في واحدة من المدن الجميلة الهادئة المعطاءة في فلسطين الحبيبة التي تحدث التاريخ طويلاً عن ثقافة اهلها واصالتهم الممتدة لحضارات قديمة في نابلس، ولد العبقري (روحي الخماش) ونحن نتناول هذه العقلية الموسيقية الرائعة ننحني احتراماً ونمتلئ غبطة وفخراً، فانه الرجل الذي طبع بصمةً واضحة وترك اعمالاً عظيمة وكبيرة وحضر اسمه خالداً في سجل العباقرة الذين تعاقبوا على تطور الموسيقى العربية.
ولد روحي الخماش في نابلس عام 1920 من اسرة بسيطة عرفت باتجاهاتها الدينية ولفت اليه الانظار اذ افصح عن عبقريته مبكراً فكان لا ينقطع عن البكاء الا عند سماعه للموسيقى، تعلق أيما تعلق بآلة العود وهو لم يرها ولشدة حبه للموسيقى لم يجد اهله بداً من الخضوع لرغباته، بدأ روحي الخماش يعود اذنه مستمعاً الى الموسيقى العربية والدبكات والاهازيج الفلسطينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، اهداه احد اقاربه وهو في السادسة من عمره آلة الربابة، فعزف عليها لكنه رفضها بعد حين لانها لم تلب رغباته ولم يجد ما يشفي غليله فيها كانت من انشط الطلبة في المدرسة الابتدائية وكان يحفظ الاشعار والاناشيد، واصبح مصدر اعجاب اساتذته والذين تنبؤوا له بمستقبل زاهر وكان دائماً يردد عبارة «اريد ان اتعلم العزف» فاصطحبه خاله الى حلب، وحلب كانت مدينة نشطة تزدحم بأهل الموسيقى والفن والادب وقابله الفنان سامي الشوا عازف الكمان الشهير فقدم له النصح بأن يذهب الى القاهرة وشجعه على دراسة الموسيقى، وكان مؤمناً بأن هذا الشاب سيكون له شأن في المستقبل.
كان روحي الخماش ذكياً استطاع ان يتفوق على زملائه واصبح عازفاً متميزاً بينهم وكان لا يخجل ان يعزف امام كبار الموسيقيين لثقته الكاملة بنفسه فغادرها بعد ان نال شهادة الدبلوم من المعهد الموسيقي الشرقي عام 1943 حيث عاد ادراجه الى نابلس مسقط رأسه، وعمل هناك مدرسا للموسيقى ثم انتقل الى دمشق ومكث فيها فترة وجيزة ولازم التجمع الموسيقي وكان يعزف معهم الموشحات الاندلسية والادوار المصرية، وبدأت موهبته تتفتق حيث قام بتأليف بعض المشارف الموسيقية ووضع الدواليب لنغمات مختلفة كما حاول ايضاً تأليف بعض القطع الموسيقية ،ومن المعروف ان الاربعينيات والخمسينيات كانت تشهد نشاطاً واضحاً للتأليف الموسيقي وكانت الاذاعات العربية تبث المؤلفات الموسيقية جنباً الى جنب مع الاغنيات العربية، وبدأ اسم روحي الخماش يظهر في الاذاعات من خلال تلك المؤلفات ومن ابرزها (الليلة السعيدة) و(انسام بلادي) و(رقصة الغجري) وفي عام 1948 غادر دمشق الى بغداد وكانت بغداد مستقره ومدينته التي يفتش عنها، وكانت بغداد ايضاً تشهد بداية التطور العلمي للموسيقى العربية فقابل القبنجي واستمع اليه وعلم ان المقامات العراقية كفيلة بأن تحيي كل مواهبه، وقابل في بغداد ايضاً فناناً كبيراً وعازفاً بارعاً هو الاستاذ الراحل جميل بشير الشقيق الاكبر لعازف العود الشهير منير بشير كذلك الفنان الشاب حسين قدوري عازف الجلو وسالم حسين واسماء عديدة لا يمكن حصرها، وهنا بدأ عمل روحي الخماش الجاد مع هذه النخبة الطيبة من العازفين وكان اول نشاط له في العراق هو التحاقه مدرساً في معهد الفنون وقد اختص بتدريس الموسيقى الشرقية على آلة العود ذلك لأنه اكتسب خبرة كبيرة في الموسيقى الشرقية من عازف الناي الكبير الموسيقار السوري علي الدرويش والعالم والموسيقار عازف العود الشريف محيي الدين حيدر، ومن جانب اخر فان الاذاعة العراقية قد فتحت كل ابوابها للموسيقار القادم من فلسطين الاستاذ الكبير روحي الخماش عازفاً وملحناً ومشرفاً موسيقياً وكان انشط الموسيقيين العرب واكثرهم تفهماً للفن العراقي غناء وموسيقى بألوانه المقامية والريفية فبالاضافة الى التأليف المسويقي للاغاني العراقية بادر الى تأليف فرقة موسيقية رائعة اطلق عليها (خماسي بغداد) ثم اصبحت فيما بعد (خماسي الفنون الجميلة) وكانت تضم خمسة عازفين وهو سر تسميتها بذلك. والعازفون هم: ابراهيم الخليل (آلة الرق)، وحسين قدوري (آلة الجلو)، وسالم حسين (آلة القانون)، وغانم حداد (آلة الكمان)، وروحي الخماش (آلة العود). وكانت مهمة هذه الفرقة هو تنظيم التراث المقامي فكما هو معلوم ان البستات العراقية القديمة كانت تعزف من قبل الجالفي البغدادي والجالفي البغدادي يعتمد على آلة الجوزة والسنطور وهما آلتان تراثيتان فنقلت فرقة الخماسي تلك الانغام اللحنية الرائعة الى آلاتها الحديثة والانامل المثقفة، واصبح العزف العلمي المتقن لتلك الانغام من قبل هذه الفرقة انموذجاً حديثاً يستوعب المستمع من خلاله الصوت اللحني المتكامل، وقد استوعبت هذه الفرقة كل الالحان التي قدمت قبل عشرات السنين من تاريخ تأليفها وقد استمرت هذه الفرقة بانسجامها الرائع سنوات عديدة وسجلت للاذاعة العراقية كل تلك الاعمال ونشاط آخر مهم يعتبر تأريخاً في الموسيقى العراقية يجب ان نقف عنده وقفة الاوفياء الذين يقدرون ذلك المشروع الذي كان نقلة نوعية للغناء العراقي ذلك هو تأليف وتشكيل فرقة الانشاد العراقية، فحينما يأتي فنان من فلسطين ويتعامل مع الفن العراقي بكل هذا الفهم والابداع ذلك هو شيء يلفت الانتباه.
كانت مهمة فرقة الانشاد العراقية والغاية من تأليفها وتشكيلها هي تنظيم الاصوات العراقية الشابة وصقلها وتهذيبها وتلقينها الاداء العلمي السليم ورفد الغناء العراقي من خلالها بألحان علمية متطورة، فعل ذلك روحي الخماش حينما استمع الى الاصوات التي كانت تطلب علم الموسيقى في المعاهد الموسيقية العراقية. قدمت فرقة الانشاد العراقية عشرات الاغاني وتخرج من خلالها مطربون ومطربات رفدوا الاغنية العراقية بأغان جميلة وكبيرة بعد ان تعلموا الاداء الجماعي والانفرادي واصبحوا يسافرون لنقل الاغنية العراقية كما استقطبت هذه الفرقة نخبة من الشباب العازفين والملحنين ولاقت تشجيعاً واهتماماً كبيرين وتخرج اعضاؤها عام 1976 ومنهم عارف محسن، سهام، اديبة، رعد حبيب، ناظم سعد، وحيد سعد، وآخرون.
والعمل الكبير الاخر للاستاذ روحي الخماش هو فرقة الموشحات العراقية التي اتحفت الجماهير العراقية والعربية باعمال كبيرة وكان فيها من الاصوات ما يثلج الصدر وقد برزت من خلال هذه الفرقة العبقرية اللحنية للاستاذ الراحل روحي الخماش الذي قدم عشرات الموشحات الخالدة، وكانت هذه الفرقة تضاهي فرقة عبدالحليم نويرة ومن الاصوات التي تذكر صوت الفنان عامر توفيق ومن الملحنين الذين رزوا ايضاً الاستاذ جميل جرجيس وكانت تقدم هذه الفرقة الاغاني بالكبيرة والجهد الرائع الذي قام به استاذنا الراحل روحي الخماش لم تلهه عن عمله الاساسي وهو تعليم آلة العود فكان يهتم بالموهوبين الذين يلتحقون في معهد الفنون الجميلة الذي اصبح فيما بعد معهد الفنون الذي كان استاذنا مدرساً فيه وكان يتابع تلاميذه صباحاً ومساء وهو ينتقل من الاذاعة الى معهد الفنون الى المعاهد المسائية الخاصة ومعهد الدراسات النغمية الذي استدرجه حين تشكيله بالاضافة الى قراءاته الواسعة للموسيقى الشرقية وبالاخص التركية منها، كان روحي الخماش موسوعة موسيقية تمشي على الارض وكان عالماً بارعاً في علم التصوير الموسيقي ولديه اذن متوقدة يفتقدها اغلب الفنانين وحين تستمع إليه وهو يرتجل الجمل الموسيقية تشعر بالغبطة وبالدهشة في آن واحد فقط عرف روحي الخماش بالعزف المنفرد الارتجالي على آلة العود وقد عده النقاد من كبار العازفين حيث وضع اضافة جديدة إلى هذه الالة العربية العريقة في وتره السابع فهو أول من وضع وتراً سابعاً إلى آلة العود حيث سبقه بالوتر السادس الموسيقار فريد الاطرش وكما هو معروف عند أهل الموسيقى ان الوتر السابع يعطي صوت «فا جواب الجواب» «بوزشن» وبهذا تكتمل أصوات العود في مراحلها الثلاث القرار، والجواب وجواب الجواب لكل الاصوات التي تستوعبها آلة العود حيث يدوزن الوتر السابع صوت سي مطلق وقد علم تلاميذه على هذا الاسلوب الجديد وبقي العود على سبعة اوتار لحين ظهور الموسيقار الشاب نصير شمة الذي اضاف الوتر الثامن ولكننا نقول بأن القياس ليس بعدد الاوتار وانما بأسلوب العزف والتكنيك وارتجال الانغام وتجانسها والنفس الطويل حين العزف واستحضار الخيال الموسيقي الذي يمنح المستمع تسلسلاً نغمياً ترتاح له النفس البشرية، ان كل العازفين الذين تخرجوا من العراق يذكرون جيداً فضل استاذهم عليهم فكلهم نهل من منهله الواسع وكل الخرجين الذين يتقنون العزف على آلة العود من معهد الدراسات النغمية تتلمذوا على يد الاستاذ روحي الخماش وكان قد زامل هذا الفنان الاستاذ منير بشير وجميل بشير وغانم حداد وسلمان شكر وكلهم يشهد ببراعة روحي الخماش واسلوبه المتميز وانه من امهر العازفين. لقد اعتنق آلة العود ولكنه لم يجعلها مصدراً لرزقه ولم يركض وراء المغنيين أو مع الفرق الموسيقية في المحلات العامة بل كان فناناً يحترم فنه، اتصف بالوقار وقوة الشخصية وكان يكتسب رزقه الحلال من مزرعة اشتراها في ضواحي بغداد وكان يمارس الزراعة بنفسه ويحب ان يرى انتاج يديه.
وفي نهاية السبعينيات اعتزل روحي الخماش الفن واتجه لمزرعته لاسباب خاصة وقد اختفى عن الانظار ولما افتقدته الساحة الفنية كواحدٍ من ألمع علمائها وأبرز عازفيها وأصدق معلميها لم يستطع مقاومة الدعوات والحاح أهل الفن وكان لابد من العودة مرة اخرى وكان في عودته مدرساً لآلة العود في معهد الدراسات النغمية كما عمل في نفس الوظيفة عصراً في بيت المقام العراقي وكان لفيف من الشباب يحملون عيدانهم ويشكلون حوله حلقات علمية موسيقية، كان روحي الخماش من الذين برعوا في كتابة النوتة الموسيقية فقد اراد أن يسجل لنفسه انجازاً كبيراً بتدوينه للمقام العراقي حرصاً منه للمحافظة على هذا الفن الراقي من الضياع وقد قام فعلاً في بيت المقام العراقي لبعض المقامات لمطرب العراق الراحل يوسف عمر وهو أول موسيقي عربي يتفهم المقام ويقوم بتدوينه الا انه لاقى معارضة شديدة من قبل قراء المقام فانهم لا يؤمنون بتدوين المقام العراقي ولديهم أسبابهم المنطقية وأهمها ان المقام العراقي هو أسلوب ادائي ارتجالي رغم ثبات قطعه وأوصاله لكنه يختلف باختلاف المدارس المقامية واختلاف أساليب مطربيه المتعاقبين عليه لذا توقف روحي الخماش عن مشروعه هذا واستمر بالتدريس إلى نهاية سنة 1998 حيث غادر روحي الخماش عوده ليترك تراثاً فنياً كبيراً متعدد الجوانب واعمالاً خالدة وفناً رفيعاً يحكي للاجيال قصة هذا الفنان الذي استمر عطاء متدفقاً لمدة ستين عاماً، رحم الله الموسيقار الفلسطيني الاصل والعراقي الجنسية روحي الخماش واننا اذ نكتب عنه بعض مانستطيع نتمنى ان نكون اوفياء له ولكل موسيقار اصيل اغنى موسيقانا العربية وحمل على اكتافه أسباب تطورها، فان مثل هؤلاء الرجال يستحقون الذكر والتمجيد لانهم نذروا اعمارهم من اجل ان يسمعونا نغمات خالدة تهذب مسامعنا وتطرب ارواحنا والاسماء كثيرة تلك التي عملت بجدية فارتقت بعقليتها الموسيقى العربية وتطور بجهدها الغناء العربي ووصل إلى كل شعوب العالم بأساليب عصرية علمية وأصبحت المدارس الموسيقية حالة تدعو للفخر والاعجاب.