يعتبر نجيب سرور احد ابرز الفنانين المسرحيين والشعراء العرب الذين عاشوا في موسكو في اواخر الستينيات من القرن العشرين ابان دراسته في قسم الدراسات العليا في معهد الفن المسرحي (جيتيس) تحت اشراف المخرج المسرحي الروسي الكبير نيكولاي اخلوبوكوف المدير الفني لمسرح ماياكوفسكي .وارتبط نجيب سرور بوشائج قوية مع روسيا حين تزوج فتاة روسية لازمته طوال حياته في روسيا ومصر وانجبت ولده الوحيد شهدي. ونضع بين ايدي القراء مقالة تتضمن ذكريات احد الاصدقاء المقربين له بموسكو.
" قل للمهرجين المجانين : لقد ضاعت ارزاق أهل الفكاهة والمجون.. ضاعت لأن أهل العقل انفسهم قد اصبحوا من المجانين. خلطوا فى تصرفاتهم وارتكبوا الأعمال الشاذة ، فأضحكوا الناس جميعا" ( المهرج فى مسرحية "الملك لير" لشكسبير)
فى اواخر ديسمبر 1978، كان نجيب سرور قد فارق الحياة منذ بضعة اشهر، وصلتنى آخر دواوينه (رباعيات نجيب سرور) مرسلا اليَ مع رسول من القاهرة .
وحينما قرأت كلمات الاهداء : "إلى ولدى وأخى وعزيزى أبو بكر يوسف.. نبضات من حبنا المشترك لمصر" داهمنى احساس طاغ بأنها رسالة بعث بها نجيب الىً من العالم الآخر، حيث استقرت أخيرا روحه الحائرة المعذبة! كان الاحساس واقعيا الى درجة ارعبتنى. ولم استطع التخلص من وطأته الا بعد تحامل على النفس أعادنى الى توازنى الذى كدت افقده... وانهالت الذكريات.
فى عام 1959، كنا مجموعة صغيرة السن من مبعوثى "الجمهورية العربية المتحدة" ندرس فى كلية الآداب بجامعة موسكو، جاءنى زميلى السورى عدنان جاموس، وكان انضجنا خبرة واكثرنا معرفة بشؤون الحياة والأدب ، بعدد من مجلة "الآداب" البيروتية قائلا: هل قرأت هذه القصيدة؟ وللصراحة فقد كنت أرى هذه المجلة لأول مرة، إذ غادرت مصر الى موسكوعام 1958 بعد ان انهيت الدراسة الثانوية لتوى، وعمرى 18 سنة، وكانت قراءاتى خارج المنهج الدراسى لا تكاد تحيط بما يصدر من روايات و قصص، فلم يبق للمجلات الأدبية وقت أو نقود. كانت القصيدة بعنوان "الترجيديا الانسانية" لشاعر لم اسمع عنه من قبل هو: نجيب سرور. و كان مطلعها لافتا و جاذبا:
كانوا قالوا: إن الحب يطيل العمر ..
حقا، حقا.. ان الحب يطيل العمر!
حين نحس كأن العالم باقة زهر،
حين نرق كبسمة فجر،
حين نشف كما لو كنا من بلور،
حين نقول كلاما مثل الشعر،
حين يدف القلب كما عصفور،
يوشك يهجر قفص الصدر،
كى ينطلق يعانق كل الناس...
كانت قصيدة مختلفة عن كل ما قرأت حتى ذلك الحين، واثارت فى نفسى العديد من الأسئلة..سألت صديقى عن هذا الشاعر فقال انه مصرى، وهو هنا فى موسكو، فأبديت تشوقا للتعرف به. فوعدنى عدنان الغامض -الذى بدا لى آنذاك لغزا لا يفصح إلا عن قليل مما يعرف- بأخذى معه الى نجيب سرور فى المدينة الجامعية الجديدة لجامعة موسكو على تلال لينين، وكنا نحن نسكن فى المدينة الجامعية القديمة على اطراف موسكو.. فى نفس المبنى الذى كان يسكن فيه قبلنا ببضع سنوات ميخائيل جورباتشوف عندما كان طالبا فى الجامعة.
استقبلنا نجيب سرور بابتسامة عريضة كشفت عن فجوة وسط اسنانه العليا (علامة الشبق!) . وكان حاجباه معقودين بتقطيبة طبيعية، وعيناه الضيقتان، الشديدتا الذكاء والمكر، تشعان بالمرح والثقة بالنفس، وتنقلان اليك احساسا بأن صاحبهما ينظر الى ما حوله و من حوله نظرة فيها كثير من السخرية والمرارة الدفينة.وكان ثمة تناقض هائل بين هذا الوجه البشوش الممتلىء و الضاحك ، وهاتين العينين بنظرتهما الثاقبة والساخرة.
لفتت نظرى فى ذلك اللقاء تفصيلة خارجية .فقد كان الحاكى يعمل طوال جلستنا، و نجيب يغير الاسطوانة بين الحين و الحين،و كانت كلها موسيقى كلاسيكية لموسيقيين لم اكن سمعت حتى بأسمائهم. و كنا قد تعودنا منذ صغرنا ان نسرع بإغلاق المذياع أو تحويل المحطة ما ان يعلن المذيع عن فاصل من الموسيقى الكلاسكية ، التى لم نكن نفهمها بنغماتها المشوشة التى لا تسير على ايقاع واحد ، بل تزعج آذاننا الشرقية بهذا التخبط بين الانغام صعودا وهبوطا ، طولا وقصرا، ونحن نبحث فيها عبثا عن مستقر للايقاع المطرد المطرب! وأسارع فأقول اننى مدين لنجيب سرور بتعرفى على الموسيقى الكلاسيكية الروسية والغربية و تذوقى لها. فمنذ ذلك اليوم وطوال وجوده فى موسكو ، كان نجيب يعلمنى كيف أتذوق اللحن الغربى ، ويشرح لى مواضيع السمفونيات، ويلفت انتباهى الى هذه النغمة أو تلك ، والى خصائص الأسلوب الموسيقى لهذاالموسيقار أو ذاك. كان يفعل ذلك بتلقائية وحماسة وحب غير مصطنع للموسيقى جعلنى لا اشعر بأننى تلميذ فى حضرة معلم. وعندما سألته عن سبب تعلقه بالموسيقى الكلاسيكية قال إن المخرج -و كان نجيب سرور قد جاء فى بعثة حكومية لدراسة فن الاخراج المسرحى- ينبغى ان يكون. على اطلاع واسع بكافة الوان الثقافة والفنون ، لأن المسرح هو مجمع الفنون ، والجهل او قلة الدراية بأى لون منها يؤثر سلبا على قدرات المخرج الابداعية وعلى مستوى حرفيته.
ومنذ أن تعرفت بنجيب سرور أحست بأننى مشدود الى هذه الشخصية الفذة كقطعة حديد الى مغناطيس قوى. كان فارق السن بيننا غير كبير، إذ كنت فى العشرين و كان هو فى اواخر العشرينيات ، و لكن الفارق فيما عدا ذلك كان هائلا.
كان نجيب- بالنسبة الى على الأقل- كنزا لا يفنى من المعرفة ، و شخصية متعددة المواهب الى درجة خارقة. فقد كان ممثلا، و شاعرا، و مخرجا، و ناقدا ، و كاتبا.و كانت معرفته بالأدب العربى والغربى واسعة. ولكثرة ما لاحظت فى اشعاره من استشهادات بالتاريخ والأساطير المسيحية ظننته في بداية تعارفنا مسيحيا ، خاصة وان الاسم (نجيب سرور) أقرب الى الاسماء المسيحية فى مصر. و تحرجت أن اسأله . و لكنه ملأ أمامى ذات مرة استمارة إقامة فرأيت جواز سفره، و كان اسمه فيه : محمد نجيب محمد سرور هجرس! و فيما بعد لمست كيف كان يستلهم فى اشعاره التاريخ والأساطير الفرعونية والاغريقية والشعبية المصرية و الفلكلورية العربية ، إذ كانت الروافد الثقافية المختلفة تصب لدى نجيب في نهر انساني عريض يغترف منه كيف يشاء . أما الانتماء الدينى فكان مسألة تركها وراء ظهره!
و كان نجيب شخصية معقدة ، ولكنها فى غاية الغنى والعمق، منطلقة ومرحة الى اقصى حد. كان لا يكف عن القاء النكت و القفشات الفورية، بنت الساعة. وحتى فى ذروة الجد واحتدام النقاش كانت القفشة تفلت رغما عنه، فينفجر الحاضرون بالضحك، و ينفرط عقد التزمت والجدية.
و لم يفلح نجيب في تعلم اللغة الروسية حسب القواعد، فكان يخلط خلطا شديدا بين حالات الاعراب الست فى اللغة الروسية، حتى أشاع انه اخترع حالة جديدة ، سابعة، للاعراب، هى الحالة التى يتكلم بها! و لكنه كان دائم القراءة باللغة الروسية ، و دؤوبا -كتلميذ- فى استخراج معانى الكلمات الجديدة من القواميس، وكأنما يريد أن يسبق الزمن ليطلع على الأدب الروسى بلغته الاصلية. وعندما يعجبه كتاب، سواء فى الادب أم فى الفلسفة أم فى التاريخ .. كان ينكب عليه وينقطع له، فلا ينام احيانا عدة ليال ولا يأكل الا لماما,و لكنه لا يكف عن تناول الشاى والقهوة. ويظل فى هذه الحمأة ، وهذا التوتر الذهنى والعصبى ، حتى يفرغ من قراءة الكتاب المكتوب بلغة لا يكاد يعرفها!
وتلك كانت احدى خصال نجيب سرور التى عرفتها فيه فيما بعد.
ولم يكن نجيب سرور يكتب الشعر كثيرا. قصيدتين أو ثلاثا فى السنة.. وكنه كان يعانى مخاض القصيدة بالأسابيع.. يكتب و يشطب و يمزق، ويشرد كثيرا وهو يدندن لنفسه بإيقاعات ما، واحيانا يصبح غير قادر على تحمل هذه الحالة النفسية وحده، فيبوح لى بمطلع القصيدة أو ببضعة أبيات منها، وكأنما ينفس عن زفرة جاش بها صدره.
ولم يكن لنجيب سرور مثيل فى القاء الشعر..و شعره خاصة.وقد اجتمعت له ملكة الصوت الجهير العميق، المتوسط النبرة ما بين "الباص" و "الباريتون" ، مع القدرة على التحكم في مخارج الالفاظ التى اكتسبها عن دراسة فى المعهد العالى للفنون المسرحية بالقاهرة. لم يكن يقرأ الشعر بل يمثله ، مؤديا بصوته أدوار الشخصيات المختلفة إذا كانت القصيدة درامية، أو مختلف العواطف ، اذا كانت القصيدة وجدانية. وحتى الأبيات العادية، التى ما كانت لتحرك فيك أحاسيس قوية لو قرأتها بنفسك ، كانت تنبض بالمشاعر الجياشة فى القاء نجيب سرور وبصوته المتفرد ، وتهزك الى الاعماق. قد عرفت شعراء عديدين لا يجيدون القاء شعرهم فيضيعون الكثير من جماله ، ويهدمون بصوتهم ما بنته قريحتهم...
كنا نلتقى ثلاثتنا - نجيب عدنان و أنا - فى مقهى من مقاهى موسكو، حيث يختلف الجو عن مثيله فى المقاهى الشرقية. فالمكان هنا مغلق دائما بسبب الجو البارد ، هو اقرب الى المطعم منه الى مقهى المشروبات الشرقي ، والرواد يأتون ليأكلوا و يشربوا و يرقصوا. أما نحن فكنا نختار طاولة فى احد الأركان ، وننفصل بها عن كل ما يحيط بنا من صخب الموسيقى ، وضجة الأطباق و الملاعق، و شهقات الثمالى ، و نظرات الشقراوات الداعية، و دقات احذية الراقصين المدوية. كان نجيب يقرأ لنا من اشعاره، ونحن نصغى اليه فاغرى الأفواه ، وعندما يلقى قصيدة حزينة كقصيدة " الحذاء" ( عن والد نجيب الذى ضربه الاقطاعى بالحذاء امام ابنه نجيب) كان صوته يتهدج ، وتنساب الدموع على خديه ، وما ان ينهى القصيدة حتى نهب لعناقه وتقبيله و مواساته، والدموع تسيل على خدودنا نحن أيضا!...
وكنا لا نغادر المكان الا بعد انفضاض جميع الرواد ، وجمع الكراسى والمفارش ، واطفاء اضواء الصالة ، بينما نحن مندمجين مع اشعار نجيب سرور، غير عابئين بما يفعله خدم المقهى لإجبارنا على الانصراف. وفى ليالى الصيف القصيرة فى موسكو، إذ يحل الفجر فى الثانية صباحا وتشرق الشمس فى الرابعة ، كنا نمضى متسكعين فى شوارع موسكو النظيفة والخالية، وخاصة فى وسط المدينة ، ونجيب يواصل القاء اشعاره تحت تماثيل الشاعرين بوشكين و ماياكوفسكى والأمير يورى دولجاروكى مؤسس موسكو.ونظل نضرب فى الشوارع حتى الساعة السادسة ، موعد افتتاح محطات المترو، لنستقله فى اتجاهين متعاكسين: هو الى المدينة الجامعية الجديدة ، وعدنان و انا الى المدينة القديمة...
وسرعان ما اصبحت راوى اشعار نجيب سرور فى مجموعة الدارسين المصريين والسوريين فى موسكو. ورحت اقلده فى طريقة القائه المتميزة، ونجحت فى ذلك الى حد ما. فقد لاحظت ان السامعين لا يعجبون بالأشعار فحسب، بل وبطريقة القائى لها.وشيئا فشيئا تجمعت حول نجيب سرور مجموعة من الطلبة الشباب المصرين والسوريين، فانتعش وارتفعت معنوياته، وبدأ يخرج من عزلته التى كان قد ضربها على نفسه عند مجيئه لموسكو، لاقتناعه-كما قال لىفيما بعد- بأن المبعوثين المصريين آنذاك ‘(عام1959 ) كانوا منتقين بعناية من اجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمىيٌ واحد. أما هو فأفلت بأعجوبة ، لأنه وصل الى موسكو فى قمة الحملة المعادية للشيوعية فى "الجمهورية العربية المتحدة", وهى حملة صاحبت اقامة الوحدة بين مصر و سوريا. ولعبت هذه الصدفة دورا مأساويا فى حياة نجيب سرور فى موسكو.
فما ان افصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسى, وأشاع انه كان عضوا بأحد التنظيمات الشيوعية فى مصر(جماعة حد تو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك وريبة قوية من قادة التنظيمات الشيوعية العربية فى موسكو ، و خاصة تنظيم الحزب الشيوعى السورى الذى كان يقوده فى موسكو احد اعضاء اللجنة المركزية للحزب اللاجئين الى الاتحاد السوفييتى. وكان مبعث الريبة هو: كيف يتمكن شخص يقول انه شيوعى من المجىء الى موسكو فى هذه الفترة بالذات، ويفلت من اجهزة المباحث المصرية التى كانت فى اوج عنفوانها، بل وفوق ذلك يأتى طالب دكتوراة فى بعثة حكومية!
و فى محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب الى التطرف، فلجأ الى تشكيل مجموعة من "الديمقراطيين المصريين" لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبى فى جامعة موسكو، فقفز الى المنصة واستولى عليها ، واطلق بيانا ناريا ضد "النظام القمعى الديكتاتورى" فى مصر وسوريا. وبينما هدرت القاعة المملوءة عربا واجانب بالتصفيق ظهر الحرج والضيق على أوجه المسؤولين فى الجامعة ، الذين وضعهم نجيب فى ورطة شديدة. ونجحوا اخيرا فى تنحيته عن المنصة ولكن بعد فوات الأوان! ففى اليوم التالى احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفصل نجيب من البعثة (هو وماهر عسل الذى ترجم له البيان وألقاه بالروسية) وألغى جوازا سفرهما, وطالبت السلطات المصرية المسؤولين السوفييت بترحيل نجيب سرور وماهر عسل الى القاهرة فورا!
بهذه الحركة نجح نجيب فى كسب ثقة الشيوعيين العرب فى موسكو فدافعوا عن بقائه فيها و تكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب فى موسكو، ولكنه نقل الى مدينة جامعية اخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين الهائجين ضده. و بمرور الوقت ادرك نجيب انه ارتكب حماقه ،ولم يعد يدرى ماذا يفعل بهذه المجموعة الصغيرة التى التصقت به. واعترف لنا صراحة بأنه لا يفقه شيئا فى السياسة ،وانه لا يريد ان يلحق بنا الضرر، ولذلك قرر تركنا والانصراف الى الدراسة، ونصحنا ان نحذو حذوه.
حتى ذلك الحين لم اكن قد ادركت مدى تعقد شخصية نجيب سرور، فأزعجنى منه هذا السلوك الذى اعتبرته "غير رجولى"، و لم استطع ان افهم سبب هذه الازمة التى داهمته فى الوقت الذى بدا و كأن اموره تسير الى الأفضل بعد تبدد سحب الشكوك فيه و انتصاره فى المواجهة مع السلطات المصرية و فشل الضغوط التى مورست ضده. و اخذ نجيب يبتعد عنا و يغرق فى الشراب و الديون. و فى هذه الفترة بدأ يكتب قصيدة "العودة" التى اورد مقاطع منها فى ديوانه " لزوم مايلزم" و هى قصيدة مغرقة فى اليأس و الضياع و الحنين الى الوطن:
"يا مصر يا وطنى الحبيب!
يا عش عصفور رمته الريح فى عش غريب..
يا مرفأى، آت انا آت.. و لو
فى جسمى المهزول آلاف الجراح..
و كما ذهبت مع الرياح..
يوما اعود مع الرياح..
و متى تهب الريح؟ أو هبت..
فهل تأتى بما يهوى الشراع؟
ها انت تصبح فى الضياع..
فى اليأس.. شاة عاجزة..
ماذا لها ـ ان سلت السكين ـ غير المعجزة؟!.. "
وهجر نجيب سرور المسرح الذى كان يدرس فيه تحت اشراف المخرج الكبير نيكولاى اخلوبوكوف متعللا بأن اخلوبوكوف مخرج شكلى يهوى المؤثرات الصوتيه والضوئية ولا يغوص فى اعماق النص المسرحى. و قد شاهدت بالفعل مسرحية "هاملت" من اخراج اخلوبوكوف فأصَمّ اسماعنا دوى الطبول فى اوركسترا المسرح, واغشت ابصارنا الأضواء الباهرة التى كان يسلطها على الصالة. ومع ذلك لم يكن هذا هو السبب الحقيقى الذى نفـّر نجيب من دراسة المسرح, وانما كانت الأزمة الحادة التى أخذت تتفاعل فى اعماقه، والتى لم استطع - رغم كل ما بذلت من جهد آنذاك - أن ادرك أسبابها وبواعثها. كنت لا ارى غير ظاهرها:الاغراق فى الشراب، اليأس المطبق، الاحباط المطلق. كل ما استطعت ان ادركه هو ان اغراقه فى الشراب كان الوسيلة التى لم يجد سواها للهروب من أزمته. و ذات مرة سألته مستنكرا- و كنت اجالسه فى احد المطاعم - لماذا يفرط فى الشراب الى هذا الحد،
فأجاب: لكى أنسى!
قلت له : و ما الذى تريد ان تنساه ؟
فأجاب بروح دعابته الحاضرة دائما: و هل ترانى أذكر.!
فى اواخر فترة وجوده فى موسكو، حوالى عام 1963 بدأ نجيب يكثر من الحديث عن النفوذ الصهيونى فى الاتحاد السوفييتى. و استنكرنا منه ذلك بشدة ، إذ كنا نعيش فى "عصر الأممية" و لم نصدق ان الاتحاد السوفييتى العظيم يمكن ان يكون خاضعا للنفوذ الصهيونى ، و اعتبرنا - انا و زملائى - أن نجيب يغالى كعادته، و خاصة فى ظل تفاقم ازمته الشخصية. وبعد ذلك بسنوات أدركت مدى صواب ما يقال عن عين الفنان التى ترى ما وراء الظاهر وتغوص الى اعماق الاشياء ،و تكشف لنا ما لا نراه ، مثل عينى زرقاء اليمامة! و أنا لا اريد هنا ان اقول إن نجيب سرور كان محقا تماما آنذاك ، بيد أنه رأى بوادر الظاهرة التى لم تتكشف لنا الا فيما بعد.
ثم وقعت الحادثة التى وضعت نهاية لبقاء نجيب سرور فى موسكو...
كان يسامر احد الاصدقاء اليمنيين فحدثت مشاحنه بينهما و بين أحد الرواد الذى ظنهما يهينانه. وتدخل رجال الشرطة و حاولوا اقتياده بلَى ذراعيه. و كان نجيب قوى البنية فتخلص منهم بقوة اعتبروها مقاومة ، فاجتمعوا عليه و اقتادوه الى قسم الشرطة حيث اوسعوه ضربا. و قال لى نجيب و هو يروى هذه الواقعة : لقد بكيت آنذاك ليس من الألم ، بل على انهيار المثال ، واحسست انه لا فرق بين شرطة سوفييتية و مباحث مصرية ، فكلها اجهزة قمع، و انما نحن الذين صدقنا الاوهام عن "انسانية الاشتراكية". و كعادته " نظّـر" ( بتشديد الظاء)نجيب لهذا الحدث ، و اختزل فيه كل جوانب الظاهرة!
و سافر نجيب الى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسين المصريين هناك، حيث عمل فى القسم العربى بإذاعة بودابست. و التف حوله العرب و رحبوا به، و لكن سرعان ما عاودته أزمته التى لم يفلح تغيير المكان فى اطفاء جذوتها. و كان يتصل بى من هناك هاتفيا، مؤكدا على استفحال النفوذ الصهيونى لا فى القسم العربى فى الاذاعة فحسب ، بل و فى معظم اوجه الحياة السياسية و الثقافية و الاقتصادية فى المجر. و بالطبع أخذت ما قاله على محمل المبالغة المعهودة فيه...
و ذات مرة اتصل بى من بودابست، و كان ذلك فى ربيع عام 1964, و طلب من عاملة البدالة أن تكون المكالمة على حسابى، فوافقت مستغربا. و عندما تم الاتصال أخبرنى انه طلب ذلك لأنه لا يملك ثمن المكالمة، و قال بصوت متهدج أفجعتنى نبرته المتهالكة إنه جائع و لم يأكل منذ ايام ، و سيذهب غدا الى السفارة المصرية "ليسلم نفسه" (كما قال) لأنه لم يعد يحتمل الزيف المحيط به و يريد ان يعود الى مصر ليموت فيها ، مثل سنوحى!
رجوته ان يهد أو لا يتسرع و سنحاول تدبير الأمر، و لكنه اصر قائلا انه لم يعد ثمة معنى للاستمرار فى لعبة الخداع ، فالعالم كله لصوص و مخدوعون ، و ما المذاهب الا أساليب يلجأ اليها اللصوص لتغطية سرقاتهم. و بهذه المناسبة فقد كتب نجيب سرور فى بودابست قصيدته الشهيرة "المسيح و اللصوص" حيث "اتهم" فيها المسيح بأنه السبب فى ظهور اللصوص الذين اخذوا يتاجرون باسمه، و باسمه يحكمون!
و حين يحاول "مسيح نجيب سرور" أن يرد على الشاعر بأنه سيعود ليصحح الأوضاع يجادله الشاعر:
ـ-هل تصدقُ ما تقولٌ؟
ـ-الآب قال بأننى حتما أعودْ
مَلِكاً على أرض البشرْ
لتَسودَ فى الناس المسرةُ و السلامْ!
ـ-لو عدتَ.. منذاَ يعرفُكْ؟
ـ-سأقول: جئتُ انا المسيحْ!
ـ-سيطالبونكَ بالدليلْ.
-ستكونُ فى جيبى البطاقةُ و الجوازْ.
ـ-هذا قليل..
ما أسهلَ التزويرَ للأوراقِ فى عصرِ اللصوصْ.
و لديهمُ (الخبراءُ) سوف يؤكدونْ
أن الهويةَ زائفةْ!
ـ-لكنْ عليها الختمُ..ختمُ الآب..
ـ-يا بئسَ الدليلْ!
سيؤكدُ الخبراءُ ان الختمَ برهانٌ على زيفِ الهوية!
ـ-سأريهمُ هذى الثقوبْ..
فى جبهتى -انظرْ- و فى الكفينِ، فى الرجلين..
جئتُ أنا المسيحْ!
ـ-سيقول لوقا: قالَ مرقصُ
إنَّ متََّى قال يوحنَّا يقولْ:
"فى البدء كانَ الأمرُ "إصلبْ
و الآن صار الصلب أوجَبْ!"
حتماً ستُصلبُ من جديد
همْ فى انتظاركَ-كلُّ اتباعِكَ، قطعانُ اللصوص-
همْ فى انتظاركَ بالصليبْ...
ماذا؟ أتبكى؟ كلُّ شىءٍ مضحكٌ حتى الدموعْ!
العصرُ يضحك من دموعك ، من دموعى, عصرنا
عصرُ اللصوصْ ،
بل أنتَ... حتى انت لصٌّ!
لو لم تكن ما كان فى الأرض اللصوصْ!
حتى أنا لصٌ.. ألم أخدع طويلا باللصوص؟!
و نقول بين قوسين إن الأديب المصرى الكبير يوسف ادريس كتب فى نفس الفترة تقريبا مسرحية "المخططين" التى تتصدى ايضا لظاهرة استيلاء "جماعة المنتفعين" على الحكم ، ومنع اى محاولة لتصحيح الأوضاع حتى لو كانت من صاحب الفكرة نفسها! و هذا دليل على انتشار ظاهرة عدم الثقة فى الأنظمة الحاكمة آنذاك ، و التى كانت تتشدق بالشعارات الديماغوجية عن الحرية و الديموقراطية و الاشتراكية ، فى غيبة تامة لهذه المثل.
على أن نجيب سرور كتب فى نفس الفترة فى بودابست روايته الشعرية الرائعة "ياسين وبهية" التى حولها المخرج كرم مطاوع الى مسرحية قدمت على "مسرح الجيب" فى القاهرة عام 1965 بعد عودة نجيب سرور الى مصر. و تمثل هذه الرواية رؤية جديدة لقصة " ياسين وبهية " المعروفة فى الأدب الشعبى المصرى، إذ يجعل نجيب من بطلها مناضلا ضد الاقطاع و ثائرا على الظلم، و مضحيا بحياته فى سبيل تحرير الفلاحين، مثل سبارتاكوس محرر العبيد. فكيف اجتمع فى نفس نجيب ذلك الضياع الخانق و اليأس المطلق مع هذا الايمان الحار بعدالة النضال من أجل الحرية و الثورة على الظلم و الاضطهاد؟ أهى اصداء مرارته القديمة من الاقطاعي الذى أهان الوالد أمام ابنه الصغير؟.. أم هى روح الفلاح المصرى الكامنة فى اعماق نجيب سرور، و التى تتجاوز الايمان أو الكفر بالنظريات و المذاهب، لأن النظريات تقوم وتسقط ، أما الارضية الفلاحية الضاربة فى عمق التاريخ المصرى لآلاف السنين فتبقى هى الأساس الراسخ الذى ينقذ من اليأس و الضياع. و بالفعل، فلو تجاوزنا عن الخط المتعرج والمتأزم لحياة نجيب سرور، فسنجد خطه الابداعى ، ممثلا فى مسرحياته التالية لـ "ياسين وبهية" : ( "آه يا ليل يا قمر", قولوا لعين الشمس.." ) ، هو خط نضال العامل المصرى والجندى المصرى - بعد الفلاح فى ياسين و بهية- ضد الظلم الطبقى و الاستعمار الأجنبى. ولهذا فبوسعى أن اقول إن نجيب سرور، رغم كل شطحاته و تقلباته و ضياعه و أزماته، كان فنانا ملتزما بقضايا شعبه ووطنه على المستويين المصرى و العربى, حتى الرمق الأخير...
و كم مرة طرحت على نفسى هذا السؤال: ما السبب فى الأزمة التى لازمت نجيب سرور طوال حياته القصيرة و كانت السبب فى رحيله المبكر؟
فى البداية ظننته الاضطهاد.. و لكن نجيب عاد الى مصرفلم يوضع في السجن ، ولم يتعرض للملاحقه ، اللهم الا لمضايقات الاجهزة المعروفة.. وكنت اظنه الظلم و حرمانه من فرصة تحقيق مواهبه.. و لكنه نشر دواوينه ومسرحياته، و مثـّل على المسرح و فى التليفزيون، و أخرج للمسرح و أُخرجت له مسرحياته.. ربما لم ينل كل ما كان يريد.. و لكنه لم يحرم تماما، بل وعُـين في وظيفة مخرج في مسرح من مسارح الدولة...
ثمة تفسير منطقى واحد لهذه الأزمة، لا أجد غيره..
إنه الصراع فى نفسية الشاعر بين الواقع المرفوض.. و المثال المستحيل..
انه مأساة العقل .. الذى يحفر كالمثقاب فى طبقات الزبف و الأكاذيب ليصل الى الحقيقة، ولكنه للأسف يواصل الحفر حتى يخرج الى الجانب الآخر، محدثا ثغرة فى السد، تتسع مع الزمن ، لتندفع منها المياه المخزونه مدمرة كل شىء!...
الفنان شمعة تحترق.. لتضيىء لنا الدرب الى الحقيقة ،و الخير، و الجمال...
و نجيب سرور فنان لم يدخر ضوءه ، فاحترق سريعا كشهاب مرق فى سمائنا.. و لكنه ترك فى نفسى ، و فى نفوس الكثيرين غيرى ، أثرا ساطعا لا ينسى.. لأنه أثر الموهبة المبدعة...