قصر رغدان/القسم الرابع

2013-06-22

ل//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/2e0279d7-dd49-445d-afd0-ee9e95fa4ff7.jpegم يجر حفل التتويج في قاعة العرش، قاعة أشبه بمسرح الأراجوز، حسب الملكة سونيا، بل في حديقة قصر رغدان، فانحنى كبار رجال الدولة والجيش والدين والتجارة للملك الصغير بتاجه ومشلحه وصولجانه، وقبلوا يده، والملكة الأم كاللبؤة إلى جانبه عابسة لا تبتسم لأحد. كان فرانك لانج وأبولين دوفيل وأروى رشيدات يقفون على المنصة الملكية غير بعيدين عن قوة الدجل، وهي تعرض نفسها تحت سماء مليئة بالأقواس النارية، فكل أولئك النشامى، كل أولئك الضباط، كل أولئك الشيوخ، كل أولئك التجار، لم يكونوا شيئًا آخر غير بؤس الولاء، وبأس البؤس في الحال العصيبة التي تمضي بها البلاد. نسوا ملكهم القديم كلهم، بين ليلة وضحاها نسوه، ونظروا بالطرف إلى الملكة، الوصية على العرش، وهم يرتدون أثواب النفاق. وعلى أنغام قصيدة عصماء، راحوا يأكلون ما طاب من طعام، ويشربون ما لذ من شراب.

يا سيدي أسعف فمي ليقول
في عيد تتويجك الجميل جميلا

أسعف فمي يطلعك حرًا ناطفًا
عسلاً، وليس مداهنًا معسولا

يا أيها الملك الأجل مكانةً
بين الملوك، ويا أعز قبيلا

يا ابن الهواشم من قريش أسلفوا
جيلاً بمدرجة الفخار، فجيلا

نسلوك فحلاً من فحول قدموا
أبدًا شهيد كرامةٍ وقتيلا

لله درك من مهيبٍ وادعٍ
نسرٍ يطارحهُ الحمامُ هديلا

يدني البعيد من القريب سماحـةً
ويؤلف الميئوس والمأمولا

- ما هي سوى نهاية، همس فرانك لانج في أذن أبولين دوفيل.
- تريد القول ما هي سوى بداية، همست أبولين دوفيل في أذن فرانك لانج.
- في علم النفس النهاية بداية، همهم رجل التحري الخاص.
- أشكرك على تأكيد ما أقول دعمًا لمواقفي، وذلك من أجل إشباع رغباتي، همهمت ضابطة المخابرات الخارجية.
- هذا لأنني أسعى إلى الإنسان الكامل.
- لا يوجد إنسان كامل.
- ومن قال لك إنه يوجد؟
- أنت.
- قلت أسعى، فهل أنجح؟
- منذ قليل كنت تؤيدني.
- أرغب في مناكدتك.
- لن أُشبع رغباتك.
- ولماذا أنا متعلق بك؟
- انظر إلى الملكة كم هي جميلة.
- كم هي عابسة.
- لهذا هي جميلة.
- لهذا هي ملكة.
- لا تحب النساء مع الأسف، تدخلت أروى رشيدات.
- هل حاولتِ معها؟ سألت الضابطة البيضاء الشقراء.
- حاولت، أجابت السفيرة البيضاء السوداء.
- هذا لأنها مثلي، قال رجل التحري الخاص.
- مثلك! صاحت المرأتان بصوت واحد، والملكة سونيا تلتفت إليهما، فأقفلتا فمهما بأصابعهما اعتذارًا.
- أقصد فقدت أمها، وهي صغيرة، ولم تعد تغير منها، أوضح فرانك لانج.
- أنت تغير من أمك؟ عادت المرأتان إلى القول بصوت واحد.
- لماذا لا تفهمان؟ قال رجل التحري الخاص يائسًا. من أبي، لم أعد أغير من أبي، هذا لأني فقدته، وأنا صغير. إضافة إلى ذلك، لأني فقدته، غدوت تحريًا. ليكون التحري ناجحًا، عليه أن يكون دون عقدة. بفضل أبي الذي فقدته، أنا ما أنا عليه. أعمل تحريًا، وأحب الجنس الآخر.
أمسكت المرأتان إحداهما بيد الأخرى، وقالتا:
- نحن ما نحن عليه، ونحن نحب بعضنا، ولم تزل أُمّانا على قيد الحياة.
- هناك من المشاعر ما يصعب على علم النفس تفسيرها، همهم فرانك لانج.
- أنا أحب النساء ليس لأنهن نساء، ولكن لأنهن لسن رجالاً، همهمت أروى رشيدات.
- أعرف الآن لماذا لم تنامي في حياتك مع رجل واحد، همهمت أبولين دوفيل.
- كان يحبني إلى حد الجنون، وجدت السفيرة الأردنية نفسها تعترف، ويرسل إليّ على الكلية كل يوم رسالة، وفي أحد الأيام حملت كل رسائله إلى العميد، وسلمته إياها، هكذا، بدافع غريزي لا تفسير له. كلمات كانت تفيض حبًا، لا يقابلها المرء بالغضب، وأقل من ذلك بالعقاب. استدعى العميد والده، فماذا فعل والده، فتح رأسه، وأخذه إلى المستشفى ليعالجه، وبعد ذلك برئ من حبه لي. كنت قد وقعت في غرامه، لكني كنت أشعر بالذنب، فلم أبح له بغرامي، وبقيت أشعر بالذنب طوال حياتي. إنه الغرام اللعنة، الغرام الإلهام.

يا ملهمًا جاب الحياة مسائلاً
عنها، وعما ألهمت مسؤولا

يهديه ضوء العبقري كأنهُ
يستل منها سرها المجهولا

يرقى الجبال مصاعبًا ترقى به
ويعاف للمتحدرين سهولا

ويقلب الدنيا الغرور فلا يرى
فيها الذي يرضي الغرور فتيلا

خبر بها المتأكلين قصاعهم
نهمًا، وبؤس حطامها مأكولا

يا مبرئ العلل الجسام بطبه
تأبى المروءة أن تكون عليلا

أنا في صميم الضارعين لربهم
ألا يريك كريهةً وجفيلا

- بعد أن وقع اختيارها على المهندسة التي هي أنت في الطاقة النووية، هل ستعلن الملكة تعيينها لك رئيسة للوزراء هذا المساء؟ سألت أبولين دوفيل أروى رشيدات.
- لست أدري، أجابت سفيرة الأردن في باريس.
- ألا تريانها عابسة؟ تدخل فرانك لانج.
- وماذا يعني أن نراها عابسة؟ سألت المرأتان.
- إنها في أصعب حال نفسيًا، أوضح رجل التحري الخاص، إنه مصيرها الذي يشغلها، وهي لهذا ستعلن هذا المساء تعيين أروى رشيدات رئيسة للوزراء.

والضارعات معي، مصائرُ أمةٍ
ألا يعود بها العزيز ذليلا


فلقد أنرت طريقها وضربته
مثلاً شرودًا يرشد الضليلا

وأشعت فيها الرأي لا متهيبًا
نقداً، ولا مترجيًا تهليلا

يا سيدي ومن الضمير رسالة
يمشي إليك بها الضمير رسولا

حجج مضت، وأعيده في هاشم
قولاً نبيلاً يستميح نبيلا

يا ابن الذين تنزلت ببيوتهم
سور الكتاب ورتلت ترتيلا

الحاملين من الأمانة ثقلها
لا مصغرين، ولا أصاغر ميلا

جلس الملك الحسيني على كرسي العرش إلى جانب أمه، ثم ما لبث أن انحنى على أذنها، وهمس:
- ماما...
- لا تدعني ماما، يا صاحب الجلالة، انتهرته الملكة سونيا.
- ماما، لا أحد يسمعنا، همهم الملك الصغير.
- حتى لو لم يسمعنا أحد، همهمت الوصية على العرش. ماذا تريد، يا صاحب الجلالة؟
- أريد الذهاب إلى التواليت.
- مولاي، ألا يمكنك الانتطار؟
لكنه نهض دفعة واحدة، فأشارت الملكة سونيا إلى فرانك لانج ليتبعه.
- بيوت الماء أهم من كل قصور الدنيا، همهمت أبولين دوفيل.
- وكل قبورها، همهت أروى رشيدات.

والطامسين من الجهالة غيهبًا
والمطلعين من النهى قنديلا

والجاعلين بيوتهم وقبورهم
للسائلين عن الكرام دليلا

شدت عروقك من كرائم هاشم
بيض نمين خديجة وبتولا

وحنت عليك من الجدود ذؤابة
رعت الحسيني وجعفرًا وعقيلا

هذي قبور بني أبيك ودورهم
يملأن عرضًا في الحجاز وطولا

ما كان حج الشافعين إليهم
في المشرقين طفالة وفضولا

حب الألى سكنوا الديار يشفهم
فيعاودون طلولها تقبيلا

اقتربت أبولين دوفيل وأروى رشيدات من الملكة سونيا، والتصقتا بمسند مقعدها كيلا يسمعهما أحد.
- أول فعل يقوم به جلالة الحسيني بوصفه ملكًا ليس التوقيع على تعييني رئيسة للوزراء، همهمت أروى رشيدات.
- في لحظة من اللحظات يكون هناك ما هو أهم، يا أروى، فكوني صبورة، همهمت الوصية على العرش. هل فكرت في بعض الأسماء؟
- فكرت، عادت أروى رشيدات تهمهم.
- لن يكون أي من هؤلاء المداهنين وزيرًا، همهمت الفرنسية الشقراء.
- وبمن تريديننا أن نحكم؟ قالت الملكة سونيا.
- بالنصف إذن، قالت أبولين دوفيل.
- سيقوم النصف الآخر بانقلاب، عادت الملكة سونيا إلى القول.
- بالثلثين.
- لن نحكم بثلثين.
- بالثلاثة أرباع.
- سنفكر في الأمر.
- فكرت في بعض الأسماء، قالت أروى رشيدات.
- موافقة دون أن أعرف من، قالت الملكة سونيا.
- هل كلهم فاسدون إلى هذه الدرجة؟ سألت ضابطة المخابرات الخارجية.
- كلهم، أكدت الوصية على العرش، حتى النبي منهم.

يا ابن النبي، وللملوك رسالة
من حقها بالعدل كان رسولا

قسمًا بمن أولاك أفضل نعمة
من شعبك التمجيد والتأهيلا

إني شفيت بمجد قربك ساعةً
من لهفة القلب المشوق غليلا

وأبيت شأن ذويك إلا منةً
ليست تبارح ربعك المأهولا

فوسمتني عزًا وكيد حواسد
بهما يعز الفاضل المفضولا

ولسوف تعرف بعدها يا سيدي
أني أجازي بالجميل جميلا

ولسوف تدرك بعدها يا سيدي
أني أماري بالأصيل أصيلا

عاد الملك الصغير، وهو في منتهى السعادة. ابتسم لأمه، وابتسمت أمه لفرانك لانج. جاء إخوة الحسيني الصغار وأخواته الصغيرات ليهنئوه، فصاحت عليهم أمهم، وطردتهم. جاء أخ الملكة، وانحنى بين يديها، ثم قبلها من خدها، فانتهرته:
- هذا ما يسمى بالهزر!
انحنى بين يدي الحسيني، ثم قبله من خده.
- لماذا لا تستمع إليّ؟ زجرته الملكة سونيا.
- أهلاً بك، يا خالو، هتف الملك الصغير.
- اعذرني، يا مولاي، همهم خال الملك، لم تكن المسافة قصيرة بين واشنطن وعمان.
- أنا أعذرك، قال الملك.
- أما أنا، فلا، قالت الملكة الأم.
- لكنك تجدينني هنا، يا صاحبة الجلالة، قبل تشكيل الحكومة الجديدة، قال خال الملك.
استدارت الملكة سونيا، وقالت لأبولين دوفيل:
- رهانك على الربع غير الفاسدين من الوزراء ذهب أدراج الرياح.
نهضت، وهي تطلب من ابنها:
- بعد إذن جلالتك.
وذهبت غاضبة، فلحق بها فرانك لانج، كان عليه واجب الوقوف إلى جانبها كما وعد مليكه. في جناح الملكة سونيا، قال رجل التحري الخاص:
- مدام، الفرق بين الحكم وإرادة الحكم هو الضرورة.
- هل أنادي إذن على خصومي لتشكيل الحكومة؟ نبرت الملكة سونيا.
- لن يقبل خصومك.
- أصحاب اللحى يريدون كل شيء أو لا شيء، الخصوم دومًا ما كانوا هكذا، وعندما يكون العجز، ولا تستطيع مواجهتهم، تلجأ إلى الإيهام، منذ تأسيس المملكة، ونحن نلجأ إلى الإيهام، من أجل إنقاذ المملكة.
- إيهام إلى الأبد لا يوجد، نفسية الشعوب لا يخدرها الإيهام إلى الأبد، في مستشفى الشعوب الإيهام الكثير كالمضاد الحيوي الكثير لا نفع له.
- عند ذلك نلجأ إلى وسيلة أخرى للعلاج.
- تقصدين وسيلة للخلاص.
- لن نلجأ إلى القتل الرحيم.
- إذن ستكون وسيلة للخلاص باتجاهكم أنتم يا حكام.
- وهل هناك من شيء آخر غير خلاصنا؟
- في بلد غير موجود على الخارطة هذا ما يقول حكامه، بسبب ذلك تغدو لهم نفسية ملعونة، نفسية ملعونة من نوع الخراء، فالخراء لعنة جاء منها الشيطان.
- لديك الحق فرانك لانج، فالحكم خراء، لكنه خراء لذيذ.
- وعد من وعود الآلهة، يا صاحبة الجلالة.
- باتجاهنا نحن الحكام في بلاد غير موجودة على الخارطة، وعد إلهي يفترض منا عددًا من الوعود نقطعها، فنحن آلهة من الخراء صغار، ولكن إلى متى نبقى، ونحن نزين للناس أننا نسعى إلى تحقيقها دون أن تتحقق أبدًا؟ عند ذلك نلجأ إلى آخر فعل، فعل خراء إلهي فرانك لانج، وذلك بعمل كل شيء من أجل إظهارنا ضحايا.
- لكن نفسية الشعوب لا يخدرها الإيهام إلى الأبد كما قلت لك، الإيهام تحت شكله الأقل سحرًا يتحول إلى اتهام. انظري إليك، يا صاحبة الجلالة، أنت مركزًا لكل الخيالات المجنونة. الذكاء والسيطرة على كل النفوس من أصعب حقول علم النفس لأن ليس من السهل أن يجتمعا لدى الكثير من البشر، لهذا كانت الطبقات، ولهذا كانت الملكات.
- لهذا أنقذت المملكة في عز أزمتها، ولم أزل أنقذها إلى اليوم، حقًا على طريقتي كوصية على العرش، ولكن إلى متى؟
- أنت لن تديري الأزمة، يا صاحبة الجلالة.
- كان زوجي يدير الأزمة، فانظر أين هو الآن.
- هذا لا يعني أنه فقد ذوقه للسلطة.
- فقدان ذوق السلطة، هذا ما أخشاه.
- مع امرأة مثلك، كرئيسة وزراء، مع مهندسة في الطاقة النووية، مع كل هذه الأنوثة في عالم بطريركي جاء من أعماق الصحراء، أنت لن تديري الأزمة، ستعملين على خلق شروط مختلفة.
- لن تكون في صالحي إلا إذا...
- تقصدين الدكتاتورية؟
- يقولون الإسلام هو الحل.
- عند ذلك سنعود إلى جلالة الملك زوجك.
- يكون كل شيء قد انتهى.
ذهبت الملكة سونيا إلى قناني الكحول، وصبت منها كأسًا قدمتها لرجل التحري الخاص.
- وأنتِ، ألا تأخذي كأسًا؟ سأل فرانك لانج.
- أنا لا أشرب الكحول، أجابت الملكة سونيا.
- ولماذا كل هذه القناني إذن؟
- في أحد الأيام، أحد الأيام الأولى من تبوء زوجي العرش، كانت في القصر الكثير من قناني الكحول، فأردت أن أذوق إحداها، كان ذلك بدافع الفضول لا أكثر، لكن لمجرد رائحتها عافتها نفسي. أمرت بإفراغها كلها في المرحاض، وما أن علم عبدول بالأمر حتى استشاط غضبًا، وأعاد ملء القصر بالقناني. قال لي قناني الكحول هذه امتحانه كملك وقت الأزمات، إذا قاوم ما تزين له من متعة، أثبت أنه قادر على تجاوز الأزمات، وأنه كفؤ لحكم البلاد.

* * *

في تلك اللحظة، كان الملك المتنازل عن العرش يعب الكحول عبًا، تحت الأعين الحزينة لملوك تحت السيل. انتهرهم، وطردهم، فغادروا مذعنين. كان سعيدًا، كانت لحظة من أسعد لحظاته سعادة، وهم لو خيروه بين تاج المُلك وكأس الكحول لاختار كأس الكحول. لأن كأس الكحول ابنة يومها، وتاج المُلك مسئولية كل يوم. كانت لحظة من أكثر لحظاته حرية، الحرية التي لم يعطَهَا، ها هو ينعم بها دون أسوار ولا حراس ولا بروتوكولات. كانت لحظة من أشد لحظاته صدقًا، لأول مرة في حياته يجد نفسه صادقًا مع نفسه، هذا ما كان يهمه، نفسه، الصدق مع نفسه، الكذب مع الغير كان شيئًا غير مهم، على الغير، أما الصدق مع نفسه، فأهم من كل شيء في الوجود. كان الصدق هو الوجود، ودون الصدق لا معنى للحياة، لا معنى لقرص النحل، لا معنى لعض السمك، لا معنى لخدش القطط. كان كل شيء يبدو على حقيقته، حتى الزائف كان يبدو على حقيقته، لهذا كان الزائف في لحظة الصدق جميلاً، خلابًا، فذًا، عبقريًا، خالدًا، سرمديًا، هذا لأنه لم يكن حقيقيًا، ولأنه لم يكن حقيقيًا كان في لحظة الصدق كابتداع آخر له، ابتداع يجعله حقيقيًا. لماذا كل هذا الحزن على الكذب إذن، والكذب هو في نهاية المطاف صدق؟ هكذا هي أخلاق الملوك في نهاية المطاف، مزيج من هذا وذاك، أقرب إلى المقدس في لحظة من أعظم لحظات عدم الإيمان، عدم التوبة، عدم الطهارة، لحظة من أعظم لحظات عدم اليقين. لقد كان ملكًا، وكانت تلك أخلاقه. حتى في الوضع الأشد انحطاطًا، ستظل تلك أخلاقه، لأنه كان ملكًا. لهذا لم يجد أمامه من منفذ آخر إلى المدنس غير العدمية، ليهرب من كونه ملكًا لبعض الوقت، لمدة يحتسي خلالها كأسين من الكحول أو ثلاث، لينكر عليه أخلاقه، ليشعر بضعفه، ليحرر نفسه من سلطته، ليغدو فردًا كباقي الأفراد، ليشتم أباه لو عنّ له، ليقول لأبيه لماذا صنعتني ملكًا، ولأنني لا أريدني ملكًا أنا غاضب منك، وأنا لهذا أشتمك، أشتمك، وأشتم أمي لو عنّ لي، اشتم امرأتي، أشتم ابني، أشتم ابنتي، أشتم، أشتم الكل، أشتم الكون، أشتم دون تردد، وأتذوق طعم الشتيمة، أتذوق طعم الشتيمة اللذيذ، طعم الشتيمة، أتذوق طعم الشتيمة، أتذوق الطعم اللذيذ ليلعن دين، الطعم اللذيذ، يلعن دين، الطعم اللذيذ للشتيمة، يلعن دين، يلعن دين، أرى أن لا شيء يوجد على الإطلاق، وأن لا قيم أخرى هناك غير قيمتي كفرد، وأعود أشتم، يلعن دين، يلعن دين، يلعن دين، أشتم، دون سلطة، دون تاج، دون صولجان، أشتم، أشتم، دون وهم السلطة، ودون وهم التاج، ودون وهم الصولجان، أشتم، أشتم، أشتم، وأظل أشتم، وأظل أشتم، وأظل أشتم، إلى الأبد أظل أشتم، أشتم، أشتم، أشتم، إلى الأبد، أظل أشتم إلى الأبد، إلى الأبد، أشتم، أشتم، أشتم، أشتم، أشتم... وصلت سيارة مرسيدس قديمة، وهي تسعل، ونزل منها سائقها الذي كان عم الملك عبدول نفسه.
- عندما كان والدك أخي المغفور له جلالة الملك الحسيني على وشك الموت، بدأ العم الجليل الكلام، ظنت زوجتي أنني، كولي للعهد، قد غدوت ملكًا، فتصرفت كملكة، وذلك عندما أمرت بتبديل ستائر قصر رغدان بأخرى تناسب ذوقها، لكن فعلاً بسيطًا كهذا في ظرف جسيم كذاك كان أهوج، وكان ذريعة لفعل آخر أكثر تعقيدًا جعلني أدفع الثمن غاليًا. غدوت أنت ملكًا، وذهبت أنا مع زوجتي الهندية كي أقضي حياتي كما يقضي آلاف البشر العاديين حياتهم قرب نهر الغانج.
تقدم عم الملك من يد الملك، وقبلها، ثم همهم:
- اعذرني يا مولاي، لم أهنئ جلالتك باعتلائه العرش، وها أنا أفعل اليوم لست أدري قبل فوات الأوان أم بعده.
انحنى طويلاً، ثم ركب سيارته المرسيدس القديمة، وذهب.

* * *

في صباح اليوم التالي للإعلان عن الحكومة الجديدة برئاسة أروى رشيدات، أول رئيسة وزراء امرأة للأردن، قعد المستوزرون إلى جانب هواتفهم، وهم ينتظرون الأمر بتعيينهم. أرسل رئيس مطاعم الشاورما صكًا كبيرًا لرئيس مجلس النواب كي يتوسط له، وكذلك فعل رئيس مطاعم التشيكين تيكا، فصرف رئيس مجلس الأمية، كما يقولون، الصكين، ولم يفعل شيئًا لا لهذا، ولا لذاك، لكنه توسط لرئيس تجار المعكرونة، لأن هذا يخصه بعمولة عن كل طن معكرونة، وذلك منذ عشرات الأعوام. ومن أجل كرسي وزير في حكومة كلها سرسرية وحرمجية، دعا رئيس تجار العدس رئيس مجلس الأعيان على كأس عرق، وقال لكل كأس يشربها ألف دينار يأخذه، فشرب رئيس مجلس البلطجية، كما يقولون، حتى تختخ، وبقي غائبًا عن الوعي لسكرته طوال عدة أيام اضطر خلالها رئيس تجار العدس إلى رشوة خال الملك بالمبلغ الذي يطلبه، وهكذا فعل كل من رئيس تجار الزيت والرز والصابون، ورئيس تجار البالات، ورئيس تجار الكنادر، فكانت لهم الوزارة التي يريدونها. أما ملك الخردوات، فكانت هديته لرئيسة الوزراء الجديدة سيارة كاديلاك، جعلته على رأس وزارة الاقتصاد. لكن حيلة رئيس تجار العقاقير كانت أكبر حيلة، عندما كتب نصف الصيدليات التي له باسم جلالة الملكة الوالدة، وقال إنها تبرعت بما تجني من أموال للمستشفيات الشعبية التي يملكها، فهي ملكة الشعب الملكة الوالدة، من الشعب وإلى الشعب. ولكي يرد عليه رئيسا تجار العهر من الجنسين، دشنا جامعًا باسم الملك الصغير، جامع الحسيني سمياه، وقالا إنهما سيأتيان بحجارته الشريفة من القدس الشريف. لكن المفاجأة الكبرى كانت بتوزير العديد من الوزراء القدامى، المعروفين بفسادهم، وعندما احتجت الصحافة، والأحزاب، وجمعيات عدم نبش قبور الموتى، بررت أروى رشيدات، رئيسة الوزراء المحنكة ذلك، بكونهم سرقوا حتى شبعوا، ولأنهم شبعوا مما سرقوا لن يعودوا إلى السرقة من جديد. كان رأي أبولين دوفيل كذلك، بينما سخر فرانك لانج منها، وقال للسرقة علاج، ألا وهو ألا تكون هناك سرقة، وألا تكون هناك سرقة، على البلد أن يرقى، ويرقى معه الجميع. اقترحت أروى رشيدات رئيسة الوزراء بناء مفاعل نووي من أجل توفير الطاقة، فبالطاقة ينهض البلد، وتنفيذ مشروع البحرين، فبالماء يرتوي البلد، ودون هذين الفعلين الجبارين لن يكون هناك حل للمشاكل المستعصية، ستتغير الوجوه، ولن تتغير الأحوال. رفض التجار الاقتراحين، لأنهما سيحرمانهم من الأرباح الطائلة التي يجنونها على ظهور المعدمين، ورفضهما الإخوان المسلمون، لأنهما سيعطلان عليهم الوصول إلى الحكم، بينما وافق عليهما ملوك تحت السيل، ومن يقول ملوك تحت السيل يقول أيضًا ملك الملوك.

* * *

قال فرانك لانج للملكة سونيا:
- جلالتك لن تقبل باختطاف الملك عبدول.
- لن أقبل، فهل سيسمعون لي؟ قالت الملكة بمرارة.
- لماذا لا تخبئينه هنا، يا صاحبة الجلالة؟ اقترحت أبولين دوفيل.
- هنا، في قصر رغدان؟ أبدت الملكة سونيا تعجبها.
- إنه المكان الأكثر أمنًا، يا صاحبة الجلالة، قالت أروى رشيدات.
- قصر رغدان للمملكة البطن الذي يحبل بالملوك، خاطر فرانك لانج بالقول، وهو يستمد ذلك من فلسفته النفسية.
- كم مرة يحبل بهم؟ سألت الوصية على العرش.
- في كل مرة يريدون أن يولدوا من جديد، رد رجل التحري الخاص بشيء من الخيال الفرويدي.
- سنهربه إلى فرنسا، قالت ضابطة المخابرات الخارجية، ريثما...
- أنا لا أؤيد الفكرة، سارعت رئيسة الوزراء إلى القول.
- ولا أنا، نفى فرانك لانج، سيعرف رجال السي آي إيه مكانه، وسيصفونه.
- لنترك إذن الطرفين يتحالفان ضده، همهمت الملكة سونيا، ولنضربهم بيد من حديد، فنخلص من كليهما.
- سيكون من الممكن هذا تحت شرط أن يكون الشعب مع جلالتك، قال فرانك لانج، والشعب في الوقت الحاضر ليس مع جلالتك كما لم يكن مع جلالته، وهو يراه عاجزًا عن تغيير أي شيء في عالم مُمات يتجاوزه. الشعب سيكون مع جلالة الملك عندما يعلم بما يرمي الملك من خير لغاية إسعاده، وخيره بالمفاعل النووي ومشروع البحرين. الآن وقد تحرر ممن صنعهم، نفسيًا وعمليًا، يستطيع المتنازل عن العرش تحقيق ما لم يستطع تحقيقه الملك، بوقوف الشعب معه، وبأموال الشعب المسروقة، تحقيق هذين المشروعين الحياتيين وكل الباقي، الدستور، القوانين، الأحكام، الأحلام، حلم جميل كالاتحاد الأوروبي بين دول المنطقة، يكون الأردن بمثابة القلب له، حلم أجمل يؤسس للديمقراطيات في العالم العربي، يجعل من هذا العالم مهدًا للعلم، للأدب، للفن، للرياضة، للسينما، للتكنولوجيا المنتجة، وأعني بالمنتجة حرية الرأي، حرية العقيدة، حرية الكتابة، الحرية، كل الحرية، وهذه هي ثورة العرش بالإيجاز.
- ثورة الشارع، قالت الملكة الوصية على العرش.
- الثورة، فقط الثورة، قالت رئيسة الوزراء.
- إنها ليست الثورة الفرنسية على التأكيد، قالت أبولين دوفيل.
- لن أقول ما قالوه للويس السادس عشر بخصوصها، همهم رجل التحري الخاص، فالثورة الفرنسية كانت ضد العرش، والثورة الأردنية مع العرش.
- لماذا تريدها أن تكون ثورة العرش، وهي ثورة الشارع؟ سألت الملكة سونيا.
- كان الأمير شارل يقول لمواطنيه قوموا بثورة، أجاب فرانك لانج، كان يريد أن تكون ثورة العرش وفي الوقت ذاته ثورة الشارع. هناك نفسية لكل ثورة، والثورة في الأردن نفسيتها هي هذه، ثورة العرش. وفي النهاية ما هو هدف الثورة أيًا كانت نفسيتها إن لم يكن تبديل النظام وليس ترقيعه، ثورة العرش على العرش في الخصوصية الأردنية!
- ثورة الشارع، عادت الملكة سونيا إلى القول.
- هذا لا ينفي ذاك في الخصوصية الأردنية، أكد فرانك لانج.
- ولكن الشعب لا يعلم شيئًا من هذا، قالت أروى رشيدات، ولن يعلم، فالخصم قوي متنفذ. فكر الثورة من فكر الشارع، وعلى الشارع أن تجرفه العواصف بكل ما فيه، أو أن تهزه بقبضة قوية تجعله يقوم من خدره، تجعله يفتح عينيه، تجعله يفكر كما يجب عليه التفكير. لا بد من فعل استثنائي يستنهض النفوس.
- إذن لنتركهم يختطفون الملك، فجّرت أبولين دوفيل.
- إنها أيضًا فكرتي، صاحت الملكة سونيا.
- سيصفونه في الحال، قال رجل التحري الخاص.
- ليسوا مجانين كي يصفوه في الحال، قالت الضابطة الفرنسية، سنجده، وسننقذه، وسنطلع الشعب على كل شيء. ماذا قلتِ، يا صاحبة الجلالة؟
- لنترك التاريخ يكتب نفسه بنفسه، همهمت الوصية على العرش.
لكن لرئيسة الوزراء لم يكن الرأي ذاته.

افنان القاسم

أفنان القاسم - ولد في يافا عام 1944 - دكتور دولة من جامعة السوربون ودكتور حلقة ثالثة ودكتور فخري - أستاذ جامعي متقاعد من معهد العلوم السياسية في باريس وجامعة السوربون وجامعة مراكش والجامعة الأردنية وجامعة الزيتونة في عمان مؤلفاته: - الأعشاش المهدومة (قصص ستينية) الشركة الوطنية للنشر...

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved