فجأة وجد رأسه معلقا بحبل بين أغصان الشجرة وعيناه جاحظتان إلى السماء .
كان جسده يرتعد ويترنح في الأنشوطة التي تطيش بعنقه بين الحياة والموت ..
وكانت في تلك اللحظة تنهش جوانيته صور الطعنات القاتلة التي توغلت عميقا في أثلام صدره.. وطعنات غدر أخرى تنغرس عميقاً في الظهر..
مضى فجراً في آخر موعد مع جسده ...
ليس في نفسه غير ما تراكم من دبابيس الكلام وما انغرس في قلبه من نبال الإهانة ...
لذلك كانت الشجرة اليتيمة أمامه تبدو في يوم القيامة ذاك مثل نقطة الخلاص من مأساة بطعم فاكهة ممهورة بالحنظل .
لا أحد منهم فكر يوما في توشيح صدره ولو بزر اعتراف كم كان هو جديراً به .. ولا أحد فكر يوما في تقبيل تلك اليد الشقية .. الصلدة، التي غرست كل هذه الأزهار المصفوفة بعناية في حديقة البيت .. ولا أحد رأى حبيبات العرق التي تلتمع على هامته مثل نجمات مزهوة بأنوفها المعقوفة بالنخوة .
ذات مساء شتوي .. من بعيد تسمعنا لشهقته الأخيرة تأتينا مثل تلويحة الوداع...
في ذلك المساء الأرجواني الغائم ألفينا البيت مغموراً بأصوات كثيرة .. ملغزة وحزينة .. كانت تستبد برؤوسنا .. ورغم ذلك لم نركن متدثرين بحزننا في زاوية النحيب .. بل هرولنا إليه حاملين توسلاتنا بالبقاء لأجل حياة أطول مما يتخيل العمر ..
أسرعت إليه بخطوات حثيثة لعلني أستطيع تفكيك أنشوطة الحبل الملتف حول عنقه المشوب بندوب دامية وأضفر منه بكلمة أو إيماءة توحي إلي بوصيته الأخيرة قبل أن تلقي به أيادي الضغينة في قبر غريب تحت شجرة الزيتون اليتيمة .
يا لحظي العاثر .. في لحظة غفلة مني ألفيت جسده مسجى وملفوفا في كفن ناصع البياض .. كما لو أن ذلك الكفن كانوا قد جهزوه له منذ الولادة ..
خمنت لحظتها أنه ربما استنفذ صبره وتعجل الساعة التي سيتطهر فيها بماء العزة وهو يعانق الأنشوطة بعشق قوي ليستريح إلى الأبد من مكر طعناتهم .