ، نشأ وحيد والديه مدللا مرفها ، معجبا بنفسه وبوسامته وبشعره الذي  " لم يصرفه إلا بين ريحان وراح، ولم يطلعه إلا في سماء مؤانسات وأفراح، ولا تعدى به الرؤساء والملوك، ولا تردى  منه إلا حظوة كالشمس عند الدلوك، فشرف بضائعه، وأرهف بدائعه وروائعه."( )
ويمكن تلخيص بعض صفاته فيما يلي:

الغرور: فقد كان لظروف نشأته، ونبوغ شعره، واتصاله ببني جهور وحظوته عندهم سبب  في إعجابه بنفسه إلى درجة الغرور، وهذا ما يفسر قولة ابن حيان السابقة. كان غروره هذا سببا في عدد من التصرفات التي ظهرت في سلوكه سواء مع رؤسائه أو مع أصدقائه، وتسبب في خلق نوع من الضغينة بينه وبينهم، وكان من جملة الأسباب التي زج من أجلها في السجن ( ). ووصفه د إحسان عباس في قوله : " كان شابا مغرورا بجماله وفتوته، نرجسيا في نظرته لذاته.( )

الطموح : كان طموحا إلى أبعد الحدود، خاصة والعصر الذي وجد فيه كان عصر فتن وتقلبات سياسية هامة وتغيير نظام الحكم، كل هذه الأشياء كانت تشحذ في هذا الأديب طموحه الزائد إلى تحقيق نجاح على جميع المستويات: السياسية  والعاطفية و الأدبية، ولم يكن يكتفي بما حقق من جاه ومال، ولكن همته كانت تطمح به إلى تحقيق الأكثر والأسمى، لدرجة وصف معها بالتهافت.
ثريا لهي
 أستاذ التعليم العالي
الأدب الأندلسي
شعبة اللغة العربية وآدابها 
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة محمد الخامس الرباط

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved