انستاس ماري الكرملي .. هو اسم شهرته، واسمه الحقيقي بطرس جبرائيل يوسف عواد . كاتب ولغوي مدقق شغوف باللغة العربية، ورجل دين مسيحي كان له محبوه ومريدوه لأخلاقه ومزاياه، ولد في بغداد، الخامس من آب 1866م، وتوفي في السابع من كانون الثاني 1947م تاركاً مكتبة تعد من أضخم المكتبات الخاصة في العراق ، ضمت نحو عشرين ألف مجلد ، بينها 1335 مجلدا مخطوطا.
إهتم الكرملي خلال حياته بموضوعات اللغة والتأريخ والأقوام والملل والنحل والبلدان وغيرها.
ذاع صيته وصيت مجلسه الأسبوعي ـ مجلس الجمعة ـ الذي كانت تحضره أسماء ثقافية كبيرة كمصطفى جواد وعبد الرزاق الحسني ومحمد رضا الشبيبي وروفائيل بطي والملا عبود الكرخي . وعُرف بغزارة نتاجه الفكري والثقافي من كتب ومقالات وبحوث . ترك الكثير من المؤلفات بعضها مازال مخطوطاً ، وتعرض الكثير من مؤلفاته الى الإتلاف سنة 1914 في أثناء نفيه الى الأناضول ، بسبب موقفه من اللغة العربية ، فضاع على الأجيال ارث كان يمكن الاستفادة منه . وعُرفت عنه مراسلاته مع كبار أعلام عصره بشأن القضايا العلمية واللغوية التي إهتم بها ، كأحمد تيمور وأحمد زكي باشا ومحمود شكري الآلوسي ، وكانت له أيضا مساجلات مع آخرين انتهى بعضها بالخصومة .
كتب فيه الشاعر الفلسطيني نديم الملاح ـ والأبيات الشعرية منشورة في كتاب : في ذكرى الاب الكرملي الراهب العلامة (1) :
حـــي الاب العـــلامـة والـجـهـبـذ الفـهـامـــة
من عاش للفضل ركنا وللــبــيــان دعــامـــة
فـيــا لـــه عـبـقــريـــا في المجد نال الامامة
الـكـرمـلـــي جـديــــر مـنـا بـكــل كــرامــة
لمحات من سيرة حياته
تصفحنا عن سيرة حياته مجموعة من الكتب ، واستخلصنا منها الآتي حيث تعاملنا مع بعض المعلومات الواردة، بتصرف بما يتعلق بعرض السيرة :
( سمي بأربعة أسماء بطرس وبولس وعبد الاحد وماري ... أبوه ميكائيل ماريني واسمه الحقيقي جبرائيل عواد الماروني من بحر صاف في بكفيا من قرى لبنان ... وأبدل اسمه جبرائيل بميكائيل لأمور سياسية كانت في ذلك العهد وكان بعضهم يتأثر الموارنة فيقتلونهم . فرحل من لبنان مرافقا أحد المنتمين الى نابليون بونابرت وكان قد جاء الى سورية ثم رحل منها الى الاستانة ومنها الى فارس والعراق فكان جبرائيل رفيقه وترجمانه وكان يفهم 14 لغة .
وفي بغداد عرف مريم مرغريتة (او لؤلؤة) من بيت اوغسطين جبران الكلداني البغدادي ... فتزوجها فولد منها خمسة بنين وأربع بنات وبطرس كان الابن الرابع من ابناء جبرائيل .
في الثامنة من عمره دخل بطرس مدرسة الآباء الكرمليين ومن ثم مدرسة الإتفاق ومدرسة اللاتين . تعلم مبادئ الصرف والنحو واللغة الفرنسية . وفي سن السادسة عشرة عين مدرسا للغة العربية وآدابها في مدرسة اللاتين ونشر مقالات علمية وادبية ونحوية ولغوية عديدة باسمه وبأسماء مستعارة .. غادر الى بيروت وشفرمون قرب لياج في بلجيكا التي بدأ فيها الحياة الرهبانية، وغادر الى لاغتو قرب نيس في كورة جبال الالب البحرية، وفيها درس الفلسفة، ومن ثم ذهب الى مونبليه في ليرو في فرنسا، وقرأ اللاهوت وتفسير الكتاب المقدس والتأريخ الكنسي الأكبر. ورحل الى الاندلس ومن ثم عاد الى بغداد سنة 1894 وأصبح مديرا للمدرسة الكرملية الى سنة 1897 حيث أودعت إدارة المدرسة الى راهب آخر، فتفرغ بطرس للوعظ والخطابة والكتابة في المجلات والجرائد الفرنسية والعربية . وطلبته الصحف الكبيرة ليكتب فيها، وأغلب مباحثه لم يطرقها قبله طارق لأنه عني بما بقي مهملاً وليس بما أوضحه العلماء، ونُقِل كثير من مقالاته الى الفرنسية والانكليزية والروسية والالمانية والايطالية والاسبانية والتركية، ومن الكتاب من نقلها الى لغته فأدعاها لنفسه) . (2)
و(من المجلات والجرائد التي كتب فيها : الآثار، الاخاء، الاعتدال، الاهرام، البشير، البلاد، البلاغ، البيان، الثقافة، الجهاد، الجوانب، الحياة، دار السلام، الرسالة، رسالة القديسة تريزة، الرصافة، رقيب صهيون، الزمان، الزهراء، الزهرة، الزهور، السيدات والرجال، الشرق، الصفاء، صوت الحق، الضياء، الطيارة، العالم العربي، وصحف أخرى ) . (3)
وكتب في تلك الصحف مقالات باسمه الصريح وأخرى بأسماء مستعارة، ومنها، كما جاء في كتاب : في ذكرى الأب الكرملي الراهب العلامة :
(مستهل ـ في مجلة الهلال ، ومعتدل ـ في مجلة الاعتدال ، وباحث ـ في مجلة المباحث ، وكان لديه أكثر من أربعين توقيعا ، منها :
أمكح ، ويمثل الحروف الاولى من اسمه انستاس ماري الكرملي الحافي، والحافي يطلق على الرهبان الكرمليين وقد مر عليه الكلام .
ـ أحد القراء ـ في المقتطف ، والمقتبس .
ـ بعيث الخضري وهو تعريب اسمه انستاس، في مجلات المشرق والمسرة وصوت الحق .
ـ منتهل .
ـ ساتسنا، وهو معكوس اسم انستاس.
ـ فهر الجابري، في الهلال والمقتطف والزهراء .
ـ كلدة ، وهو اسم العراق القديم في العصور الآشورية والكلدانية، في المقتطف ومجلة " المعلمين ببغداد".
وغيرها من التواقيع ). (4)
ولماكان قد تفرغ لدرس اللغة العربية وأسرارها اضطر الى أن يدرس الآرامية والعبرية والحبشية والفارسية والتركية والصابئية فأخذ منها ومن أصولها وألفاظها مايحتاج اليه منها ولهذا كانت مباحثه في هذا الموضوع وافية بالمقصود.
وفي تموز من سنة 1911 أنشأ مجلة في بغداد سماها (لغة العرب).. واختاره المجمع العلمي العربي في دمشق سنة 1920 ليكون عضو شرف فيه، هو والعلامة محمود شكري الآلوسي . وعين عضوا في مجلس المعارف في العراق سنة 1917 ، وعضوا في لجنة الترجمة والتعريب سنة 1921.
نفته الحكومة العثمانية الى الأناضول سنة 1914 لأنه سمى مجلته لغة العرب ونشر فيها مقالات يحبب فيها العرب للناس وعاملوه العثمانيون في منفاه بقساوة وأنزلوا فيه أشد العذاب . وفي سنة 1916 عاد الى بغداد . وفي سنة 1917 أصدر في بغداد جريدة العرب ، وكانت على نفقة الدولة وأدار شؤونها سنة كاملة . وفي السنة نفسها أصدر وضيعة باسم دار السلام.
رحل الى اوربا خمس مرات وقدرت الحكومة الفرنسية مباحثه العلمية فأهدته وسام العلم في سنة 1920. (5)
ثقافته
وعن ثقافته كتب د. ابراهيم السامرائي في كتابه : الأب انستاس ماري الكرملي وآراؤه اللغوية، ماننقله هنا من خلاصة، بتصرف، لما كتبه السامرائي :
عُرف الأب انستاس الكرملي بغيرته العظمى على العربية وكان يرى في الخروج عن سنن العربية خطأ لايتساهل فيه فلايتخذ من الشيوع مجوزا ومسوغا ، لذلك حارب العامية ودعا الى نبذها لكنه ، ومما يُستقرَأ مانشر في مجلة لغة العرب ، شجع على دراسة الأساليب العامية دراسة نحوية تأريخية خدمة للغة الفصيحة .. عرف بكثرة مطالعاته ، تستهويه اللفظة فيبحث في بنائها وأصلها واشتقاقها وقرابتها من لغة سامية أخرى او غير سامية ، وتستهويه حكاية شعبية او مثل شعبي فيحرص على تسجيله على النحو الذي سمعه من أصحابه باللحن العامي ، وهو دقيق في التسجيل ويفرق بين عامية الموصل وعامية بغداد وعامية المسلمين وعامية النصارى او اليهود في المدينة الواحدة ، وتستهويه قصة او حكاية او مسرحية لكاتب فرنسي لغرض نبيل ترمي اليه فيعمد الى ترجمتها ، ويميل الى معرفة البلاد فيبحث فيها بحثا لغويا اجتماعيا تأريخيا ، ويستهويه كتاب قديم في التأريخ فيعمد الى تحقيقه وإخراجه . ومن مزاياه الحسنة أخذه بيد الناشئة من المتأدبين والكتاب وتشجيعهم . ومن عاداته أنه كان يجيب على كل رسالة ترد اليه من مختلف طبقات الناس وفي اليوم نفسه الذي يتسلمها ، إلا إذا كان الجواب يستدعي بحثا ورجوعا الى المصادر . وكان يحافظ على المواعيد . (6)
مؤلفاته
ألفَّ الكثير من المؤلفات، وأغلبها ضخمة وفي مجلدات كان يقصدها علماء بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء، إلاّ أن الأتراك استولوا على أغلبها في سنة 1914 حين نفوه فمنها أحرقوها ومنها تصرفوا فيها ونجت من أيديهم بعض المؤلفات.. ومما هم بتأليفه معجم معنوي تام، وجمع أمثال العوام في بغداد والبصرة والموصل وضم اليها حكايات عامية باللغة المألوفة عند نصارى بغداد، وجمع حكايات من ألسن المسلمين من رجال ونساء ، وألف كتبا جمع فيها فهارس خزائن الكتب الموجودة في العراق ، مزقهتها أيدي الجهلة من الأتراك، وكان قد شرع الكرملي بطبع كتاب العين للخليل إلاّ إن الحرب أوقفت ذلك الكتاب، وأيضا ألفّ كتابا ضخما في الصرف والنحو مع تمارين عديدة للمدارس، ووضع كتابا في المترادفات وآخر في الأضداد وآخر في أمثال العرب، لكنها كتب ذهبت مع ماتلف من كتبه . (7)
من مؤلفاته وتراجمه : (8)
الفوز بالمراد في تأريخ بغداد ـ وقد شحنه ناشره أغلاطا جمة أفسدت الكتاب وشوهته التشويه وطبع في بغداد ، كتاب التعبد ليسوع طفل براغ ، نخبة من كتاب العروج في درج الكمال والخروج من درك الضلال، بالعربية والفرنسية ، خلاصة تأريخ العراق في البصرة ، جمهرة اللغات ، خواطر علمية ، كتاب الجموع ، السحائب، العجائب، الرغائب، الغرائب، أديان العرب، حشو اللوزينج، مختارات المفيد، متفرقات تأريخية، الأنباء التأريخية، اللمع التأريخية والعلمية، Melanges، الغرر النواضر، النغم الشجي في الرد على الشيخ إبراهيم اليازجي، الكرد قبل الإسلام ، المجموعة الذهبية، أرض النهرين (معرب عن الانكليزية تأليف أدون بفن)، تذكرة الشعراء او شعراء بغداد وكتابها ، نشوء اللغة العربية ونموها واكتمالها، المساعد ـ معجم لغوي، مجموعة من الأغاني العامية العراقية، ديوان التفتاف اوحكايات بغداديات، أغلاط اللغويين الأقدمين ، رسالة في الكتابة العربية المنقحة، النقود العربية والإسلامية وعلم النميات ، خواطر الأخت ماري ليسوع المصلوب ـ ترجمة الكرملي ، أخص فروض الرهبان الثالثيين الكرملين ،الإكليل للهمداني ـ تحقيق الكرملي ، ترجمة حياة الأب مارية يوسف ، خلاصة تأريخ العراق منذ نشوئه الى يومنا هذا ، رسالة في الكتابة العربية المنقحة ، سورة الخيل التي نزلت في بغداد ـ تحقيق الكرملي ، الكلم الأخيرة وهي المحادثات الأخيرة التي فاهت بها القديسة تريزة للطفل يسوع ـ ترجمة الكرملي، الكوفية والعقال، لذكرى الملك فيصل الأول : خطاب، مبادئ أصول الديانة المسيحية لصغار الأولاد ، مرشد الرهبانيين الثالث ، مناظرة لغوية أدبية بين عبد الله البستاني وعبد القادر المغربي وانستاس الكرملي ، نُخب الدخائرفي أحوال الجواهر لابن الأكفاني السنجاري ـ تحقيق الكرملي ،نشوء اللعة العربية ونموها واكتهالها .
ومن كتبه المفقودة :
تصحيح أغلاط لسان العرب ، تصحيح تاج العروس ، تصحيح أقرب الموارد وماجاء فيه من المفاسد، الألفاظ اليونانية في اللغة العربية ، الألفاظ الرومية (اللاتينية) في اللغة العربية ، الألفاظ الدخيلة ( من عبرية وهندية وقبطية وحبشية وتركية ) في العربية ، الألفاظ الفارسية في اللغة العربية ،الألفاظ الارمية ( السريانية والكلدانية ) في العربية ، الألفاظ العربية في اللغة الفرنسية .
ومن الكتب التي كتبت عن الكرملي او حقق فيها آخرون :
الكرملي الخالد ـ المؤلف جورج جبور ي ، البرهان الجلي على علم الكرملي ـ المؤلف أمين ظاهر خير الله ، المحجة البيضاء في حجة نعت الجموع بفعلاء ـ وهو الجزء الثاني من البرهان الجلي ، أديان العرب وخرافتهم ـ المؤلف الكرملي انستاس ماري ـ تحقيق وليد محمود خالص ، ، الرسائل المتبادلة بين احمد زكي باشا والاب انستاس فادي الكرملي ـ المؤلف رحماني حكمت ، الأب انستاس ماري الكرملي وآراؤه اللغوية ـ المؤلف ابراهيم السامرائي ، سدنة التراث القومي ـ المؤلف روكس بن زائد العزيزي ، رسائل أحمد تيمور الى الأب أنستاس ماري الكرملي ـ المؤلف : كوركيس عواد وميخائيل عواد ، الرسائل المتبادلة بين الكرملي وتيمور ـ المؤلف : كوركيس عواد وميخائيل عواد ، الأب انستاس ماري الكرملي حياته ومؤلفاته ( 1866ـ 1947 ) المؤلف كوركيس عواد ، ذكرى الاب الكرملي الراهب العلامة ـ المؤلف سالم الآلوسي ، الاب انستاس ماري الكرملي ـ المؤلف عامر رشيد السامرائي ، أنستاس ماري الكرملي ثقافيا وفكريا في تأريخ العراق (1866-1947) ـ المؤلف كريم عبد الحسن فرج سلمان الغراوي ، مزارات بغداد باللهجة العامية البغدادية والعربية الفصيحة ـ جمع الأب انستاس ماري الكرملي ـ تحقيق د.باسم عبود الياسري ـ مراجعة وتقديم د. طالب البغدادي .
وهذا الكتاب الأخير جاء فيه :
( إنه غريب جدا أن يكتب واحد من أهم من عني بالعربية في مستهل القرن العشرين باللهجة العامية وهو وهو أحد المدافعين عن فصاحة اللغة العربية وبلاغتها سيما أن الكتاب الذي بين أيدينا قد جمع في الفترة التي كان العراق يقبل خلالها على تكوين دولته وتأسيسها. ومن البديهي إن البنيان الثقافي هو حجر الأساس والمركز المحوري لبناء الدولة الجديدة. وإن اللغة هي جوهر البنيان ولايخفى أن المساس بهذه اللغة قد يساهم في نخر البنية الثقافية وهي في مهد تأسيسها في الدولة الحديثة. ولاشك في أن الكتابة والتدوين بالعامية تمثل جانبا مهما من جوانب تخريب اللغة كتعبير ثقافي كان على المؤلف ليس فقط أن يبتعد عن استخدام هذه الأداة السلبية، بل أن يتصدى للمحاولات الهادفة الى المساس باللغة الفصحى كأداة وحيدة في البيئة الثقافية والفكرية والمحاولات التي تهدف الى تطبيع العامية كأداة تعبير مكتوب او مدون. تلك المحاولات المتمثلة باطروحات بعض الكتاب المصريين واللبنانيين والذين امتد تأثيرهم الى بعض الهوامش الثقافية في العراق ) . (9)
ولكننا نرى أن كتاب الكرملي عن مزارات بغداد والذي جاء بالعامية مع إن الكرملي كان نابذا للعامية ، قد يصب في الاستثناء الذي اتخذه الكرملي في موقفه من العامية حيث نبذها ونبذ الكتابة بها إلاّ أنه كان ضمن يشجع على دراسة الأساليب العامية دراسة نحوية تأريخية ، كما ذكرنا آنفاً في هذا الموضوع حين تناولنا ثقافته.
من رسائله
تبادل انستاس ماري الكرملي رسائل مع أحمد تيمور وأحمد زكي ومحمود شكري الآلوسي كما ذكرنا آنفا ، وفي مايأتي رسالتين متبادلتين بين الكرملي وأحمد زكي الذي كان يشغل منصب سكرتير مجلس الوزراء في مصر آنذاك ، وهما رسالتان منشورتان مع مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الكرملي وزكي في كتاب : الرسائل المتبادلة بين شيخ العروبة أحمد زكي باشا والأب انستاس ماري الكرملي ، ونشرتها أيضا مجلة المورد في عددها الثاني من السنة السادسة :
" الرسالة الاولى
من الأب انستاس الكرملي الى أحمد زكي باشا بغداد في 10 آب سنة 1918
الى حضرة العلامة الكبير أحمد زكي سكرتير مجلس النظار في مصر حرسه الله
بعد إهداء مايليق بتلك الذات التي أفديها بالنفس أعرض أن السيد محمود شكري الآلوسي التمس الي أكتب الى مصر لأطلب كتاب الأصنام لابن الكلبي وقد قال لي إنكم عنيتم بنشره مع كتب أخرى وقد رآه أحد النجفيين من آل كاشف الغطاء حينما كان في مصر . ولما أجبت طلبه قيل لي إن الكتاب لم يطبع فكلفني أن أكتب الى مقامكم السامي لنقف على جلية الامر.
ثم إني كنت قد اشتريت كتاب نكت الهميان في نكت العميان وكنتم قد وعدتم بنشر فهرس له فهل نشر هذا الفهرس . فنرجوكم أن تكلفوا أحداًليبعث لنا بنسخة من هذا الفهرس وبنسختين من كتاب الأصنام والسيد الآلوسي يقرؤكم السلام مع الداعي .
***
الرسالة الثانية من أحمد زكي باشا الى الاب أنستاس الكرملي
عن رمل الاسكندرية في 27 أكتوبر سنة 1918
وصلني في 2 دسنبر سنة 1918
صديقي الجليل الأب انستاس
مرحبا بكتابك أيها الصديق الجليل . لقد جاء عندي في مقام البشرى بل في مقام بشريين لابشرى واحدة . حيث حمل لي نبأ سلامتك وسلامة صديقي العلامة الفاضل السيد محمود شكري الآلوسي .
لقد كنت أخشى عليكما وقع تلك الحوادث المدلهمة المحيطة بكما ، وأشفق أن ينالكما من الأذى مانال كثيرا من الناس وأأسفاه. ثم انكشف الغمام فإذا بعناية الرحمن تحوطكما وتقيكما طوارق الحدثان وبغي الإنسان ، فلاعجب إن كان وقع كتابك في نفسي عظيما إذ جاءني بذياك النبأ المفرح وبدد مخاوفي ، وأنا أيها الصديق أدرى الناس بفضلكما الجم ويدكما الطائلة على الادب وجهادكما الكبير في سبيله .
فأنا اتقدم اليك والى صديقي الآلوسي بخير التهاني وأرجو لكما العمر المديد والعيش الرغيد . هذا وقد بادرت عند مجيء كتابك فأوعزت الى دار الكتب السلطانية بإرسال نسختين من كتاب ))الأصنام (( برسم بغداد . فلذلك رأيت أنفسنا مضطرين بحكم الضرورة أن نتربص ريثما يصبح النقل ميسورا وحينئذ انتهز اول فرصة لإرسالهما اليك مع نسختين أيضا من كتاب (( نكت الهميان في نكت العميان)) مصحوبتين بالفهرست .
وربما تمكنت من إرسال نسختين من كتاب ((التاج)) للجاحظ ، فقد تم لي طبعه بعناية وتحقيق هما الغاية في اعتقادي .
وتفضل أيها الصديق بقبول فائق تحياتي وبإهدائها الى الصديق المحترم السيد الآلوسي ، والله المسؤول أن يسمعنا عنكما خير الأخبار وأن يتكرم علينا باللقاء في أبرك الأوقات وأقرب الأيام . "(10)
***
كتابات حديثة عن الكرملي
كتب عنه الكثيرون ، اخترنا مما مانعرضه في أدناه ، الى جانب عرض رسالة نعي نشرت بعد وفاة الكرملي وكلمة ألقيت في الحفل التأبيني لوفاته .
فأحد الموضوعات التي اخترناها يعود الى كاتب كانت تربطه علاقة أبوية بجورج جبـّوري الذي حدثه كثيرا عن الكرملي ، وقد عرف جبوري أنستاس في أثناء وجودهما معا في دير الآباء الكرمليين في بغداد .
وأما الموضوع الآخر الذي اخترناه فهو لكاتب أعجب بالرسائل المتبادلة بين الكرملي وتيمور ، حتى قال لنفسه : هكذا تكون الرسائل والكتابة .
كما وجدنا في أثناء قراءتنا عن الكرملي وبحثنا عن المزيد من المعلومات لدعم هذا الموضوع ، أن ابن أحد معارف او مريدي او تلامذة الكرملي عرض كلمة كتبها والده بحق الكرملي بعد وفاته ، وتضمنت الكلمة الكثير من المحبة والإخلاص لشخص الكرملي .
***
في ذكرى رحيل انستاس الكرملي
كتب نبيل يونس دمان عام 1997 ونشر لمناسبة مرور 50 سنة على وفاته ، في كل من موقع بخديدا ، ومجلة الثقافة الجديدة ، والقيثارة ، وحويودو ، وكتب أيضا أن الذي دفعه لكتابة هذا الموضوع ، هو العلاقة الأبوية الصادقة التي ربطته بالأستاذ جورج جبـّوري في السنوات الأخيرة ، وماحفز دمان على الكتابة عن الكرملي أحاديث جبوري الدائمة عن الراحل ، حيث عاشا معا سنوات عديدة في دير الآباء الكرمليين في بغداد ، إذ عمل جبوري معلما ثم مديرا للفترة من 1939 حتى عام 1952،
تناول دمان في موضوعه نبذة عن حياة الكرملي ومجلسه الأسبوعي ومنجزاته وطبائعه وتكريمه ومجلة لغة العرب التي أصدرها الكرملي وتأبينه .
ومما جاء في موضوع دمان عن مجلس الكرملي الاسبوعي :
( ذاع صيت مجلسه الأسبوعي ( مجلس الجمعة ) في أنحاء المعمورة وأصبح قبلة اصحاب المكانة المتميزة في الأدب ، واللغة ، والفلسفة ، وكم قصده زائرون للعراق من العلماء المستشرقين والباحثين ذوي الباع الطويل في علم اللغات والتأريخ .
كان هناك شرطان وضعهما العلامة أمام رواد مجلسه ، وهما تحريم النقاشات السياسية والدينية ، وقد كانت فكرته تلك ذكية جدا ، لتجنب الاحتكاكات والإشكالات التي تحصل من الخوض في الموضوعين أعلاه . أما الانصراف الى الأدب وأبحاث اللغة فهي بحد ذاتها مكملة وموحدة ، ومن النادر حدوث انقسامات وانشقاقات فيها
من جملة حضور مجلسه الأسبوعي ، أسماء أدبية لامعة ، أمثال : يوسف غنيمة ، حامد الصراف ، رزوق عيسى ، كاظم الدجيلي ، عبد الرزاق الحسني ، هاشم الوتري ، مصطفى جواد ، مهدي مقلد ، محمد رضا الشبيبي ، روفائيل بابو إسحق ، روفائيل بطـّي ، الملا عبود الكرخي ، عباس العزاوي ... وغيرهم كثير
كان مجلس الجمعة يبدأ في الثامنة صباحا ، وينتهي في الثانية عشرة ، عندما تشق أركان الدير، دقات ناقوس الكنيسة ، مؤذنة حلول فترة الظهيرة . عندما ينفرط عقد الزائرين ليلتحم مرة أخرى في الجمعة التي تليها ، ولعشرات السنين كان الجو الهادئ والمنظم الذي يوفره الأب العلامة بمثابة حافز ودافع ، للمزيد من النقاش الهادف ، والبحث المتواصل ، في شتى المواضيع المطروحة . وغالبا ما كان انستاس يستعين بمصادره من الكتب ، التي تعد بالآلاف في خزانته والتي عني بجمعها وترتيبها ووضع الهوامش والخطوط والملاحظات عليها ، في إقناع الحاضرين برأي معين . كما كان يوفر طاولة وعليها الكتب والمجلات والجرائد المحلية والعربية والأجنبية الصادرة حديثا في مختلف اللغات ، ليطلع عليها مجلسه الموقر الذي كان بمثابة مجمع علمي عراقي مصغر .
وعن طبائعه كتب دمان :
نشأ هذا الإنسان نشأة ناسك متعبد ، زاهد ، لا يملك من متاع الدنيا شيئا ً ، لا أسرة له ولا األاد بل أولاده في الروح كتبه وغزارة إنتاجه .
كان ضخم الجثة ، قوي البنية ، جبلي القوام ، أطلق للحيته العنان فجاءت كثة ، طويلة ، ومهيبة ، له صوت كأنه الزئير ، وضحكاته كانت تشق أنحاء الدير، وغضبه في ذات الوقت وانفعاله في ما يراه انحرافا ، يصل حد استعماله عصاه .
عندما يرى فاحشة ترتكب بحق اللغة فإنه يكرر القول " إذا لم يتم تصحيحها فإني سأقاطع صاحبها ، بل سأبصق عليه !! " ، وطالما استعرت الحملات الكتابية بينه وبين فطاحل عصره ، وأدت بعضها الى المقاطعة التامة ، وأمثال تلك المساجلات : مع عبد الله البستاني ، لويس شيخو اليسوعي ، جبر ضومط ، أمين معلوف ، أسعد داغر ، ابراهيم اليازجي وغيرهم .
أما من ناحية التدبير والمال فقد كان مقتصدا ، يحسب لكل شيء حسابه ، وربما لهذا السبب نعته البعض بالبخل ، لكنه بتلك العقلية الحسابية ، استطاع أن يشتري آلاف الكتب ويقوم بعدة رحلات الى سوريا ، مصر ، لبنان ، فلسطين ، وأوربــا ، من أجل أبحاثه ، وكم كان يرنو لاستقباله علماء وفلاسفة عصره من المصريين والسوريين واللبنانيين والفلسطينيين أمثال : أحمد باشا تيمور ، يوسف أفندي سركيس ، قدري طوقان وغيرهم .
وعن تكريمه كتب :
بتأريخ 7 من تشرين أول عام 1928 ، أقيمت في دار رئيس الوزراء محسن السعدون حفلة يوبيلية كبرى للعلامة انستاس الكرملي ، وتوالى الخطباء والشعراء من على منصة الاحتفال ، يشيدون بالمحتفى به ، حيث يكرم العلم والإبداع .
وقد ورد في كلمة أحد تلامذته وهو أحمد حامد الصراف البيتين الآتيين :
وعشنا وعاشت في الدهور بلادنا
جوامعنا في جنبهن الكنائس
وسوف يعيش الشعب في وحدة له
عمائمنا في جنبهن القلانس
ومما قاله فيه صاحب مجلة القربان الحلبية ما يأتي :
((إن المحتفى به هو الكاتب المبدع الذي لم تخلُ مجلة من مقالاته الرنانة وهو اللغوي المدقق الذي أماط اللثام عما جاء في معاجم اللغة مثل لسان العرب وتاج العروس ومحيط المحيط وأقرب الموارد من أغلاط ومفاسد (( . وبعث أبرز شعراء ايران قصائدهم باللغة الفارسية ومنها قصيدة خسرو ميرزا الميمية تحت عنوان ) در تهنيت دشن أدبا وبراي حضرة أب أنستاس كرملي ( .
وقد جاءت أصوات التكريم من كل مكان في الشرق والغرب ومن أنحاء العراق ، الكويت ، ايران ، مارسيليا ، المانيا ، مصر، لبنان ، فلسطين ، فرنسا . وبلغ الزهد والتواضع مبلغه في كلمة المحتفى به المؤثرة ، والتي جاء فيها :
)) إني لا أرى هذا الإطراء جديرا بي ، بل خليقا بكم ، إذ أراكم تجلون العلم والفضل حتى في من ينتسب اليه انتسابا ، وإن لم يكن من أهله ، فالمجد والشرف لكم يا سادتي لا لي . إذ أراني بعيدا عن كل ما عددتموه ونسبتموه لي ، في حين لا أجده إلا فيكم يا سادتي الصيد الأشاوس (( .في عام 1946 أقيمت لراهبنا المتبتل انستاس حفلة تكريمية أخرى في نادي الكرمل في حيفا - فلسطين . وكان في حينها يصارع أمراضه وينيخ تحت ثقل شيخوخته البالغة ثمانين عاما .
وقد وصفته الآنسة قدسية خورشيد بالقول :
)) دخلت دير الآباء الكرمليين - وكنت اول سيدة تخطو حدود الكنيسة الى الدير- ودخلت غرفة عارية إلا من منضدة وبضعة كراسي وواجهة كتب والشيخ يجثم كالنسر العاجز ونهض الشيخ يستقبل زائريه ، وأحسست بهيبة عظيمة تغمرني لمرأى الرجل العظيم وكأنه الطود المتهدم يتقدم بخطوات مضطربة ... ((.
وعن لغة العرب كتب :
لعلّ أهم معلم تأريخي ومرجع مهم في التقصي والبحث عن أحوال العراق والبلدان ، هو مجلة "لغة العرب " الشهرية التي أصدرها الأب انستاس في تموز 1911 ، واستمرت حتى القبض عليه من قبل الجندرمة في ايلول 1914 ، ومما جاء في الأسطر الاولى من افتتاحية عددها الأول ما يأتي :
(( بسم الله الفتاح المعني ... بعد حمده تعالى ، والشكر على آلائه والإتكال على مدده ، قد عقدنا النية على إصدار هذه المجلة الشهرية خدمة للوطن والعلم والادب )) .
عادت الى الصدور مرة أخرى في تموز 1926 واستمرت حتى كانون أول 1931 وقد جاء في إغلاق المجلة ما يأتي :
((وقد عزمنا عزما أكيدا لا يحتمل الرد ولا الاستئناف على إغلاق المجلة من الآن ، لأننا مع مقاساتنا أتعابا جمة ومشاق هائلة ناهكة كنا نكابد خسائر باهضة طول سني صدور المجلة)).. إذن كان العامل المادي سببا في انطواء الصفحة الأخيرة لتلك المجلة البارزة ، وقد حفلت في أعدادها بل في مجلداتها التسعة الضخمة ، بمواضيع عديدة نقتبس بعضا من عناوينها ونترك للقارئ العزيز تقدير أهميتها :
الكلدانيون ، الصابئة ، اليزيدية ، مخطوطة في تراجم علماء الموصل ، الحفر والتنقيب في أطلال بابل ، نظرة عامة في لغة بغداد العامية ، مشاهير كتاب العراق ، السائح الغربي في العراق العربي ، منارة سوق الغزل ، الخرز ومعتقداته ، اللغة الكردية ، طوب أبو خزامة ، في كنوز العرب ، أسماء محلات بغداد ، تأريخ المطابع في العراق ، أسرة ترزي باشا ، وغيرها كثير جدا .
وعن تأبينه كتب :
إهتز العراق لنبأ وفاة عالمه الفذ انستاس الكرملي في 7 من كانون الثاني عام 1947 ، فحمل جثمانه في المستشفى التعليمي إلى باحة مدرسة اللاتين ، وتوالت الكلمات والأشعار والرسائل في ذلك المصاب الجلل ، وكتبت عنه الصحف العراقية جميعها وصحف مصر وفلسطين وسوريا ولبنان .
وقد ألقى الشاعر مهدي مقلد قصيدة في تأبينه نقتبس منها هذين البيتين :
فالقلب من دين ابن مريم وحيه
والفكر من لغة النبي محمد
إن ابن مريم والنبي محمدا
نوران نور هدى ونور توحد
ومما جاء في خطاب المؤرخ العراقي يعقوب سركيس :
عرفت الراحل رحمه الله لأول مرة عام 1899 وكان تعارفنا في شطرة المنتفق ، وقد قصد تلك الديار لملاقاة الصابئة حيث يسكنون ، فذهب الى الناصرية لاختبار أحوالهم الدينية وحضور طقوسهم والاطلاع على كتبهم ... .
ومما قاله مير بصري ما يأتي :
وكم طار لبه سرورا بلفظة عثر عليها بعد لأي فصاح كما صاح أرخميدس حين اكتشف مبدأ موازنة الأجسام الغائصة في السوائل : وجدتها ، وجدتها .. !.
ومما قاله كوركيس عواد ما يأتي :
حدثني ذات يوم أن ملك بلجيكا السابق ألبرت الأول حين زار بغداد سنة 1930 ... طلب جلالته أن يرى الأب انستاس ....
ومما قاله د. مصطفى جواد ما يأتي :
أرسل الي مرة وأنا بباريس سنة 1936 رسالة يقول فيها " إني ترجمت من الفرنسية كتابين صغيرين دينيين تم طبعهما ولم أبعث اليك بنسختين إشفاقا ً من أن تظن أني أدعوك الى النصرانية.
ومما قاله جورج جبّوري مدير مدرسة اللاتين في ختام كلمته هذا البيت :
أبتي أعِنـّي من عقال لساني
قد هدني شجني فعاق بياني
ولعل ما جاء في كلمة الأستاذ محمد فاتح توفيق من عظيم الدلالة بالقول :
لقد بلغ من شغفه بالفصحى أنه يحسن الإصغاء إلى القرآن الكريم وهو ذلك الراهب الناسك ، وما مرة زاره فيها مقرئ العراق الشهير ) الحافظ مهدي ( إلا وألح عليه بأن يتلو على مسامعه آيات من الذكر الحكيم ، فيشق سكون الدير ذلك الصوت الرخيم وهو يصغي عليه بكل جوارحه( . (11)
***
رسالة نعي
ومن خلال بحثنا عمايتعلق بالكرملي ، وجدنا رسالة نعي نشرها أحد أصدقائه ينعى فيها الكرملي . الرسالة بعثها الى الكاتب نبيل يونس دمان بعد نشره موضوعه عن انستاس الكرملي ، السيد إخلاص ابن محمد فاتح توفيق صديق الكرملي ، وفيها ينعى والده صديقه الكرملي موضحا أن الرسالة منشورة في إحدى الصحف القديمة ، وأن والده كانت تربطه بالكرملي علاقة معرفة وكان دائم الإتصال به وزاره عند مرضه وكان يحدث عائلته عنه ، كما ذكر إخلاص قائلا : كان والدي يكن محبة كبيرة وإحتراما لأستاذه الكرملي ويثني عليه في كل مناسبة .
نص الرسالة التي نشرت في الصحف بعد وفاة الكرملي ، وكتبها محمد فاتح توفيق في بغداد ، والذي كان قد زار انستاس الكرملي قبل وفاته بليلة :
واأسفاه على العلامة الكرملي (12)
رجل عرك الدهر وخبر الحياة وذاق حلوها ومرها وجرب خيرها وشرها فخرج منها لا يبالي بها أقبلت أم أدبرت أسعدت أم أشقت وافقت أم عاكست. ولقد مرت عليه مصائب ومحن تكفي واحدة منها أن تزلزل أقوى رجل وتحطم أعصابه وتسممه إلى الموت أو ما هو أمر منه وأدهى. ولكنه صمد لها وقاوم ولم تزعزعه الحوادث الهوج ولم تفت في عضده الملمات والأحداث ولم تلن قناته.
ولكن أمرا واحدا أزعجه ايما إزعاج وأضجره كل الضجر وأقض مضجعه وآلمه أشد الإيلام وحز في نفسه، ذلكم هو التفريق بينه وبين حبيبته ( وفراق الأحباب خطب عسير) ولعلكم علمتم من تكون حبيبته هذه. هي اللغة العربية الكريمة، لغة القرآن الكريم ، اللغة التي لم يبلغ احد مبلغه في حبه لها وتكريمه إياها والعناية بها والتفرغ لها والتخصص بها، وساعده على ذلك فراغه ورهبنته حيث لا زوجة ولا ولد ولا هو مسئول عن أحد. زد على ذلك علمه بلغات أجنبية شتى فقد كان يتقن الفرنسية واللاتينية واليونانية والعبرية والسريانية والكلدانية والصابئية والتركية والفارسية والإنكليزية وقليلا من الإيطٌالية ويفهم البرتغالية وقد نسي الحبشية والاسبانية بعد أن تعلمها. ولا يعرف اللغة الألمانية بعكس ما يعتقد الكثيرون وقد سألته عن ذلك فقال: طلبتني الكنيسة هنا وكنت أدرس في فرنسة قبل أن تتاح لي فرصة تعلم الألمانية. وإذا بلغ علم المرء باللغات هذه الدرجة مع شوق ورغبة وإلحاح في الدراسة والتتبع والبحث والتنقيب فهو علامة عصره الأوحد وهكذا كان الأب الكرملي بل وأكثر وإن خزانة كتبه تحتوي على نحو ستة عشر ألف كتاب منها ألف وخمسمائة كتاب مخطوط.
وإن ما يؤسف له أشد الأسف أن يعيش هذا العلامة الذي خدم العربية أجلَّ خدمة أكثر من ستين عاما عيشة لايرضاها له صديق ولا عدو إلا من قدّ قلبه من صخر أو أنتزعت منه الرحمة والشفقة ولم تبق لديه إنسانية ولم يردعه دين ولاضمير. وقد وجد من وصفته الآن بالقسوة والغلظة بل كانوا أكثر من واحد وكانوا المسلطين عليه المسيطرين عليه وقد نغصوا عليه عيشه ولم يتركوه يهنأ في حياته بل حاربوه وناصبوه العداء وكرهوه ولم يخشوا ربّا ولم يحترموا شيخوخته وعلمه وخدمته للأمة والبلاد ذلك لأنهم أناس غرباء عن هذا البلد فلا يروق لهم أن يروا أحدا يخدمه و يتمتع بالتجلة والإحترام، ولكنهم مهما فعلوا ما استطاعوا أن يذلوا نفسه الكبيرة وروحه العظيمة فآبوا بالذل والخسران وبسخط من الله والناس وآب برضى الرحمن وإكبار الناس له وإجلالهم إياه وإعزازهم له.
كان رحمه الله طيب القلب رحب الصدر واسِعَهُ جم التواضع يلقاك بالبشر والترحاب حتى لتطمئن إليه وتسكن إليه من أول لقاء له وما هي إلا دقائق حتى تحسب نفسك كأنك تعرفه منذ سنوات.
كل من حضر مجلسه لا يمكن أن ينسى اثنين : الأب الكرملي رئيس المجلس وجامع الشمل والمرحوم الأستاذ علي غالب العزاوي المحامي الذي اغتالته يد آثمة فقد كان زينة المجلس ودرة ثمينة افتقدناه قبل سنة فخلا المجلس من ذلك
النور البهي وذي القلب الزكي والنكتة البارعة والبديهة الحاضرة والأسلوب الأدبي.
أما الأب أنستاس فحدث عن البحر ولا حرج ماخاضوا بحثا إلا وهو في مقدمتهم ولا ناقشوا في موضوع إلا وكانت له اليد الطولى والباع الطويل والرأي السديد والقول الفصل والحكم الأخير.
إيه أيها الموت : أنت أكبر أعدائنا ، تكدر صفونا وتفرق شملنا وتخرب جمعنا ، فلولاك لكانت الحياة حلوة طيبة ولكنك أفسدتها فما تصلح لشيء ولا هي تطلب أو تراد. ما قيمة الفاني الزائل؟ بل ما قيمة السعادة والأمل والهناء؟ إن كنت أنت نهاية كل شيء.
أيها الأب الجليل رحلت عن هذه الدنيا الفانية وفارقتنا ولكن ذكراك لاتزال في القلوب عامرة وسنظل نذكرك ماحيينا وسيذكرك بعدنا أجيالنا مادامت الحياة ومادام إنسان على الأرض. أيها الراحل الكريم نم آمنا مطمئنا فقد خلفت من يحفظ ذكرك ويسير على نهجك و يعنى بحبيبتك العربية ، أولئك هم أصفياؤك وطلابك المخلصون.
***
كلمة محمد فاتح في الحفل التأبيني
أما كلمة الأستاذ محمد فاتح توفيق في الحفل التأبيني المقام على روح الكرملي بتأريخ 14- 2- 1947 ، والمنشورة في كتاب : الكرملي الخالد - تأليف جورج جبوري - بغداد 1947 ، فنصت على مايأتي :
أيها الأب الراحل
لقد اجتمع الشمل وانتظم العقد ولكن مالي لا أراك بيننا؟ ولا أسمع صوتك مدويا فينا؟ عجبا، أشغلك عنا شاغل؟ أم حال دون حضورك حائل؟ أحقاً اقعدك الموت وأقبرك وأسكتك القدر؟ إن الدهر لظالم غشوم وإن الزمان لغادر خؤون وإن الموت قاهر....
كنت واسطة العقد وجامع الشمل ورئيس الجمع فأين أنت اليوم؟ كنت تحيي هذا وذاك وشخص كل فرد بعنايتك وتسأل عن الغائب وترحب بالحاضر وتهش وتبش له حتى ليأنس اليك الغريب ويطمئن الى مجلسك وكأنه قد عاش الدهر معك.
كنت رفيقاً بتلامذتك مشجعاً إياهم ومعيناً وكنت شديداً على خصومك أعداء اللغة العربية التي رعيتها طوال سني حياتك الزاخرة بجلائل الأعمال ، تقرعهم بلواذع نقداتك وتسخر منهم باسلوبك الخاص وتتهكم عليهم فتجعلهم هزأة وأضحوكة، وكنت قوياً كثير الغلبة والانتصار لا يصمد أمام اعصارك مكابر ولا معاند.
أيها الراحل الكريم لست مستطيعاً تعداد صفاتك ومزاياك ، فأين مني خوض هذا البحر الزاخر وما ذاكره قطرة من بحرك العظيم وذرة من صحرائك الواسعة.
أيها البحاثة اللغوي لم يشهد الدهر- إلا نادراً- إخلاصاً كإخلاصك للغة القرآن وحبا كشغفك بالعربية الفصحى.
وكنت أكثر ما تشكو حرمانك الكتابة والبحث والتنقيب ناسياً مرضك وما تعانيه من آلام وأوجاع.
كنت إذا ما عثرت على كلمة جديدة او كشف جديد في اللغة كمن وقع على كنز او كقائد منتصر، ولو أعطيت الدنيا بأسرها لما رضيت بها بديلاً عن حبيبتك الغالية لغة القرآن.
لم تكن تعتمد في بحوثك وتنقيباتك إلا على أصول صحيحة وقواعد متينة ومصادر ذات قيمة فكنت ترجع في اللغة الى القرآن الكريم والى الحديث الشريف والى مضانها الأصلية في أمهات الكتب الصحيحة لأئمة البيان واللغة.
ولقد بلغ من شغفك بالفصحى أنك تحسن الإصغاء الى القرآن الكريم وأنت ذاك الراهب الناسك ، وما مرة زارك فيها مقرئ العراق الشهير الأستاذ الحافظ مهدي إلا وألححت عليه وألححت بأن يتلو على مسامعك آيات من الذكر الحكيم فيشق سكون الدير ذات الصوت الرخيم وأنت تصغي اليه بكل جوارحك.
وبلغ من حبك للفصحى أنك لم تستطع أن تسمع أي خطأ فيها ولو صدر من أعز أصدقائك وتلامذتك ولا تغفر للمخطئ خطيئته إلا اذا رجع عنها.
ماذا أذكر عنك أيها العلامة الراحل ؟ فقد كنت شابا في شيخوختك بل هيهات أن يبلغ الشباب مبلغك من القوة والثبات والصبر على العمل والجلد ومتابعة البحث والتنقيب والدرس ، ولن يكون الشباب مثلك في النشاط والمرح والتفاؤل والانبساط. ثم لن يكون