ماذا يفعل الشاعر أمام تعنّت المحرر الثقافي في تغييب قصيدته؟ والى أين تذهب قصائد الشعراء أمام طغيان المحرر الثقافي الذي يعلن: ان لا شاعر سواي.
شخصيا ومنذ زمن ضوئي تراودني نفسي الكف عن كتابة القصيدة من أجل عينيّ المحرر الثقافي، التي اقرر ان أشفق عليها وأعفيها من قراءة ما أكتبه من رداءة.
أحسب ما أكتبه من قصائد هي من ضمن قصائد الرداءة التي تنتشر هذه الايام..وإلا ما كان من المحرر الثقافي ان يعطّلها، على نقيض ان يسارع الى نشرها على انها تحمل صبغات من التجديد وتنتمي الى الحداثة اللامتناهية. أليس دوره أن يقرر ويميّز بين الحداثة والرداءة؟
ولكن هل قام بهذا الدور لصالح ثقافة تنعم بالعافية وخالية من التشوّهات؟.. ثقافة جلية بلا التباسات؟
منذ زمن ضوئي ونفسي تراودني...
والمحرر الضوئي ذاته على كرسي التحرير..لا كانت قصيدتي تتطوّر حسب مذاقه، ولا هو يريد تغيير ذائقته أو ان يمتلك ذائقة شاملة كالناقد الحر والمستقل. وأنا لا يهمني ان كان هذا المحرر شاعرا أو روائيا أو حتى أنه مجرد مدير علاقات عامة. كل ما يهمني كما كل مبدع ان تمضي قصيدتي بسلام في فضاء ثقافي حيوي، ولكنها كانت دائما تقف عند أبوابه وحواجزه بلا رجاء. وشخصيا لا احب ان أرجو لقضاء مصلحة. ومصلحة القصيدة والابداع عموما هي النشر تحت شمس دافئة.
للمحرر الثقافي أبوابه العالية وحواجزه المسنّنة.. لقد كتبت قبل سنتين مقالتي في هذا الخصوص تحت عنوان "المحرر الثقافي مستبدا" حمّلتها نفس الشكوى عن نفس الطراز من هؤلاء المحررين الذين ينتشرون كالفقع على مساحات واسعة في الصحافة العربية، ساقتهم صدفة عمياء للجلوس على قبة عالية، تجيز لهم سلطة يؤدونها لذاتهم كي تبدو هذه الذات في العلو، وما عداها يظل هامش لاكتمال القبة.
والمشكلة ما زالت عالقة بالرغم من مرور الزمن الضوئي.. ومشكلة المحرر الثقافي مع تغييرات المشهد العربي السياسي والاجتماعي المنعطف نحو الحرية برغبة عارمة لاسقاط الديكتاتور الحاكم، ما عادت تجيز له ان يظل يلعب على الثقافة وجمهورها.. يجب ان يكف باعتبار نفسه انه جزء من حركة التغييرأو حتى انه رائد من روادها.
ان التغيير يجب ان يسري عليه كصاحب سلطة .. يجب اعادة سلطته الى مجال الحرية وبما تحوي الحرية من دور رائد في تطور وتقدم الشعوب في حياة من الانتاج، ولتصير وارفة المعاني تظلل في آن واحد السياسة وما يدور حولها من ثقافة وفنون.
****
شاخت قصيدتي وشخت أنا، وطبعا شاخ المحرر الثقافي الذي ما زال ممسكا بكرسيه مثل الحاكم العربي بكل أضراسه وأنيابه وقواه المكشوفة والمستترة، وينظر الى قصيدتي على انها ما زالت طفلة تلعب بالماء والطين.. ولا بأس ان وقعت ارضا وبان شيئا من لحمها البض.. فهي طفلة!
يقيني انها ليست طفلة في شيخوختها، وقد مرّت عليها أسئلة الخصب والابتكار واقتربت من اماكن الاشتعال في فرادتها وحداثتها وغاصت في التجربة بما لا تشبه أحد. لا تشبه المحرر الثقافي.. لا تريد ان تشبهه، ولا تريد ان تنصبغ بصبغته، لا بمقاهيه ولا بمفردات صحراءه... القصائد تشبه أصحابها، كما هي كصنف أدبي إبنة شرعية لبيئتها.
أما ان يتعنت المحرر الثقافي في عطبها من خلال تغييبها..حينذاك لا تصبح المسألة ثقافية، هي كيدية شخصية تطفو على جوهر الفن،هو مرض خاص يخص المحرر الثقافي دون سواه، وهي الاستبدادية التي لا نكف عن التحذير منها على كل المستويات.
كمبدعين، هل يحق لنا التدخل في عمل المحرر الثقافي؟ .. هو سؤال يشبه السؤال: هل يحق للمواطنين التدخل في عمل السلطات التشريعية والتنفيذية؟
عندما يطغى الفساد، وتصبح الثقافة ايضا في متناول "الشبيحة"،أو يتحول المحرر الثقافي الى "شبّيح" وله آليات عمل العصابات، فأن صرخة المبدع تصبح أكثر من ضرورية وحاجة ملحّة لاسقاط التمادي في اللعب على الايدولوجيا والقضية..
غالبا ما يضبط المحرر الثقافي وهو منحاز الى عشيرته والى اقليميته والى شلّته، ينحاز بمزاج عالي الوتائر الى نفسه كنرجسي ممتاز وفائق الجودة.. وهو هناك في منصبه باسم قضية ما.. ثقافية أو أيديولوجية.
يتعين علينا معرفة المقاييس التي تحدد عمر الاجيال الادبية..كي يتسنى لنا معرفة صلاحية استمرار وظيفة المحرر الثقافي في ذات الجريدة او الوزارة أو دار النشر، كي لا يتحول بعد أكثر من عشرين عاما في وظيفته الى صنم من سلاسة القديسين نكتب لاجله وكما يشتهي.
*****
أعود الى سؤالي الذي ابتدأت منه: ماذا يفعل المبدع امام طغيان المحرر الثقافي؟
المبدع الذي تراوده نفسه الكف عن الكتابة، ألا يشبه المواطن الذي يفكر بالهجرة عن وطنه؟ أليست النتيجة في كلتا الحالتين هي من فعل الطغيان؟
هل نتوقف عن الكتابة .. كمبدعين؟
هل نفرّغ الوطن .. كمواطنين؟
الثورة الشعبية قد ابتدأت في الوطن العربي وبدأت تعطي ثمارها.. فمتى نمتلك ثورة ثقافية تنهي عهودا طويلة وأزمانا ضوئية لاستبداد دعاة الثقافة بالجسد الثقافي.
سعيد الشيخ/مديرموقع الوان عربية
www.alwanarabiya.se