قصة قصيرة : شعوذة في الصيدلية

2015-09-25
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/b59ca3f6-6561-4351-83ec-65cf081113f6.jpeg
 السيدة البدينة المتلفعة في بلوزتها البيضاء الناصعة .. تسحب قصاصة ورقية ملفوفة بإحكام عشر لفة ولفة، من قمطر المتجرالمحاذي لركبتيها .. تسحبها باحتراس شديد وقرأت في عينيها مايعني "سري للغاية ".
كنت في تلك اللحظة مشغولا بدس حفنة الدريهمات المتبقية من الورقة الزرقاء في جيب سروال الدجين الضيق، المشوب بمسحة بالية عند الفتحة التي إنتفشت خيوطها من كثرة السحب والدس .. السحب والدس، في إقتناء أمور يومية بعضها عادي وأغلبها تافه جدا... 
وقبل أن آخذ علب الدواء المحشوة في كيس بلاستيكي صغير، مدموغ بعلامتي الهلال والصليب المتعانقتين، وأقذف بجسدي العليل الذي أنهكته الحمى الليلية إلى الشارع الرئيسي، فاجأني صوت الصيدلانية قائلة : 
مهلا .. مهلا سيدي، هل لديك وقت .. لاتنصرف قبل أن أحدثك في أمرهام جدا !!
اعترتني دهشة واستغراب بالغين، إذ كنت قد سويت كل ما بذمتي في الفاتورة وعبأت مطبوع ورقة المرض بتدقيق مجهري ودمغتها الصيدلانية في كل مواضع الأختام والأرقام والمرفقات البيانية..إلخ 
تساءلت في السر ماذا تبقي إذن بعد كل هذه الإجراءات الروتينية التي حفظتها عن ظهر قلب كلما ترددت على الصيدلية في أول كل شهر..؟؟ ورأيت السيدة تفتح بتؤدة وحرص شديدين القصاصة الملفوفة في عشر لفات حتى لايقع ما بأحشائها على الأرض وقالت وهي تتطلع إلي باستغراب : 
ـــ بالله عليك سيدي .. أنت كاتب ومثقف معروف .. يعني أشوف صورتك في ( الجورنال مرة مرة ..  ) أخبرني عما يكون هذا الشيء الغريب والغامض الملفوف في حشوة هذه القصاصة .. رجاءاً أسعفني .. أسعفني قبل أن تنصرف .. فقد تاهت بي الحيرة ودوختني سبل التفكير؟
وانحنيت مطأطئا رأسي قليلا وطفقت أتفحص ذلك الشئ الغريب والغامض المدسوس بين طيات القصاصة التي تشبه تميمة .. بحلقت وحملقت وأمعنت النظر كثيرا حتى جحظت عيناي لعلني أتبين مابداخلها .. هناك شيء ولاشئ في نفس الآن .. لم أفهم .. تملكتني حيرة عظمى مابعدها حيرة .. وصوت الصيدلانية البدينة مايزال يتردد في مسمعي : بالله عليك قل لي ماهو هذا الشئ المدسوس هنا ؟؟
أخيرا وبعد أن تعبت حدقتاي من فرط التحديق حاولت أن أجمع أشلاء ذلك الشئ الغريب والغامض دون أن أجرؤ على لمسه ببنان سبابتي أو حتى أن أشمه مخافة أن تشفطه أنفاس خياشيمي التي أوسعتها الحمى والزكام الحاد ثم أسقط في نوبة عطسات لاتنتهي ... 
طفقت أفكك، ثم أجمع تلك الأشلاء بنظراتي مرات ومرات علني أضفر في النهاية بتحديد كنه الشيء وشكله ... وظهر لي أخيرا وبعد عناء تفكير وتحديق تارة في الشيء الغامض وتارة في وجه الصيدلانية وأنا أطرح عشرات الفرضيات أنه لم يكن في أحشاء هذه القصاصة اللغز، سوى أشلاء حشرة متيبسة ومتقاعدة في الموت منذ زمن بعيد .. ساقان متخشبتان وجناح مقصوف ورأس مسطح، مدعوس من دون شعيرتيه القائمتين اللتين يتحسس برادارها مخاطر الأحذية المتربصة ...
قلت للصيدلانية وعلامات الإستغراب ترتسم على قسمات وجهي :
ـــ هذه أشلاء حشرة لربما صرصار أو جعل أويعسوب .. لست أدري وليس هناك من عيب إن كانت بصيدليتكم صراصير، فالحشرات توجد في كل مكان حتى في المطاعم الفاخرة هناك بجواركم أو في الفندق ذي خمس نجوم من فوقكم ..إلخ
لملمت الصيدلانية القصاصة من جديد على طياتها السابقة بعناية ووضعتها جانبا وقالت وهي تنفث زفرة قوية من صدرها العريض :
الحمد لله .. الحمد لله .. ظهر الحق وزهق الباطل .. 
قلت لها في إنبهار: أي حق ظهروأي باطل زهق في أشلاء صرصار مسحوق ومات في قبر هذه القصاصة منذ زمن بعيد؟
إسترخت الصيدلانية على الكرسي الجلدي الأسود العالي ثم شبكت راحتيها خلف رأسها وقالت :
ـــ حمدا لله .. أعتبرك شاهدا وأي شاهد مقتدر.. 
قلت : أوضحي سيدتي لم أفهم ماتعنينه؟
القصة ومافيها أن زميلتي تلك ـــ وأومأت لي في تلك اللحظة برأسها وبغمزة من عينها اليسرى إلى زميلتها التي تجلس في الجانب الآيسر قرب السلم المتحرك ـــ زميلتي تلك .. المسمومة .. النحيلة مثل جرادة القحط التي تعتصر غيظا وحسدا من حظوتي في الصيدلية قد إدعت أن هذه القصاصة هي طلسم سحري نصبته كمينا لها بين أغراضها حتى أتمكن من السيطرة على عواطف المدير وأضفر منه ب"القبول" والمفاضلة والمكانة العالية .. هل يعقل أن أقترف مثل هذا الدجل .. ثم هل أنا في حاجة يالسي عبده إلى مثل هذه الشعوذة لأسيطر على قلب المدير؟ .. ألاترى هذه الجرادة أنني أجمل منها حسنا وقدا ووسامة ولست في حاجة إلى تسخير قربان حشرة بريئة وبئيسة للضفر بقلوب المدير وزبناء الصيدلية ..؟ 
وما إن أنهت سرد حكايتها ، حتى شعرت بدوار ثم زلزال يميد الأرض من تحت قدماي وشككت في وجودي إن كنت في تلك اللحظة داخل صيدلية في قلب المدينة الجديدة ال"نيو تاون" أم في حانوت مشعوذ من أسواق القرون الظلامية ؟
ودعت الصيدلانية .. كنت أمشي في الشارع وأنا أتطلع إلى العمارات الشاهقة والمتاجر العصرية وسيارات الكات كات وأتسمع إلى اللغو الدارجي المشوب بلغة فرنسية هجينة وفي ذهني تقرع أجراس فكرة ظلت تشغلني طيلة اليوم كم من التمائم والتعويذات والطلاسم مدسوسة في أذهان هؤلاء العابرين والعابرات وفي زاوية ومخابئ وتحت عتبات هذه العمارات الشاهقة  ؟؟

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved