قال عنه ابن حيان : " فاكتسب الجاه والرفعة، ولم يبعد في ذلك من التهافت في الترقي لبعد الهمة."( )
تقلب شخصيته وتلونها بأكثر من لون: وهو أمر يظهر في سلوكه، فهو تارة محب مضنى في حب ولادة، يصفها بأجمل الصفات، ويحليها بأفضل النعوت، ويسبغ عليها من الطهر والعفة ما لا حد له، وتارة أخرى يهجوها، وينعتها بأبشع النعوت، ويحط من قيمتها إلى أدنى حد، لدرجة يرفض معها ابن بسام أن يورد أشعاره فيها . وأحيانا يكون صديقا ودودا ولكن سرعان ما ينقلب وحشا كاسرا، يحطم في طريقه كل شيء إذا ما مس من نرجسيته، أو من إحساسه بذاته، أو إذا ما مست غاية من غاياته، لذا فقد أصدقاءه، إذ ابتعدوا عنه وهجروه.
الكذب: ويظهر في التناقض الواضح في أشعاره، فهو يقول القول ثم يدحضه بضده ويسلك نوعا من السلوك ثم يعدل عنه إلى غيره، يقول ما لا يفعل، شاعر ممن قال عنهم الله ـ جل جلاله ـ "والشعراء يتبعهم الغاوون ....." والمقامة التي كتبها عن ولادة خير مثال على ذلك.
الحقد والكراهية: لكل ما يتعارض مع رغباته، و أطماعه، و منى نفسه، يسلط أشعاره في هجاء الآخرين، و في النيل منهم، يركب كل مركب سيئ كي يصل إلى غايته، لا يتورع في اتخاذ أقبح الوسائل لتحقيقها، حتى ولو كانت هذه الوسائل من أحط الأشياء. هل رأيتم رجلا يحب امرأة ثم لا يتورع عن استغلالها في النيل من أقرب أصدقائه؟؟ ينتقم لنفسه، يرضي غروره ولو كان على حساب محبو بته، لا يهم أن يشوه سمعتها ، لا يهم أن يخسف بها الأرض، أن تتعرض للقيل والقال، لا يهم كل ذلك ، المهم هو أن يظهر مهارته اللغوية، ويستعرض فنون أدبه في سخرية لاذعة، لا يهم أن يدوس على رؤوس الآخرين شريطة أن يظل هو قائما، وهذا ما خلق له الكثير من المتاعب، و كان من جملة الأشياء التي أدخلته السجن في قرطبة، ثم دعته إلى الفرار منها واللجوء إلى إشبيلية، والاحتماء بالمعتضد، محققا بذلك ما ينطبق عليه المثل العربي " الطيور على أمثالها تقع". ولقد لخص هذا ابن بسام في قوله :" إنه كان ـ سامحه الله ـ ممن لا يرجى خيره و لا يؤمن شره . والعجب أنه سلم من المعتضد بن عباد، ـ مع كونه كان مدبر دولته ـ ولم يسلم له أحد من أصدقائه "( ).
أما الأبيات الغزلية التي ذكر في مقامته أن ولادة بعثت بها إليه واتخذها الدارسون بعد حجة على تعلقها به( ). فهي فعلا بعثت بها إليه، لا على أساس أنها محبة له أو عاشقة، بل تلميذة تمارس قرض الشعر في أولى خطواتها، تبعث إلى أستاذها باكورة أشعارها، طالبة منه نقدها وتصحيحها. وليس هذا مجرد تخمين أو تقدير ، وإنما هي قراءة صحيحة للخبر في شهادة ابن زيدون بنفسه، إذ شهد لها أنها كانت تبعث إليه بأشعارها لتقويمها وتصحيحها ليس إلا. يقول ابن زيدون:" وكنت ربما حثتيني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقدا، وإني انتقدت عليك قولك:
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا
فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة:
ألا يا اسلمي يا دار مية على البلى و لا زال منهلا بجرعائك القطر
إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له، وأما المستحسن فقول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع و ديمة تهمي"( )
والجدير بالذكر، وبتصحيح الأمر، أن ولادة لم تكن شاعرة غزل ، وهذه الأبيات هي الوحيدة التي رويت لها في المصادر، وإنما هي شاعرة هجاء ،و بالدرجة الأولى، و من المؤسف حقيقة ـ وهذا أمر لايتعلق بشعر ولادة فقط وإنما يسري عل الشعر الأندلسي عامة ـ أن تقف النظرة الأخلاقية والدينية حائلا دون تدوين أشعار الهجاء ، مما ضيع علينا الوقوف على آثار أدبية رائعة قالها شعراء الأندلس في هذا المجال .قال ابن بسام عن شعرها:" وقد قرأت أشياء منه في بعض التعاليق، أضربت عن ذكره، وطويته بأسره، لأن أكثره هجاء، وليس له عندي إعادة و لا إبداء، ولا من كتابي في أرض و لا سماء"( ).
أما ابن عبدوس فكان وزيرا وأديبا ، أحد أعيان قرطبة، أحب ولادة حبا صادقا ، تقدم لخطبتها، وما المرأة التي بعث بها إلى ولادة إلا خاطبة لها على سنة الله ورسوله، وتقدمه لخطبتها هو الذي أثار حفيظة ابن زيدون ، فكتب رسالته الهزلية على لسان ولادة لينتقم منها ومن منافسه، وإن كانت ولادة ردت خطبته بأدب إذ كان الرجل متزوجا و رب أسرة، وبهذا ظلت العلاقة بينهما ـ بين ابن عبدوس وولادة ـ علاقة احترام وتقدير وظل ابن عبدوس يحرص على مراعاة هذه الصداقة حتى آخر العمر، فكان يتفقدها بصلاته بعد أن جار عليها الزمان ،وفسر هذا الأمر تفسيرا سيئا ، وبإعادة القراءة في ترجمة ولادة في الذخيرة نقف على رأي ابن بسام صريحا وواضحا. قال:" وطال عمرها وعمر أبي عامر حتى أربيا على الثمانين، وهو لا يدع مواصلتها، و لا يغفل مراسلتها. وتحيف هذا الدهر المستطيل حال ولادة، فكان يحمل كلها، ويرقع ظلها، على جذب واديه، و جمود روائحه و غواديه، أثرا جميلا أبقاه، و طلقا من الظرف جرى إليه حتى استوفاه."( )
المصدر نفسه .
الدكتورة ثريا لهي
أستاذ التعليم العالي
الأدب الأندلسي
شعبة اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
جامعة محمد الخامس الرباط