تمسح الغبار، منشغلة بقضايا أخرى غير الطلاق . تفكر في "ليال" بنت صديقتها الشاعرة "منيرة"، التي سبق أن زارتها من -شيكاغو ربيع هذه السنة . تفكر في سر عودتها بسرعة عندما سافرت معها إلى مراكش . حصل أنها بمجرد ما وصلت إلى ساحة جامع الفنا، طلبت منها العودة في نفس النهار للوصول إلى مدينة الرباط، لم تدرك سر نفورها من مراكش الوردة، لم تكن على علم أن "ليال" اطلعت في اليوتيوب، على صبيان مراكش الأبرياء. واغتصاب الأجانب لهم، تأكد لها ذلك عندما شاهدت بعينيها صباح زيارتهما لمراكش، صبيا يلمس سروال جينز رجل يظهر من ملامحه انه غربي القسمات، الطفل كان يستدعيه للدخول إلى الرياض، بأحد الأزقة الضيقة المظلمة المجاورة لجامع الفنا، دمغت في ذاكرتها اللقطة واشتعلت نيران الاغتصاب الذي يمارس على الصبيان من طرف الأجانب بصمة عار، "ليال" شابة أمريكية من أصل فلسطيني، مشبعة بالقيم الحميدة وتحمل روحا إنسانية، ناشطة في حقل رعاية الحيوانات .
يخرجها من رياض مراكش، وقد شعر بالجوع و بدأ ينبهها إلى أنه ينتظر طاجين اللحم بالبرقوق، لا تهتم بأمر الطاجين، تهتم بمسح الغبار عن الكتب، يخرج يتجه نحو المطبخ يفتح الثلاجة، يلتفت إلى علبة الزجاج التي بداخلها قطع الجزر، يلتقط منها قطعة، يستلذ طعم مذاق الثُوم والكُزْبرة والفُلفل والكَامُون الخليط بعصير الليمون الحامض وزيت الزيتون وملح البحر، يلتفت إلى علب زجاج أخرى وقد تنوعت بين باذنجان مخلل، وزيتون مرقد وغيرهما، لم ينتبه إلى أن الثلاجة في حاجة إلى النظافة، وأنها مشغولة بأمر نظافتها، وقد وضعتها في مقدمة برامجها المنزلية، لا معرفة له بهذا الفقه، يقفل باب الثلاجة بعنف، يحك جمة رأسه، يعود إلى خزانة كتبها وهو يردد بنغم الأطفال :
- "عوده" أكلت..
تمسح الغبار عن بحث ماستر -" مسعودة" الوزكيتية، الطالبة "أسماء "مشهور."عوده" أكلت رمضان بالخُوخ والرٌمان اغفر لها يا رحمن، تسرع في مسح الغبار، وكأنها طفلة صغيرة تركض في زقاق -الدريبة، قبل آذان المغرب رفقة أخيها "أمين"، تعدو لتصل إلى مسجد للا عوده، تذكر أن الزقاق كان فارغا، لأن سكان الحي ينتظرون آذان المغرب، تركض وهي تردد : "عوده" أكلت رمضان بالخوخ والرمان اغفر لها يا رحمن، أكل رمضان حرام،"عوده" تأكل رمضان، أمها تصوم رمضان، لا تدرك سر هذا التناقض. تتعجب ؟ . لا قدرة لها على الصوم، الحر شديد، هي تحتاج إلى شرب الماء، تسرع في مسح الغبار، تتذكر طفولتها بصمت، بينما هو بجوارها يتذكر طفولته بجهر وبإسهاب، يقول لها :
- سنة 1957 حضرت جنازة أختي "آسية"، التي توفيت بسبب حمى -تيفووييد، بعد ذلك بأكثر من خمسين سنة مررت بالسوق -البراني، ومَرٌ بخاطري أن أزور قبرها، اتجهت بالضبط إلى المكان الذي كنت أظن أنه مكان المقبرة في خيالي، لم أكن مخطئا في تحديد المكان، لأنني كنت أعرف خريطة طنجة، لم أجد مقبرة وما يقترب منها، وجدت عمارات وحوانيت، علمت أن المقبرة تعرضت لهجوم اعنف من هجوم المغول، وأن جثث الموتى الذين كانوا فيها نبشت بالفؤوس وحملت بالبالات ونقلت كما ينقل الحجر والرمل والخامات....
أوقفت حديثه، وقالت له :
- ما معنى الخَامَات ؟
أجاب بسرعة واسترسل في الحديث :
-الحشائش، الرطب من النبات .
وأدركت أيضاً أن تلك القبور التي حصلت بمكانها العمارات، لم تنقل فرادى كما تنقل قبور غيرهم ممن تُحْترم حقوقهم وهم أموات، كما تحترم وهم أحياء، أدركت كل ذلك وحزنت لقيمة المغربي وقيمة الجماعة المدعوة بالمغرب الإسلامي، التي تُنْتَهَك حقوقها وهي في مقابرها، أدركتُ ذلك لأنني شهدت بنفسي سنة 1959 حوادث بفاس، لم استبعد أن مثلها حدث في مقبرة طنجة، ماذا شهدت في فاس ؟ كنت تلميذاً بالثانوية، كنت سنة 1958 مستقراً في رياض بهيج بحي الزربطانة، وقبل ذلك كنت كل صباح اخرج منه إلى باب الساكمة، واتجه طريق جنان السبيل من باب الاختصار، وكنت أمر بما يدعى اليوم بمقبرة ابن "عربي" على طريق ممهد - بالإسفلت- أنشأه الفرنسيون بين باب الساكمة وباب أبي الجلود، وكان ضيقا شديد الضيق، يمر وسط المقبرة والقبور حوله من اليمين والشمال، والظاهر أن الفرنسيين ضيّقوا الطريق احتراماً للقبور ومن فيها، اختاروا التضييق بحيث أنه إن كانوا احتاجوا إلى نقل أموات ليشقوا الطريق، فمن المستنبط أنهم ما كانوا نقلوا إلّا قليلا من الجثث، الغالب على الظن أنهم نقلوها نقلاً إفراداً، لأن الفرنسيين كانوا يحترمون عادات المغاربة ولا يستفزونهم بهذا النوع من الاستفزاز الثقافي وإن كانوا يستفزونهم على المستوى السياسي، الشاهد أنني حين كنت أمر بباب أبو الجلود سنة 1959، شاهدت حوادث ظلت مسجلة في ذهني ولم تبرح ذاكرتي وعقلي وكانت الشاحنات تجمع ما ينقلها داخلها بالبالات، ما نبش العمال بالفؤوس القبور، وقد شتتوا العظام وخلطوا بعضها البعض، وحُوِّل الجانب الأيسر من المقبرة المتاخم للسُور إلى ارض ممهدة ليس فيها اثر لقبر ولا شاهد قبر، واستمر العمل أياماً وكنت كلما مررت شاهدت تقدم الأعمال، وانتهى الأمر إلى تبسيط ذلك الجانب الأيسر وحصر المقبرة في الجانب الأيمن كما هي عليها الآن، حيث تحولت المقبرة في جانب كبير منها إلى طريق ترابية يحمل خلايا الموتى الذين حملت عظامهم في الشاحنات كما تحمل النفايات، وما يشبه ذلك أن البناء التاريخي الذي كانت توصف به باب الساكمة وهما بابان كبيران، أحدهما يخرج إلى مقبرة أبي "بكر" بن العربي، والثاني يخرج إلى مقبرة باب الساكمة، هذان البابان أصابهما من التدمير والإفناء ما أصاب المقبرة، نزل بهما التتار المغربي وحولهما إلى حصيد، ونقل الجميع في الشاحنات إلى مقالب الزبال وإلى المزابل، النتيجة اليوم أن باب الساكمة أصبحت اسماً لقبر مسمى، لأن الباب دمرت سنة 1959.. هذا الذي حدث من تدمير بباب الساكمة ضيّق مقبرة باب المَحْرُوق، التي تحولت إلى مقبرة أبي "بكر" بن العربي، ويبدو أن هذه المقبرة كانت تمتد من باب الساكمة إلى هَضبة قلعة السعديين والمرينيين، أي أنها كانت في غالب الظن تشمل مستشفى "كُوكَار" وتشمل مقبرة ابن" العَرَبي" الحالية..
الشاهد أن التتار الذين لم يحترموا مقابر المغاربة، بأن ينقلوهم فرادى إلى مقبرة خاصة جديدة يدفنوهم فيها هؤلاء التتار، الذين تسلطوا على مقابر المغاربة المسلمين طائفيا، لم يتجرؤوا أن يفعلوا الشيء نفسه بمقابر الطائفة اليهودية والطائفة النصرانية .
عندما شاهد اندهاشها من حديثه المسهب عن المقابر قال لها :
- سأسافر معك هذا الأسبوع إلى مدينة فاس، لتشاهدي مقبرة الطائفة اليهودية، التي تقع على سفح مطل على الطريق العمومي، الرابط بين حي -لافياط، و - باب الفتوح، وتحتل موقعاً جمالياً ليس له مثيل بفاس . بحيث أنه لو عرض للبيع في سوق العقار لدفع فيه مال قارون . هذه المقبرة اليهودية لم يتجرأ التتار على تسويقها في العقار، ولا على مد الطرق فيها ولا على تحويلها إلى ارض بنائية، ما زالت في مكانها إلى الآن كما كانت سنة 1958، أما مقابر النصارى الفرنسيين لا تحتاج إلى أن أشير إلى أن التتار لا يفكرون أبدا في المساس بها، وهي تقع في مناطق متعددة القيمة التجارية عظيمة القيمة السياحية .
يلتفت إليها وهي تمسح الغبار، وقد أدرك إسهابه في الحديث عن القبور، قال منبها :
-هذا كله جرنا إليه ما شاهدته من عبور لمقبرة طنجة التي اختفت وحلت محلها العمارات، ولم يتم استشارة أقرباء المدفونين فيها منهم أختي"آسية" التي نُبش قبرها وحُملت عظامها مع جيرانها من الموتى إلى مقبرة شيوعية كـأنها مزبلة تغطى بالتراب، هذا الجرح لا يندمل أبداً، لأنه يلتهب كلما مررت بمقبرة اليهود بفاس أو مقبرة النصارى بالرباط أو مقبرة كوت دونيج بمونتريال، أجد أن هذه المقابر احترمت من منع فؤوس التتار من نبشها، وحمل عظامها بالبالات، تذكرت قبر أختي حينما مررت بشارع صُوفِي بمدينة مونتريال، مررت بالمقبرة ونظرت إلى بعض الشواهد وعلمت أن بعضها قديم وبعضها حديث، ونظرت إلى المحيط الذي تقع فيه أنه حيٍ راق، أحسست باحترام السلطات الكندية من قبل الطائفة اليهودية التي احترمت حقوق الموتى .
تمسح الغبار، لا تسمع إسهابه في الحديث الطويل عن المقابر، لقد اعتاد أن يحدثها عن القبر والموت، حدثها صباح هذا اليوم عن- حضر موت، كانت تلهو بتمزيق الورقة التي كتب عليها،...وضع قانوناً حرم على الناس وضع القوانين لأنفسهم، ووضع قوانين كثيرة بعد ذلك للناس ليلتزموا بها، يحل لنفسه ما يحرمه على الناس.. مزقت ورقة أخرى، كتب عليها،.. لا يوجد في حكومتنا وزير الاقتصاد، يوجد وزير المالية.. يحدثها عن المقابر وهي تسأله عن وزير الاقتصاد وتمزق الأوراق، انتهت من تمزيق الأوراق، تمسح الغبار، تثير النقع عن كتاب - تهافت التهافت، يدخل النقع إلى ياقة قميصه يتسلل يمس شعر صدره، يصرخ من ضرر النقع، تضع - تهافت التهافت، منفرداً عن الكتب الأخرى، لأنها ترغب في حمله إلى خزانتها بمونتريال. لا علم لها أن لهذا الكتاب علاقة بأخت جدة جدة، جدة جدتها "زهور" بنت للا فضول، وأنه سبق أن قرأت لقريبها أبي "الوليد" بعض النصوص من المخطوط، ونبهته إلى بعض ما غفل عنه، استحسن قراءتها الجيدة، وأثبت في طرة المخطوط بخط يده الجيد ما سمعه منها، شكرها، لكنه لم ينسخ نسخة جديدة، اعتادت أخت جدة جدة، جدة جدتها قراءة مخطوط - تهافت التهافت، المطهر بالزعفران ونارنج، قارئة جيدة في زمن كانت المخطوطات نادرة، ولم يكن فيه موقع، أمازون الواسع لبيع الكتب، ونادرًا ما يتيسر مخطوط -تهافت التهافت، لقارئات من غرناطة، لكن أخت جدة جدة ،جدة "زهور" بنت للا فضول، كانت تحظى بنسخة بخط قريبها أبي"الوليد"، كانت قراءتها ليس على ما نعرف في زمننا الراهن نابعة من دراسات أكاديمية شبيهة بقراءة الفيلسوفين "محـمد" عابد و"جمال الدين" الطيب .
تتباهى في غرفة صديقات أجمل العمر بغرناطة بهدية قريبها المخطوط -تهافت التهافت، تريهم كيف خَطّت على غلاف جلده حروفا من الذهب الخطاطة السيدة "مارية"، المخطوط حفظته مصوناً فوق رف من خشب الأرز نقشته السيدة "البتول" .
تمسح الغبار وقد تناثر النَقْع عن كتاب -تهافت التهافت، وهي تبحث عن قارئات جيدات بمدينة غرناطة، لم يذكرهن التاريخ، تغرق في البحث عن زوبعة جميلة، تتجلى فيها قريبة أبو" الوليد" جالسة بجواره، تثني مرة على المخطوط ومرة تدين حشوه وتفضل عليه أبا "حامد"، وذلك عندما يستفزها بان هذا الفيلسوف الذي تثني عليه، أهان المرأة حين شبهها بالكلب ، لا تهتم بقوله، تسوي فوق رأسها دَرٌة مطرزة برسم وردة من الحرير زمردية، نظر إليها وقد انسلت خصلات من شعرها فوق هامتها ذهبية لامعة، سقطت الدرة، لعن أبو "حامد"، أمسكت بقلم قلمته، أغرقته في قعر محبرة حبر لونه بلون الزعفران الغامق قريب من الأسود، كتبت على طرة المخطوط - الكلب جاء في موقع النفع لا في موقع الضرر، في تشبيه أبي" حامد" كرمٌ كثير للمرأة .
يتبع