قصر رغدان/القسم الخامس

2013-06-17

في//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/2e0279d7-dd49-445d-afd0-ee9e95fa4ff7.jpeg ظلام عمان الدامس، حضرت أروى رشيدات بين يدي الملك عبدول، وهي تلتف بعباءة سوداء كلها، كيلا يعرفها أحد. كان معها شاب وشابة جميلان، وكأنهما قمران من أقمار جرش. فوجئ جلالته برئيسة الوزراء، لكنها أوضحت:
- كان عليّ المجيء بنفسي لأنني أعلم تمام العلم مدى سخريتكم من كل شيء، من الحياة، من الوجود، من الله، نعم حتى من الله، في لحظة العبث الرهيبة هذه التي تعيشونها، قالت أروى رشيدات دفعة واحدة.
- هل قرروا اغتيالي؟ سأل الملك عبدول، وهو يبتسم.
- وهل يجرؤون؟
- إذن ماذا؟
- لقد قرروا اختطافك.
- سأنتظرهم، وسنرى.
- مولاي، وأنت ملك لم تستطع معهم شيئًا.
- ربما سأستطيع معهم شيئًا، وأنا...
- مولاي، أنت خير من يعلم ما هو نظامك.
- نظامي مجرم، هكذا هم أورثوني إياه.
- إذن لم المراهنة على ما لا يراهن عليه؟
- ماذا تقترح دولتك؟
- من هذا السيل اصعد الجبل مع هذين الشابين في الحال، فهم سيجيئون بين لحظة وأخرى. للبلاد ملك، ولدك، وأنت بالنسبة لهم لم تعد موجودًا. الكلاب نعم، اغفر لي يا صاحب الجلالة، أما أنت، فلا. سيختطفونك، ولن يعرف أحد مكانك، وكأنك مت بالفعل.
- وبعدما أصعد الجبل؟
- هذان الشابان سيقولان لك.
التفّ ملوك تحت السيل حول الملك، وراحوا يعانقونه واحدًا واحدًا، ودموعهم تتساقط على خدودهم.

* * *

في صباح اليوم التالي، جاء فرانك لانج وأبولين دوفيل ليريا المجزرة التي ارتكبها "مجهولون" في ملوك تحت السيل، كما قال رجال الأمن الذين كانوا هناك. عدّا خمس عشرة جثة، ولم يقعا في سرير الملك عبدول ولا حول مكتبه على قطرة دم واحدة.
- لم يقتلوا جلالته، الأمر أجلى من الشمس، همهم رجل التحري الخاص. - آلو، قالت ضابطة المخابرات الخارجية بعد أن طلبت باريس من هاتفها المحمول، نعم، لم يقتلوا جلالته، هل من أكليشيهات تؤكد ذلك؟ كان الظلام شديدًا؟ الأقمار الصناعية ترى كل شيء حتى النمل في جحورها، شديدًا كان الظلام أم غير شديد. ظلام عمان شيء آخر؟ طيب، طيب، طيب، شكرًا. أقفلت، وقالت لفرانك لانج: تم رصد حركة غريبة هناك، وأشارت إلى جبل عمان المحاذي للسيل.
- كل هذا "هناك"، قال رجل التحري الخاص هازئًا، وهو يشير إلى ظهور الديار ببلاكينها وفرنداتها.
- ليس كل هذا هناك إذا صعدنا من المكان الذي صعد منه الملك.
- وأين هو المكان الذي صعد منه الملك؟
- سريره، وإن شئت مكتبه.
قطعت أبولين دوفيل بطن السيل الجاف من المكان الذي افترضت قطع الملك منه، وبدأت تصعد الجبل، وفرانك لانج يتبعها. وجدا نفسيهما في درب متعرج شقته الأقدام، عند نهايته فرندة تقف في الفضاء، أطلت منها الشابة التي رافقت الملك، وراحت تشير إليهما لما فجأة دفعها اثنان، وسقطت عند قدمي الفرنسيين جثة هامدة. طلبت أبولين دوفيل رجال الشرطة قبل أن تعجل إلى اللحاق بفرانك لانج، وتدخل معه الشقة من بابها المحطم. نظرا بحذر في كل الغرف، وخرجا إلى الفرندة، ومن فوق رأيا بعض الجيران، وهم يدورون بالشابة الميتة، ثم ما لبثا أن سمعا نفير سيارات الشرطة، دون أن يرياها. كان النفير ينبثق من قلب جبل عمان، وكان عليهما أن يخبطا خبط عشواء من وراء آثار الملك. لماذا هذه الجريمة؟ لماذا في تلك اللحظة؟ وهل لهذه الجريمة علاقة باختفاء الملك؟ وهما على وشك مغادرة الشقة، سمعا أصوات أشياء تسقط في غرفة المهملات، فسارعا إليها، ووجدا على الأرض بين أكوامها امرأة معصوبة الفم واليدين، مربوطة على كرسي منقلب. كانت المرأة خرساء، تتكلم بعينيها الجاحظتين، وتعابير وجهها المرتعبة. ركضت حال فكها إلى الفرندة، وعلى مرأى الشابة راحت تطلق أنصاف صرخات، وتشد شعرها، وتلطم، تريد أن تلقي بنفسها لولا رجل التحري الخاص وضابطة الدي جي إس إي. كان رجال الشرطة يصلون من فوق، ومعهم رجال الإسعاف، فأخذت أبولين دوفيل المرأة بين ذراعيها، وساعدها فرانك لانج على إدخالها. حملت المرأة صورة الشابة، وأشارت إلى نفسها، وهي تذرف مر الدمع، لتقول إنها ابنتها.
- ماذا تقول؟ سأل فرانك لانج.
- تقول إنها ابنتها، أجابت أبولين دوفيل.
- اسأليها لماذا قتلوا ابنتها.
- هذا لأني أفهم لغة الخرسان؟
- اسأليها من قتل ابنتها.
- أمرك عجيب لانج!
- اسأليها، اسأليها.
حاولت أبولين دوفيل أن تسأل الأم، وهي تصيح، وتشير، وتهدئ الأم جاذبة إياها إلى صدرها تارة، مبعدة إياها عن صدرها تارة، دون أن تفلح في معرفة أي شيء.
- فهمت، قال فرانك لانج.
- حقًا؟ قالت أبولين دوفيل دهشة واستغرابًا.
- تقول المرأة إنهم حطموا الباب، وذهبوا مباشرة إلى الفرندة حيث كانت ابنتها، ودفعوها، خلال ذلك كان أحدهم يعصبها، ويقيدها، ويلقي بها في غرفة المهملات.
- ولكن كل هذا واضح لانج.
- ها هي تجذبك.
- وهذا واضح أيضًا.
- اذهبي معها!
- أنا ذاهبة معها.
- اذهبي معها، اذهبي معها!
- أنا ذاهبة معها، يلعن دين.
- اذهبي معها، اذهبي معها، اذهبي معها!
- أنت تخريني، اخرس!
قلبت الأم كل جوارير الابنة، ولم تقع على ما تريد. أخذت قلمًا، وكتبت على قصاصة اسمًا وعنوانًا أعطتها لأبولين دوفيل، وهي تقول كلامًا غير مفهوم، وتشير إلى مكان غير بعيد، وتدفعهما نحو الباب المحطم. كان درج في الخارج طويل، طلبت إليهما الصعود، وهي تقول دومًا كلامًا غير مفهوم، وتشير إلى القصاصة التي كتبت عليها الاسم والعنوان، وتحاول إفهامهما أن المكان ليس بعيدًا. تركاها، وهما يتمتمان، بينما راحت تنزل الدرج جريًا إلى حيث كانت هناك ابنتها القتيلة.

* * *

أمرت الوصية على العرش باطلاع الملك الصغير على أسرار الجنس، هذا ما نصحها إياه مستشاروها، ليكون رجلاً أول ما يكون، ولئلا يحب الرجال، فيحرم المملكة من وريث للعرش. أرسلوا من وراء عشر بنات من بنات تحت السيل، وبعد أن غسلوهن، وعطروهن، وألبسوهن أجمل الثياب، بدون كلهن كالأميرات. اختارت الملكة أقلهن جمالاً خوفًا من أن يتعلق الملك الصغير بها، ويقع في غرامها، وأوصوها آلاف الوصايا، وأول الوصايا ألا تتصرف كموضوع للجنس، وإنما كشريك كامل الحقوق والواجبات. لهذا عندما وجد الملك الحسيني ذو الخمسة عشر عامًا نفسه وحيدًا معها في الجناح الخاص به لتناول الطعام، وجلس قبلها، رفضت الاستجابة لإشارة آمرة من يده بالجلوس، فنهض، وأجلسها بنفسه، وهو يدفع الكرسي بكل احترام تحتها. وبعد ذلك، بينما هما في غرفة النوم، والستائر كلها مسدلة، والأضواء خافتة، رفضت الاستجابة لإشارة آمرة من يده بخلع ما ترتدي، فتقدم، وراح يخلع بنفسه ثيابها. وفي لحظة من اللحظات، فقد الملك سيطرته على نفسه، وكل هذا الجمال بين أصابعه، فسقط بفمه على ثديها، وعض بأسنانه حلمتها، لكنها صفعته.

* * *

وبالفعل، لم يكن المكان بعيدًا، كان في شارع جبل عمان، قرب الدوار الأول. طرق الفرنسيان الباب، فسال تحت طرقاتهما. تبادلا نظرات حائرة متسائلة، ودخلا متردديْن. وهما في الصالون، وصلهما صوت بكاء لرجل ينتحب كان يضم شابًا ممددًا على الأرض. شخص رجل التحري الخاص ببصره إلى بقعة كبيرة من الدم، وتفقدت الضابطة الشقراء الغرف. كان الشاب الذي رافق الملك عبدول مع الشابة على طريق الهرب من المجهول، فبعد كل هذه الجرائم لم يعد الاختطاف هو الهدف، وغدا كل شيء جزءًا من المعلوم، ولكن دون معرفة كيف ومتى.
- نعم، كان جلالته هنا، همهم الرجل التعس.
- هل كان هنا وقت الجريمة؟ سأل فرانك لانج.
- من الغباء طرح سؤال كهذا لانج، همهمت أبولين دوفيل.
- لم يكن هنا، أجاب الرجل، وهو يمسح دمعه بظاهر يده.
- كانوا يعرفون أنه كان هنا، قال رجل التحري الخاص.
- يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين، رددت ضابطة الدي جي إس إي، وهي تهصر أسنانها.
- يجيئون بعد أن يكون الملك هنا، همهم فرانك لانج.
- هذا لأنهم يعرفون كل شيء، قالت أبولين دوفيل، لكنهم يصلون متأخرين، ولأن هذا الشاب وتلك الشابة رفضا الإدلاء بشيء قتلوهما، وتجدهم الآن في الطريق إلى المحطة الثالثة.
- يجب الوصول قبلهم، فلا يرتكبون جريمة على جريمة، سارع فرانك لانج إلى القول.
- الوصول قبلهم كيف؟ وما يدريكَ أنهم وصلوا؟
- الملك في خطر.
- هذا إذا كان وصولهم قبل أن يغادر.
- الملك في خطر، في خطر.
- وما يدريكَ أنه لم يغادر؟
- علينا الذهاب إلى إنقاذه.
عادت أبولين دوفيل إلى اللعن، وهي تهصر أسنانها، وصاحت:
- إلى إنقاذه أين؟ هم لديهم علامات ترشدهم!
- ولماذا لا يذهبون مباشرة إلى حيث هناك الملك؟ تساءل رجل التحري الخاص.
- سؤال مهم.
- لأنهم لا يعرفون، أجاب فرانك لانج على فرانك لانج. ولأنهم لا يعرفون، يفعلون مثلنا.
- يتبعون الطريق التي أخذها الملك.
- ولماذا يقتلون؟
وبدوره، أخذ فرانك لانج يلعن، وهو يهصر أسنانه:
- لأن لا أحد من أوفياء الملك يشي به، هذا شيء بائس من كابتن في الدي جي إس إيه.
تدخل الأب المنكوب:
- سمعتهم يقولون إنهم سيذهبون إلى بيت رئيس وزراء سابق ليس بعيدًا من هنا.
- بيت رئيس وزراء سابق؟ سأل فرانك لانج.
- أحد المخلصين لجلالته حتمًا، قالت أبولين دوفيل.
- بيته على مرمى حجر من هنا، همهم الأب، وهو يعود إلى البكاء.
- يكونون قد وصلوا، همهم رجل التحري الخاص يائسًا.
- ألم يقولوا شيئًا آخر؟ سألت الفرنسية الشقراء.
- هم لا يعرفون المحطة الرابعة للملك، كابتن دوفيل، قال فرانك لانج.
- لن نصل قبلهم إذن، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.

* * *

أخذت بنت تحت السيل تخلع للملك الصغير ثيابه، والملك الصغير يترك نفسه طوع يدها، حتى عرته تمامًا، فخجل جلالته من انتصاب عضوه، وخبأه بيديه، لكن بنت الهوى انفجرت بالضحك. سحبته من ذراعه إلى السرير، ومددته، فكانت فرصة الحسيني الذهبية. تغطى باللحاف، وراح ينظر، وينتظر. اقتربت بثغرها من ثغره، فلم يعرف كيف يلتقمه، وكما فعل بحلمتها، عضه بأسنانه. صاحت المرأة من الوجع، وصفعته. هذه المرة، سالت دموع الملك الصغير على وجنتيه.

* * *

كانت بوابة فيلا رئيس الوزراء السابق مفتوحة على مصراعيها، وكانت أحواض الزهور محطمة، وفي لوحة من لوحات الجنة، وجد فرانك لانج وأبولين دوفيل جسد الجنائني مطعونًا في أكثر من مكان طعن من فقد رشده. وهما في أشد حيرتهما، وصلهما من خلفهما صوت رجل كهل يقول:
- كان خير من يفهم لغة الخزامى.
استدار الفرنسيان.
- هذا لأن للخزامى لغة؟ سألت أبولين دوفيل.
- ربما هي التي وشت به، رمى الرجل الكهل.
- أنت رئيس الوزراء السابق؟ سأل فرانك لانج بفظاظة.
- كنت رئيسًا للوزراء عدة مرات عندما كان الحسيني الأب ملكًا، أجاب الرجل الكهل. الأزمة أنا، همهم رئيس الوزراء القديم. لكني لشرفي لم تكن لي أية فضيحة، كفضيحة كازينو غيت مثلاً، وفضيحة الراقصات الحيفاويات، وفضيحة اليخت الملكي، وفضيحة المكرمات الجامعية وغير الجامعية، وفضيحة الدبلومات ورخص القيادة، وفضيحة الوساطات، وفضيحة الدبابات، وفضيحة المناسف، وفضيحة المحاكم، وفضيحة تزوير الانتخابات، فضيحة التزوير الشامل، تزوير الحياة، وفضيحة أموال صندوق النقد الدولي، وفضيحة البنوك، وفضيحة حرية الرأي، وفضيحة حرية التعبير، وفضيحة حرية التعهير، وفضيحة الصحافيين، صحافيي المخابرات، وشعراء المخابرات، وروائيي المخابرات، ومن كله، فضيحة مخابرات من كله، مخابرات العقل، مخابرات البطن، مخابرات الفرج، وفضيحة الراديو الغائطي، والتلفزيون الغائطي، والإنترنيت الغائطي، الغائط، الإعلام، الجامعات، وفضيحة المعاهدات، معاهدة وادي عربة أكبر فضيحة، وفضيحة الأمراء طفيليي الدولة، خاصة الأمراء، كانوا على عهدي اثنين أو ثلاثة، واليوم هم بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، وفضيحة بيع نصف أراضي البلد للإسرائيليين، وفضيحة لطش نصف أراضي البلد الآخر كالبطيخ عالسكين، وفضيحة رواتب السي آي إيه، وفضيحة خنازير الهند التي هي الأردنيون، وفضيحة، وفضيحة، وفضيحة، الأردن برمته فضيحة، لهذا اختار جلالته أن ينزل عندي ضيفًا.
- ولماذا قتلوه هو، عاد فرانك لانج يسأل بفظاظة، وهو يشير إلى الجنائني، ولم يقتلوك أنت؟
ضحك الرجل الكهل، وقال:
- ألم أقل لك؟ لشرفي.
- قل الحقيقة، يا شرف الخراء! جمجمت أبولين دوفيل.
- لم أقل الحقيقة في حياتي مرة واحدة، اعترف رئيس الوزراء السابق.
- لهذا كنتَ رئيسًا للوزراء عدة مرات، قال رجل التحري الخاص.
- الحقيقة... أنا من قتل هذا الجنائني، همهم الرجل الكهل.
- لماذا؟ نبرت ضابطة المخابرات الخارجية.
- لو لم أقتله لعرف مطاردو جلالته المكان الذي يوجد فيه الآن، أجاب رئيس الوزراء القديم، ولكانت مذبحة يذهب ضحيتها كل سكان مخيم جبل الحسين.
- ليست هذه كل الحقيقة، قال فرانك لانج.
- هذا الجرذ الكهل كان في حياته رجلاً قويًا، قال رئيس الوزراء السابق مشيرًا إلى نفسه، ودون سلطة لا أحد يسأل عنك، مضت سنون طويلة، وأنا أنتظر أن يسأل أحد عني، ثم أعطاني جلالة الملك الفرصة مرتين، مرة عندما مر عندي، ومرة عندما وجدتني مضطرًا للقتل من أجل سلامته.
- جميل أن يعطيك أحدهم الفرصة مرتين، همهم فرانك لانج.
- جميل أن يعطيك أحدهم جسده لتطعنه عشرات المرات، همهمت أبولين دوفيل.
- كي تستعيدي شعور الرجل القوي، يا سيدتي، همهم رئيس الوزراء السابق، ولو لعشرات الثواني، أنتِ على استعداد لتفعلي المنكر.
- فعل منكر أكثر من هذا؟ سأل فرانك لانج.
- مضت سنون طويلة، وأنا أنتظر أن يسأل أحد عني، همهم الرجل الكهل من جديد، أن يناديني "دولتك".
تبادل التحريان نظرة من فهم كل شيء، وأرادا الانسحاب.
- لم تشربا القهوة، سارع رئيس الوزراء السابق إلى القول. جلالته في أمان، والقهوة كان خير من يعرف صنعها، أضاف، وهو يشير إلى الجنائني القتيل، لكن لدي قهوة فرنسية من عندكم.
- من عندنا؟ سأل فرانك لانج وأبولين دوفيل، وهما يتجهان إلى البوابة.
- من عندكم، عاد الرجل الكهل إلى القول، قهوة كما تحبونها.
- كما نحبها؟ سأل الفرنسيان.
- كما تحبونها، همهم الرحل الكهل.
- سنشربها في المرة القادمة، قال رجل التحري الخاص وضابطة المخابرات الخارجية معًا.
- المرة القادمة متى؟ سارع رئيس الوزراء السابق إلى القول.
- المرة القادمة، أعاد التحريان.

* * *

تكركرت بنت الهوى بالضحك، وهتفت عارية من وراء ستار:
- افتح عينيك الآن.
فتح الملك الصغير عينيه، وسأل:
- أين أنت؟
فلم تجبه.
- قولي، أين أنت؟ وهو يبحث عنها عاريًا.
- هنا، وصله صوتها.
- هنا أين؟
- هنا، هنا.
- هنا أين؟ هنا أين؟
- هنا، هنا، هنا.
خرجت من مخبئها، وجاءت على رؤوس أصابع قدميها من ورائه، وهو يردد حائرًا:
- هنا أين؟ هنا أين؟ هنا أين؟
نطت على ظهره، وهي تنفجر بالضحك، فحملها، وراح يدور بها، ومن ثقلها، سقط على الأرض معها، وأخذ يدغدغها، وهي تضحك، وهو يضحك، ثم سكتا دفعة واحدة. أمسكته، وفتحت بين فخذيها، لكنه تفجر، وهو على بابها. كانت أول مرة في حياته، فخاف، وراح يرتعد، لكنها احتضنته بحنان، وجعلته يغفو على ثديها.

* * *

في منتصف الدحلة النازلة إلى شارع بسمان، كان رجال الشرطة قد سبقوا أبولين دوفيل وفرانك لانج إلى جريمة شنعاء ذهب ضحيتها كل أفراد عائلة من الطفيلة، وكان مرتكبوها يعلمون تمام العلم أن الملك عبدول لم يحط الرحال عندها، فهم فقدوا كل أثر له بعد زيارته السريعة لرئيس الوزراء الكهل. كانت غايتهم أخرى: ضرب الأردنيين ببعضهم، وهم لهذا حلقوا للجثث شعرها أو جعدوه، وهندسوا لمن له شارب شاربه ليوهموا أن الفاعل من الحلاقين، والحلاقون كلهم فلسطينيو الأصل. إلا أن أحدهم كتب بدمه قبل أن يسلم روحه: أنا أصلع، وهذه التي على رأسي باروكة شقراء بينما باروكتي أنا خروبية، وهي موجودة في الجرار.
- عبقرية هذا الطفيلي ما بعدها عبقرية، همهم رجل التحري الخاص، وهو يفتح الجرار، ويخرج منه الباروكة الخروبية.
- بفضل هذه الباروكة تفادى الأردن حربًا أهلية، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية، وهي تسحب الباروكة الشقراء عن رأس الرجل، فتبين فقوسته.
- عندما عجزوا عن الوقوع على جلالة الملك أرادوا دفعه إلى تسليم نفسه، وطز في الوطن، طز في الناس، طز في الله، طز في محمد، طز في عيسى، طز في الدين.
- سيعرفون في الأخير أنه في مخيم جبل الحسين، لكن من هنا إلى أن يعرفوا لن يتوقفوا عن ارتكاب الجرائم.
- وفي لحظة من اللحظات سيتحول الأمر لديهم إلى انتقام.
- كما تنتقم الأم من وليدها لانج.
- الأم شيء هائل في وضع كهذا.
- لا تلح كثيرًا يلعن دين.
- لا تنرفزي كابتن دوفيل.
- إذن الأب، هل يعجبك هذا.
- أفضل الأب على الأم في عالم بطريركي كهذا. هل لم يزل أبوكِ على قيد الحياة؟
رمى كل منهما الباروكة التي يحملها، وغادر التحريان المكان.

* * *

عندما فتح الملك الصغير عينيه لم يقع على بنت هوى تحت السيل، فأمر بإحضارها، لكنهم جاءوه بأخرى لم تعجبه. حاولت معه بلسانها، فاشمأزت نفسه منها. طردها، وصاح بهم ليحضروا بنت الهوى الأولى، لكنهم جاءوه بثالثة حاولت معه بأصابعها، فلم يحتمل. طردها كما طرد سابقتها، وهددهم. جاءوه برابعة لم يشأ أخذها من رِدفيها، ضربها بصولجانه عليهما، وبنت الهوى تصرخ.

* * *

في شارع بسمان كان الهدوء مطلقًا، الحلاقون يحلقون، وزبائنهم يبتسمون، لكن ما لفت انتباه فرانك لانج وأبولين دوفيل متفرجو سينما بسمان من أصحاب اللحى، وهم يخرجون بالمئات بعد انتهاء فيلم هاري بوتر. كان كل الرواد منهم، وكانوا كلهم يذهبون إلى دكان العطار في الوجه المقابل، ويشترون الأبخرة والجرعات والعصي. اخترق الفرنسيان زقاقًا أوصلهما إلى الحوش الذي كان فيه مطعم هاشم، فوجداه خرابًا على خراب.
- إنه المطعم الشعبي المفضل للملك، همهم رجل التحري الخاص.
- عندما تعجز عن الوقوع على من تتعقبه تبحث عنه في درب قديم ربما يوصلك إليه، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.
- كلاسيكي كل هذا.
- وكل هذا العنف؟
- الغاية دومًا واحدة: الضغط على الملك.
انحنت الشقراء الساحرة، وتناولت من تحت صحن محطم قرصًا محشوًا من الفلافل، نفخت عليه، وقسمته نصفين أعطت نصفًا لرجل التحري الخاص، وبدأت بالتهام النصف الآخر.
- لذيذ! همهمت أبولين دوفيل، وهي تترك المكان مع فرانك لانج.
- بالفعل، همهم رجل التحري الخاص.
- لماذا لا تدعونا على شيء نأكله قبل الذهاب إلى مخيم جبل الحسين؟
- سنأكل كنافة في محل الحلوى الذي أكلنا فيه أنا والملك، إنه خلف هذه العمارة.
وهما يدوران من حول العمارة، رأيا مجموعة من المارة تحيط بعدد من الجثث الملقى بها من بلكون مقهى السنترال مع طاولات النرد. هذا القاص الفلاني، قال أحدهم، وهذا الروائي العلاني، قال ثان، وهذا ناقد المعلقات الأستاذ المخضرم، قال ثالث.
- للضغط على الملك؟ سألت أبولين دوفيل.
- ولكن ما الأهمية؟ أجاب فرانك لانج على السؤال بسؤال.
- كل هؤلاء الكتاب!
- بلا أية قيمة.
- ها هم يتخبطون إذن.
لم يسمعها، كان يعجل إلى قطع الطريق حتى حلويات جبري، حلويات نهبوها، وطاولات خربوها.
- هذا هو محل الحلوى الذي أكلتما فيه أنت والملك؟ همهمت أبولين دوفيل، وهي ترفع غريبة باللوز عن الأرض، وتنفخ عليها، ثم تقضمها، وتضيف: لذيذ!
- هذا هو، همهم فرانك لانج.
- هل تريد واحدة؟ سألت الشقراء الفرنسية، وهي تواصل قضم الغريبة باللوز.
كانت مظاهرة من السوريين تتقدم من الجامع الكبير، وهي ترفع أعلام الثورة ويافطات كتب عليها: الدين لله والسوق السوداء للجميع، حرية السوريين من حرية الأردنيين، ساعات كارتييه صح... وكان المتظاهرون يهتفون: سلمية! سلمية! سلمية! تصدى لهم بعض الملثمين بكوفياتهم، وراحوا يرشقونهم بالحجارة. وعما قليل، حمي وطيس المعركة ما بين الطرفين.
- لنذهب من هنا، طلب فرانك لانج من الشقراء الساحرة.
أمسكها من يدها، وجذبها، وهي تلتقط حبة بقلاوة من صدر منقلب.
- على مهلك، طلبت.
إذا بصبي ذلك اليوم، بائع السجائر، يتعلق على ذراع رجل التحري الخاص، وهو يمد إليه بيديه المضمدتين خرطوشًا عُلَبُهُ مسحوقة، وسجائرُ عُلَبِهِ مفتتة.
- ما هذه الهامّة؟ سألت أبولين دوفيل.
وفرانك لانج يصيح بالصبي قبل أن يدفعه:
- لا.
- يا له من قلب قاس قلبك! أنبته ضابطة المخابرات الخارجية.
لكن رجل التحري الخاص كان يريد مغادرة وسط المدينة بأقصى سرعة:
- كقلب أمي، ألقى فرانك لانج.
- كقلب أمك لانج؟ سألت أبولين دوفيل والهم يساورها فجأة.
- كقلب قفاي، صاح رجل التحري الخاص، فلم يسمع ماسح أحذية ذلك اليوم، وهو يناديه.
- أحدهم يقول لك يا خواجا، نبهته الشقراء الفرنسية.
- يا خواجا.
- ليس اليوم، قال فرانك لانج لما وقع على ماسح الأحذية الملفوف كل رأسه وإحدى عينيه بضماد.
- كما تريد، يا خواجا.
- قلبك قاس كقلب أمك لانج؟ عادت أبولين دوفيل تسأل بأسى.
- كقلب قفاي قلت لك.
جذبها ماسح الأحذية، وجعلها تضع قدمها، وبعينه الواحدة أخذ يرغي صندلها، ومع صندلها أصابع رجلها دون أن يرى جيدًا ما يفعل. جذبها فرانك لانج بدوره، وأبولين دوفيل تنط على قدم واحدة، وتمسح الصابون بمنديلها. كانا قد ابتعدا عن المظاهرة، وصارا قرب سينما رغدان.
- لم تكن تمزح، كقلب أمك، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.
توقف فرانك لانج، وأمسكها من كتفيها، وهو يهزها، ويقول:
- أبولين، ماذا دهاك؟
- لا شيء. ظننت أننا تزوجنا، وأن...
- أبولين، ما أروعك!
- ...لك قلبًا قاسيًا كقلب أمك.
- أبولين، خراء إذن!
تركها غاضبًا، فاعترضه متفرجو سينما رغدان، وهم يخرجون بالعشرات بعد مشاهدتهم لفيلم بورنوغرافي. كان يبدو عليهم أنهم نخبة مثقفي البلد، والبرهان على ذلك دخولهم المكتبة الموجودة على الرصيف المقابل. رآهم فرانك لانج وأبولين دوفيل، وهم يستمنون من وراء الرفوف، ويمسحون بأوراق الكتب، ثم يحشون بالأوراق فم صاحب المكتبة ليحللها، فمهنته الأصلية صيدليّ، كما قالوا، وليقول أيها الرائع وأيها غير الرائع من أدب الغائط.
وهما يمضيان بالمحكمة القديمة، أوقفهما شواذ العدالة، هكذا كان الناس يسمونهم، بعد أن تحولت المحكمة القديمة إلى مكان لا حاكم على المرء فيه غير جسده. ابتسم�

افنان القاسم

أفنان القاسم - ولد في يافا عام 1944 - دكتور دولة من جامعة السوربون ودكتور حلقة ثالثة ودكتور فخري - أستاذ جامعي متقاعد من معهد العلوم السياسية في باريس وجامعة السوربون وجامعة مراكش والجامعة الأردنية وجامعة الزيتونة في عمان مؤلفاته: - الأعشاش المهدومة (قصص ستينية) الشركة الوطنية للنشر...

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved