شهد التراث الموسيقي العراقي في السنوات الاخيرة مرحلة لا ابالغ اذا قلت انها لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق الطويل. فخلال عقود، بل قرون لم تكن موسيقى العراق مسموعة او معروفة لدي الشعوب الاخرى، بل وحتى لدى شعوب الدول العربية القريبة منها والبعيدة. وازاء ذلك نجد في ايامنا هذه ان موسيقانا التراثية والمعاصرة، يقدمها فنانونا في شتى انحاء العالم، وبمصاحبة الالات التقليدية احيانا، بشكل يثير الاعجاب والتقدير حتى لدى الغرباء في الغرب البعيد.
ولا اريد هنا ان اخوض في التاريخ القديم للموسيقى في العراق والتقلبات التي مرت بها منذ عهد سومر واشور, واكتفي بالعودة الى عهد ازدهرت فيه الموسيقى العراقية وازدهر الغناء واشتهر الكثير من الموسيقيين, وهو العصر العباسي الذي تميز بالانفتاح على الحضارات الاخرى والتفاعل معها. في العصر العباسي الذي يوصف بالعصر الذهبي تبلورت اسس الموسيقى العراقية, وبقيت ملامحها الرئيسية حية في موسيقى العراق الحالية رغم العهود المظلمة التي مرت عليها والعوامل الغريبة التي تأثرت بها, وعلى الرغم من انعدام الوثائق التي دونت بها هذه الموسيقى اذا كانت قد دونت اصلا.
ومع ان فترة الانطواء والعزلة قد طالت, فقد كانت هناك، وخاصة منذ عشرينات القرن الماضي، بوادر معدودة في مجال التبادل، او التعارف، اذا صح التعبير، في المجال الموسيقي والغنائي بين العراق وبعض الدول العربية مثل مصر وسوريا ولبنان ودول الخليج الى حد ما.
فبعد الحرب العالمية الاولى، وعلى الاصح في مستهل العشرينات، حدث ان توسعت في بغداد وغيرها من المدن الرئيسية كالبصرة والموصل، اماكن اللهو، او الملاهي التى قدمت من على مسارحها الاغاني والمقامات. ولم يكن في العراق آنذاك من الموسيقيين والمطربين ما يكفي، وهكذا اتيح لعدد من الفنانين العرب القدوم الى العراق للعمل وكسب الرزق. وقد استقر قسم من هؤلاء بصورة دائمة في العراق، وكان آخرون يأتون لفترة معينة يعودون بعدها الى بلادهم. وكان هذا الاتصال، رغم ضيق نطاقه، فاتحة لتعرف كل طرف على موسيقى واغاني الطرف الآخر، واصبحت الاغاني الشعبية من مصر والشام تغنى في العراق، وادخلت على بعضها
"تحويرات" لتقريبها الى الاذن العراقية. وليس غريبا ان يجد الباحثون حاليا بعض الصعوبة في تشخيص هوية اغنيات متداولة بصيغ متباينة في العراق وسوريا ومصر، مثل "دزني وافهم مرامي" و "طلعت يا محلا نورها" و "الروزنه" وغيرها.
وقد شهدت ثلاثينات القرن الماضي احداثا هامة في هذا المجال بالنسبة للموسيقى العراقية. ففي سنة 1931 قدم الى العراق الموسيقار الكبير الاستاذ محمد عبد الوهاب واقام حفلات غنائية على مسرح حديقة المعرض في باب المعظم خلال شهر كامل. وقد التقى عبد لوهاب خلال هذه الزيارة مع موسيقيين عراقيين وخاصة مع الموسيقار العراقي صالح الكويتي وتعرف على النواحي التي تتميز بها الموسيقى العراقية عن الموسيقى العربية العامة، واهتم بشكل خاص بمقام اللامي الذي لم يكن معروفا في مصر واستعمله فيما بعد في عدد من تلاحينه. كما ان صالح الكويتى اخذ من عبد الوهاب مقاما لم يكن متداولا في العراق وهو مقام الزنجران واستعمله هو الآخر في تلاحينه.
وفي عام 1932 زارت العراق سيدة الغناء العربي ام كلثوم وابدت مع اعضاء فرقتها الموسيقية اهتماما بالموسيقى العراقية والات الجالغي التقليدية، كما اعجبت باغنية "قلبك صخر جلمود" التي لحنها صالح الكويتي للمطربة سليمة مراد، وتعلمتها وغنتها في حفلاتها في العراق. ويقال انها غنتها كذلك في جلسات خاصة في القاهرة، ولم يعثر مع الاسف على تسجيل لهذه الاغنية بصوت ام كلثوم.
وفي عام 1932 عقد في القاهرة المؤتمر الدولي الاول للموسيقى العربية، وكان الوفد الذي مثل العراق في هذا المؤتمر التاريخي مؤلفا من قارئ المقام القدير الاستاذ محمد القبانجي وفرقة جالغي بغداد برئاسة يوسف بتو مضافا اليها، ربما لاول مرة في تاريخ الموسيقى العراقية، آلة العود وآلة القانون. وكان عازف العود الموسيقار عزوري وعازف القانون الموسيقار يوسف زعرور. وقد اثار الوفد العراقي اعجاب وتقدير الخبراء والوفود الاخري، وفاز بالجائزة الاولى، ودعي الاستاذ القبانجي لمقابلة الملك فؤاد الذي ابدى اعجابه بقدراته الفنية واكرمه.
ومع كل هذا الاعجاب والتقدير لموسيقى العراق واغانيه من عبد الوهاب وفرقته الموسيقية، ومن ام كلثوم واعضاء فرقتها، ومن المحافل الفنية في مؤتمر القاهرة، فانه خلال عدة سنوات بعد ذلك لم يتلق احد من موسيقيي العراق او مطربيه من اية جهة مصرية، رسمية او اهلية، دعوة لاحياء حفلة للجمهور المصري، هذا بالاضافة الى ان اذاعة القاهرة التي كانت عاملة آنذاك لم يخطر ببالها ان تقدم لمستمعيها نموذجا لاغاني العراق وموسيقاه.
هذا بالنسبة لمصر، اما بالنسبة لسوريا ولبنان، القطرين القريبين اللذين احتضن العراق عددا من فنانيهما، فقد حدث في عام 1935 ان دعيت المطربة العراقية سليمة مراد لاحياء حفلات امام الجمهور في بيروت وحلب، وقد رافقها في هذه الرحلة الموسيقار العراقي صالح الكويتي مع فرقته الموسيقية. وقوبلت سليمة مراد والموسيقيون بحفاوة بالغة من الجمهور الذي ملأ القاعة، وكان يطلب المزيد والمزيد من الغناء والعزف. ولاعطاء فكرة عن الانطباع الذي تركه هذا الحدث الفني فقد نشرت مجلة "الصباح" البغدادية في حينه رسالة تلقتها من مراسلها في بيروت جاء فيها "ان جمعا كبيرا من الادباء والوجهاء كانوا في استقبال المطربة سليمة مراد وحين دخلت الصالة قوبلت بعاصفة من التصفيق والهتاف، ثم ظهرت برفقة تختها الموسيقي المكون من خيرة الموسيقيين العراقيين. الاستاذ صالح الكويتي على الكمان وقد استعاده الجمهور مرتين وثلاثا واربعا، وكان الشعب يتحدث بفنه ومقدرته، والاستاذ داود الكويتي على العود وكان النجاح حليفه في كل ما عزفه، والاستاذ موسى نسيم الذي لاقى في تقاسيمه على القانون كل اعجاب واستحسان .... وبعد التقاسيم الفردية بدأت سليمة تغرد بصوتها العذب الجميل، فكانت تقابل بالتصفيق وما ان انتهت حتى استعادوها ثانية وثالثة ولم تنته من غنائها الا في الساعة الثانية بعد منتصف الليل فكانت ليلة من ليلي بيروت الموسيقية النادرة" وفي حين كان من المقرر ان تحيي سليمة مراد حفلتين في بيروت فقد اضطرت بناء على طلب الجمهور، كما قال مراسل "الصباح"، الى احياء ثلاث حفلات اخرى.
هذا ما كان في بيروت ويمكن القول الاحتفاء في سوريا بسليمة مراد والفرقة الموسيقية لم يكن اقل اعجابا وتقديرا.
اعجاب واعجاب، تقدير وتقدير، في مصر وسوريا ولبنان، ولكن ماذا بعد؟ لاشيء .. اجل لاشيء تقريبا، وبقيت الموسيقى العراقية حبيسة حدودها، ولم تعرف الخروج الا لماما، الى ان جاءت الهجرة او التهجير الذي فرض على فنانينا قسرا ان يطوفوا في ارجاء العالم، حاملين ملكاتهم الفنية وآلاتهم الموسيقية، من قديم وحديث. وهناك، في هذا العالم الغريب، ورغم صعوبات الحياة الجديدة، اخذوا يحتكون ويتفاعلون اكثر فاكثر بحضارات وتحديات جديدة. هناك، في هذه الغربة، بعيدا عن الوطن الام وعن المحيط الطبيعي تفتقت اذهانهم وازدهرت مواهبهم وانتجوا اعمالا ابداعية جذورها في الشرق وفروعها في الغرب، كما كان الحال من قبلهم مع الموسيقار العراقي الاول الذي هاجر او هجر من بلاده، , انه زرياب العهد العباسي الذي حمل عوده وفنه الى هناك، الى الاندلس فاخذ واعطى، احتك بهم واحتكوا به، وترك لنا ولهم تراثا غنيا ربما لم نكن لنحظى به لولا هجرته او تهجيره.
ان الموسيقى العراقية والعربية تستطيع اليوم ان تفخر بانجازات فنانينا في الغربة، مثل الاستاذ احمد الجوادي الذي يتحف منتدانا من وقت لآخر بنتاجه الابداعي المدهش، ومثل الفنان الملهم طلال اسماعيل الذي اقام الفرقة العراقية السويدية ولقن مطربات اوروبيات تأدية اغنيات عراقية وعربية بشكل دقيق يثير الدهشة والاعجاب حتى لدى العرب وغير العرب، فحقق بذلك نجاحا لم يسبقه، ولم يستطع ان يسبقه، اليه احد. ثم هناك فرقة الجالغي البغدادي برئاسة عازف الجوزة الاستاذ محمد قمر، هذه الفرقة التي ترافق "سفيرة المقام العراقي" فريدة محمد علي، قطعت شوطا بعيدا في تقديم المقامات العراقية والاغاني التراثية الي الجمهور العربي والغربي، وليس هذا فحسب بل ان فرقة الجالغي هذه اشتركت في العزف مع الفرقة السيمفونية الهولندية في حفلة قدمت فيها السيدة فريدة مقاما باللغة الهولندية، كما احيت الفرقة حفلة خاصة غنت فيها فريدة اغاني من التراث العراقي امام ملكة هولندا. واذكر في هذا المجال الموسيقار العراقي وعازف العود احمد مختار الذي منح مؤخرا في لندن جائزة "الحمرا" الدولية للابداع في الفنون الجميلة، وذلك "تقديرا لاعماله الموسيقية التي مزج خلالها بين الموروث والمعاصر وحاور اغلب الآلآت الموسيقية الغربية والشرقية".
ان هذه الانجازات التي تبعث على الفخر لاتعني طبعا انها نتيجة الغربة او الاغتراب. فالفن يمكن ان يتطور ويتقدم بنفس الدرجة وربما اكثر في موطنه، المهم هو الانفتاح والتفاعل مع فنون وثقافات الآخرين وكسر الجمود واختراق الحدود. وعسى ان تتوفر لفنانينا المغتربين الظروف التي تتيح لهم العودة الى الوطن وممارسة الابداع والتجديد في ربوعه