لم تغب عنه عينا أمه المبلولتان بالدمع، يتذكر كل شيء بدقة وجودة عالية، يتذكر طبق الحساء الساخن الذي سكبه والده مجو على رأس أمه المسكينة .
يتذكر جيداً وهو طفل في العاشرة كيف مد يده لصحن التمر، وإذا بوالده يهم بصفعه بقسوة، فلم يستطع تناول الطعام عند غروب الشمس وحلول الإفطار إبّان ضرب المدفع الرمضاني، لا يغيب عنه وجه أمه، ملامحها، بسمتها المصطنعة بوجه الأولاد لتشعرهم أن كل شيء على مايرام، يتذكر جيداً ذلك الثقب في حائط الغرفة الوحيدة والذي أحدثه أهل زوجها للتلصص وسماع ما يحكى، فقد تشكو شاها لأمها ظلم حماتها وتكالب بناتها عليها شتماً وسخرية .
ًذلك الثقب الذي قاموا بتوسيعه ليسع فوهة الأذن وليأتي الصوت واضحاً .
: مشاهد متراصفة في ذهنه كالكتب على الرفوف، أشياء يتذكرها تعود لعشرة سنين أو أكثر، تشعره بقتامة النور رغم ضوءه المنبثق، زيف يكمن في الضوء، كذب يكمن في الصدق شك يتغوط في اليقين، رذيلة تمارس اللواط مع الفضيلة، ُيتم يستولي عليه كأن أعماقه مملكة سبايا، كأن كوابيس الماضي حبال مشانق . تضغط على عنقه وتلوي رقبته.
لقد وصل للنمسا، بعد معاناة شهر كامل على الطريق، نباح الكلاب الحدودية مابين صربيا وهنغاريا يفترس أذنيه، كأن وصوله لبر الأمان خبر كاذب، يغلق عينيه، يدخل لعالم هو جزء منه، حائط يثقل صدره، الثقب الذي تموضع بداخله، شوق عنيد لأمه يستوطن محجري عينيه، وأب تعرى من أبوته تعامل معه وأخويه وأخته الوحيدة بفظاظة، كأنه راع يسوس خرافاً للذبح، أو جنرال حانق على كتيبة من العساكر الأغرار
أخرجتهم الحرب الطاحنة من أماكنهم، اليتم خدش دواخل الأطفال، صب قتامه عليهم، يتذكر جوان ملامح أمه وهي في غرفة الإنعاش، الطبيب مستاء من بقاء شاها في المشفى، إن موتها سريري، وبإمكانكم أن تخرجوها لتموت في بيتها، لقد تمكن السرطان- ! منها تماماً، ستلفظ أنفاسها قريبا كان الله في العون .
لم يكترث مجو بما قاله الطبيب تسمر جوان وخالته جين التي جاءت متأخرة لأختها لتراها وهي على هذه الحال: البائسة، قالت لمجو عند مخرج المشفى، كل ما يجري لأختي بسبب إهمالك، إخفاؤك عنا لمرضها وهل في ذلك من عار كي تتكتم عنه لأشهر عديدة، لو عرفنا ذلك لكنا على الأقل ساعدناك، أو قمنا بتدابير تحول دون تفاقم حالتها
وماالذي كنا سنفعله أو ستفعلونه، إنه أمر الله وقضاءه .
نظرت جين لأولاد اختها المساكين نظرة وجع وإشفاق، طفلاها يلعبان معاً ولا يدريان مايحدث، أما جوان ابنها البكر فلم تكن الدموع تفارق وجنتيه .
خرجوا بجثتها من المشفى ووضعوها في (الفان)، الكل خرجوا بوجوه مكفهرة، عابسة كأول أربعينة الشتاء، جوان بوجه أصفر يحاكي وجه أمه الميتة لتوها، خرج مع الخالة والأولاد والأب والجثة معاً من دمشق إلى منبج، ظل البكاء والنحيب غير المتقطع كأغنية تلك المسافات الطويلة، كان الوقت يحاكي هول الحزن وقساوة الحياة باتجاه المدينة، حدث ذلك في 2010 حين كانت الحياة برمتها في البلاد عبارة عن موتى أحياء يتقاسمون وقتهم مع الجثث، طيلة ساعات الرحلة باتجاه مسقط الرأس، حيث المدفن
عند وصولهم كانت وجوه المستقبلين أشبه بعلب سردين فارغة في كيس قمامة مفتوح كل اللاتي شاركوا في دفن شاها حية قبل مماتها، حماتها وبناتها كانوا في الصف الأول من جمهرة المودعين لها، شخصت قلوبهم تحاكي الموت كأنهم حبسوا بدواخلهم شاهدات قبور تنتظر تدوين أسماء جديدة عليها، مجو اعتلى المركبة برفقة زوجته الجثة فراح يوقف سيلان أنفه بمنديله إثر دموع صامتة تنهال من عينيه .
لم تمض أيام قليلة على ذلك الموت حتى سارع في الزواج من صبية عانس تعيش في إحدى القرى الكوبانية، راحت تلك الزوجة الجديدة تتعامل مع أبناءه الصغار كأنهم أسرى نازيين وقعوا بيد الروس، أو غلمان استرقّهم الرومان من تراقيا، أما مجو فراح يضاجع وينجب منها، لا شيء يراوده غير ذلك، فالحياة ستمضي كيفما اتفق، والأطفال يعيشون ما كتبه لهم الله، فهو يرى وهو يقسم النصيب، فللمفترس نصيب من فريسته، وللفريسة حصة حياة قبل أن تنتقل، لمعدة المفترس .
جوان لا تتوقف مخيلته عن استجرار ذلك الماضي الذي يحاكي هزائم الشعوب المنكوبة، لايدري لماذا يخفض رأسه كلما حاولت دمعة أن تنزل من أفق عينيه
لقد أخذ من والدته ملامحها وهدوءها، وأخذ عناداً وروح أب رحيم وعادل في تعامله مع أخوته، ها هو قد وصل النمسا، بعد كفاح شاق مع أب كالحياة أثناء الحرب لا يرحم، أمنيته أن ينجح في لم شمل أخوته المتبقين من رائحة أمه التي : من بين الغروب، تلوح له من بعيد وتقول له باسمة، أنت على الطريق الصحيح بني .