أول الكلام :

أتيتكم اليوم خالي الوفاض، أي لم يختمر أو لم يخامرني موضوع، ففضلت أن أروي بعض مشاغلي الشخصية، وهي ليست محض شخصية، وليس هناك في الفلسفة موضوع ينفي الذات، وليس هناك ذات تنفي الموضوع، فهما مرتبطان بعروة وثقى (جدلية) لا انفصام لها..وأحسب أن هموم ومشاغل الإنسان تتجاوز الذات مهما تبدُ محض شخصية، وأعني عابرة للحدود، مشتركة بين البشر مهما تفاوتت ألسنتهم وأعراقهم وأديانهم وطوائفهم، وأنّى وُجِدوا في أصقاع الكوكب الواسعة..

 والسبب بسيط جداً لأن الإنسان أخٌ للإنسان، نظير له في الخَلق أي أن له نفس التشريح ونفس الفسلجة بل ونفس الأمراض بدنية كانت أو نفسية.. ترانا نحزن لآلام البشر وما ينتابهم، وتجدنا نطرَب لموسيقى غريبة عنّا أو نتأثر لفلم ليس من واقعنا.. ونهتز لشعر وإن جاء على لسان شاعر يختلف عن لساننا، ونبكي لمشاهد ميلودرامية ليست منّا.. فكيف الحال إذا تجمعت الهموم وجثمت على صدر شعبنا ؟!.. وكيف لا تنزل الدموع مدراراً إن عرفتُ أن صديقأ عزيزاً عزيزأً، ومتعافياً مرحاً مثقفاً، حلو الشمائل، لبق الحديث، إن تكلم فاضت الثقافة الواسعة على لسانه فيشدّك شدّا وبتواضع... وقد صار طريح الفراش ومازال يقاوم المرض، وما زال حديثه ممتعا وإن بدا ضعيف النبرة، يجهد نفسه لإيصال الفكرة، وعندما يلمس بك حزنا يهوّن الأمر عليك تهوينا ويواسيك مواساة.. !

***

أفقت صباح أمس من نومي متثاقلاً كئيبا، وجدت ضغطي الدموي مرتفعاً، ثم خفَّ قليلا بعد أن تناولت إفطاري دوائي، وأطللت من الشرفة فوجدت صباحاً جميلاً، ووجدت الحركة قد دبّت بالمدينة التي استفاقت بنشاط من غفوتها.. فغادرت صومعتي، أخذت متوربايك الى مستشفى غير بعيد.. وبدا البايك خفيفا يشق الزحام ويقف في طليعة المراكب الواقفة على الأحمر.. وأنا أفكر أنه أرنب يسابق النمور والفيلة، ولكن إن لامسه مخلب نَمِر جرحه وأدماه وأن داسه فيل أخمد أنفاسه في الحال ! وتلك حكمة بلهاء من حِكم عصرنا التكنولوجي !

المهم وصلت بدقائق لا تتعدى السبع ولوكان تكسيّاً لصار الطريق ثلاثين دقيقة ! هذا المستشفى أنيق ضخم وكلّ مابه يبعث على الإطمئنان من وجوه الشابات بالملابس البيض وقد اختفى جمالهن وراء الكمام فتبدو العيون اللوزية جميلة ذكية تساعد اللسان على النطق.. وأينما وليّْتَ وجهك تجد عبوات ماء غير باردة وقناني التعقيم وأجهزة قياس الحرارة  وقياس الضغط ونسبة الأوكسجين في الدم متاحة..

تحصلت من الطبيبة الخاصة بأمراض الحساسية على أدوية ونصائح.. ثم إلى طبيبة القلب وكان الحديث مطولا معها وأبدلت لي دواء الضغط بدواء جديد .. وخرجتُ بحقيبة أدوية وحيث أن تأميني الصحي العالمي لايشمل تايلندا كان الدفع باهظا !

لا أريد أن استغرق في وصف المستشفى والعاملين به من منظفة الى أرقى طبيب اختصاصي، سمتهم التهذيب والتواضع والإستماع اليك بشكل كاف .. سيقول قائل ربما السبب لكون المستشفى أهلياً وراقيا، طبعا هنا الإزدحام  قليل.. ولكن لو ذهبت إلى المستشفى الحكومي ستجد المعاملة نفسها ولكن الإزدحام شديد والثمن رخيص للغاية.. فقد ذهبت مرتين باقتراح من طلبتي التحليل وهو نفسه لا مفاضلة فيه.. ثم أحجمت لكي لا أزاحم الفقراء..

كل هذا والبلد السياحي يمر بمحنة اقتصادية وصحية خانقة، أضرت به أيما إضرار، والبلد لا يملك قطرة من بترول أو ثروات معدنية، لكنه يدار بعقول مفكرة أمينة مخلصة.. لا يختلط بها الدين وليس لرجال الدين سطوة، فالكهنة البوذيون ينبغي وفق "مبدأ الدمّة" ألا يملكوا من حطام الدنيا شيئا غير الرداء البرتقالي  وصومعة المبيت في المعبد، لانه وفق المعتقد البوذي : رجل الدين لا يملِكُ لكي لا يُملَك !! وأسوتهم الحسنة بوذا الذي ترك حياة الملوك ليصبح زاهداً فقيرا !!

أتمنى لبلادي الغنية بمواردها الطبيعية أن يتولى أمرها أناس مسؤولون نزيهون، لا أقول زاهدون بل منصفون أمناء لاينهبون ولا يعيثون في الأرض فسادا يتبعون علياً عملاً لا قولا ولا من فوق المنابر يعظون، وإنما حقيقة يتبعونه في زهده وعدله وخوفه من ضميره ومن الله وهو الذي كان لا يتعب من ترديد الآية الكريمة العميقة :

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا  وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83  القصص).

الثالث من تموز 2020