اربعة قرون مضت على ثورة علمية انجزها غاليليو
الثورة التي استولدت ثورات تطبيقية في علم الفلك
تكريم غاليليو في (العام العالمي للفلك 2009)
قال اينشتاين عن غاليليو انه أبو الفيزياء العصرية وربما أبو لكل العلوم الحديثة عامة
ولد العالم الفلكي الايطالي (غاليليو غاليلي) عام 1564 في بيزا الشهيرة ببرجها المائل في إيطاليا. وهو فيلسوف وفيزيائي، والده (فينسينزو غاليلي) وامه (جوليا دي كوزيمو أماناتي)، نشر نظرية (كوبرنيكوس) مدافعا عنها بقوة على أسس فيزياوية، درس في شبابه في (جامعة بيزا) تركها لأسباب مادية، مع ذلك فقد استطاع في عام 1589أن يحصل على كرسي أستاذية في تلك الجامعة ذاتها، بعد سنوات قليلة انضم إلى هيئة التدريس في (جامعة بادوا) ظل هناك حتى عام 1610، شهدت تلك الفترة معظم اكتشافاته العلمية. كانت أولى إسهاماته العلمية في الميكانيك، كان (أرسطو) قد ذكر قبل 2000 عام أن سرعة سقوط الأجسام تتناسب مع أوزانها، كان يعتقد بأن الأجسام الأثقل تسقط بسرعة أكبر من الأجسام الخفيفة، علم هذا طلابه ومريديه، ظلت لأجيال قائمة بين العلماء احتراما لرأي (أرسطو)، (غاليليو) قرر أن يختبر صحة او خطأها، بعد سلسلة من التجارب أكتشف بأن (أرسطو) كان مخطئا، فجرب إسقاط أجسام مختلفة الأشكال والأوزان من نفس الموضع، كانت الأجسام تصل إلى سطح الأرض في نفس الفترة الزمنية، أجرى (غاليليو) حسابات بسيطة لدعم وتفسير تجاربه انتهى إلى نتيجة مفادها أن المسافات التي يقطعها جسم أفلت من السكون كي يسقط سقوطاً حراً في جو الأرض تتناسب فيما بينها كتناسب مربعات الفترة الزمنية التي يستغرقها الجسم في قطع هذه المسافات، أي أن الأجسام الثقيلة والخفيفة تسقط بنفس السرعة، ماعدا الحالات التي تصطدم بها الأجسام باحتكاك الهواء، هكذا دحض (غاليليو) وازاح آراء (أرسطو) الى الابد.
وضع (غاليليو) قانونا جاء فيه (إن حركة الجسم تستمر إلى ما لا نهاية ما لم يطرأ عليها ما يعدّلها أو يوقفها)، مما جعل هذا القانون عمدة لـ (نيوتن) بعدئذ، بتساؤله (لماذا لا تستمر حركة الكواكب في اتجاه مستقيم بدلاً من أن تدور حول الشمس وكأنها مشدودة بحبل غير منظور؟) مما قاد (نيوتن) الى اكتشاف نظرياته الهامة في علم الفلك، حول تفسير حركة الكواكب في الفضاء اللامتناهي. أشهر اكتشافات (غاليليو) كانت في الفلك، وكانت النظريات الفلكية في أوائل القرن السابع عشر في حالة ثوران وبتغير مستمر، كان هنالك نقاش حاد بين إتباع النظرية التي تقول أن الشمس هي مركز الكون وهي نظرية العالم الفلكي البولوني (كوبرنيكوس) واتباع النظرية التي تقول أن الأرض هي هذا المركز، وقد ثبت لـ (كوبرنيكوس) 1473ـ 1543 علمياً أن الأرض متحركة، (غاليليو) استطاع عام 1600 الاتيان بالبرهان واضحا لا يقبل الشك على صحة (نظريات كوبرنيكوس)، أعلن (غاليليو) في عام 1604 (كوبرنيكوس) هو المصيب، لكن لم يكن لديه في ذلك الوقت أي برهان مقنع على نظرية أن الشمس هي المركز. وخلال عام واحدة انجز (غاليليو) سلسلة مثيرة من الاكتشافات، نظر إلى القمر رأى بأنه لم يكن كرة ملساء لكن كانت به فوهات بركانية وجبال عالية فاستنتج (غاليليو) ان الأجسام السماوية لم تكن ملساء أو تامة الاستدارة كما تبدو، بل انها تحتوي نفس الإلتواءات والتضاريس الموجودة على الأرض ـ شاهد أربعة أقمار من أقمار المشتري ـ تعرف اليوم بأقمار (غاليليو) تخليداً لذكراه. راقب أيضاً أطوار (كوكب الزهرة)، كما راى البقع الشمسية وأكد أن هذه البقع ظاهرة تخص الشمس وليست أجساماً تسبح في الفضاء بين الأرض والشمس كما اعتقد كثيرون في زمنه. فوضع كتابا على نمط محاورة بين ثلاثة أشخاص: أحدهم يمثل رأي (كوبرنيكوس) والثاني يمثل رأي (أرسطوطاليس) و (بطليموس)، والثالث يُدير المناقشة، جعل الغلبة لرأي (كوبرنيكوس)، قضى (غاليليو) ستة اعوام في تأليف هذا الكتاب الذي اسماه (حوار حول النظامين العالميين الرئيسيين)، وفي هذا الكتاب اورد (غاليليو) كل الحجج المؤيدة لنظرية (كوبرنيكوس).
صرف (غاليليو) الكثير من الزمن على تحسين منظاره كان يبيع ايضا ما كان ينتج من المناظير، صنع المئات وأرسلها إلى مختلف الاقطار الأوربية، صمّم (غاليليو) روزنامة تحتوي على مواقيت كسوف أقمار المشتري ومدى اشهر طويلة، من أماكن مختلفة على الأرض. مع تحديد الوقت المحلي من حركة الشمس في السماء، رصد المشتري ليلاً، يصبح من المستطاع تحديد الوقت المحلي الذي يُرى فيه كسوف الأقمار الأربعة. ومن خلال تلك المعلومات، يمكن تحديد خطوط الطول على الأرض أيضاً. اعتمد عالِم الفلك (كاسينيى) هذه الطريقة عندما طلب منه (لويس الرابع) عشر رسم خريطة فرنسا. وتكرر الأمر في القرن التاسع عشر، عندما عكف علماء الفلك على تحديد مساحة الولايات المتحدة الأميركية، ان (غاليليو) بمنظاره اطلق ثورة علمية غيّرت مفهوم موقع الكوكب الأرضي في الكون. بذلك حطم النموذج اليوناني في فهم الكون لقرون. منها انطلقت الشرارات الأولى لثورة في (علم الفلك) لم تقف حتى اليوم.
عرف (غاليليو) بضلّوعه في الرياضيات والفيزياء والفلك ملك المهارة في صقل العدسات. لم يكن أول من ابتكر التليسكوب بل يعود الفضل الى الهولندي (هانس ليبـّرشي) الذي احترف مهنة صقل عدسات النظر الزجاجية. رصد (غاليليو) الشمس باستخدام طريقة توصل إليها تلميذه (كاستلي)، بعرض صورة الشمس، بالتلسكوب، على ورقة بيضاء. فاستطاع (غاليليو) متابعة مواقع بقع الشمس القاتمة وأثبت تواجدها. لأن التصوير الفوتوغرافي لم يكن معروفاً بعد، فقد لجأ (غاليليو) الى رسّمهاً لمهارته في الرسم.
في جلساته الليلية الطويلة مع التليسكوب الخالية من الكهرباء، لجأ إلى أوراق ليرسم عليها ما يراه بدقة. تفحصّ (غاليليو) بدقة مجرّة (الطريق الحيلبي Milky Way) الذي ترجمه المصريون بـ (درب التبانة) التي تظهر كشريط أبيض على صفحة سماء الليل. بالتليسكوب البسيط اكتشف غاليليو مئات آلاف النجوم التي لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تعطي المجرّة الشمسية لونها وشكلها. صنع التليسكوب الأول في عام 1608. سرعان ما انتشر في اوروبا. وما أن وصل خبر الإختراع إلى (غاليليو)، حتى صنع تلسكوبه الخاص على المبدأ ذاته الذي انتهجه (ليبّرشي). بعد حين استطاع مضاعفة قدراته. وفي عام 1609، صنع تليسكوباً تصل قدرته في التكبير الى عشرين ضعفاً. في عام 1610، أصدر غاليليو كتاباه (الرسول النجمّي) وفي اكتشافاته لم يكتفي برصد السماء فقط بل حلّل الظواهر التي رصدها ليلاً، بعضها أقنعه نهائياً بصواب (نظرية كوبرنيكوس) حول ثبات الشمس ودوران الأرض حولها.
بعد أربعة قرون من تلك الانطلاقة التاريخية، كرّست الأمم المتحدة العام الحالي (عام علم الفلك العالمي International Year for Astronomy). في هذا العام شرع فريق من الفلكيين من (مرصد آرسيتري Arcetri Observatory) في فلورنسا الإيطالية بإعادة صنع نموذج عن تليسكوب (غاليليو) المتواضع، كما جاء في مجلة (عالم الفيزياء). يعتزم هؤلاء الفلكيون استخدام تليسكوب (غاليليو) المستنسخ لإعادة توثيق الأجسام السماوية التي سجّلها في كتابه (الرسول النجمي) الذي نشره عام 1610 تضمن العديد من مشاهداته الفلكية. ولصنع ذلك التليسكوب، دقّق الفريق بتأنٍ في طبيعة عدسة التليسكوب التي في حوزة (دوق توسكانا) الأكبر، (كوسيمو الثاني) عام 1610. وأجرى الفريق قياساً لأبعاد العدسة ودرجة إنكسار الضوء في زجاجها. استخدموا أشعة (إكس) لدراسة حال الزجاج ومواصفاته البصرية. ويطمح الفلكيون أيضاً التوصل لرؤية ما يعتقد أن (غاليليو) قد رآه بنفسه قبل أربعة قرون، فكأنهم ينظرون إلى السماء بعيني (غاليليو) وتركزت الإنجازات الأهم على الفيزياء، التي كانت تُسمى (فلسفة الطبيعة).. كان الاعتقاد السائد بأنها ميدان مقدّس لا يسمح التداول بشأنه من دون استئذان (أهل السماء) المهيمنين. وسرعان ما اكتسب (غاليليو) شهرة شعبية، لأنه خاض صراعاً مع الكنيسة تركّز على مكتشفاته فلكياً.
قال (نيوتن) في رسالة كتبها لأحد زملائه (إذا كنتم قد رأيتُم أبعد، انما هذا بسبب وقوفي على أكتاف عمالقة)، من أهم العمالقة الإيطالي (غاليليو) ولم تقف جهود (غاليليو) العلمية على الميكانيك! فقد كان له عددٌ من الإسهامات الأخرى، فهو من طوّر أول مقياس لدرجة الحرارة، بالإضافة إلى فرجار التقسيم التناسبي، وميزان توازن السوائل، كما قال بأن عدد اهتزازات النواس خلال زمن معين. استفاد من ذلك في قياس الزمن ومعرفة معدل نبض القلب، مع إشارته إلى أهمية هذه القياسات في التشخيص الطبي، هذا بالإضافة إلى العديد من الأفكار العلمية والأرصاد! كما سُجّل لـ (غاليليو) أول محاولة تجريبية لقياس سرعة الضوء، حيث جعل (غاليليو) راصدين يحمل كل منهما منبعاً ضوئياً يبعدان عن بعضهما 1500 متر تقريباً، بحيث يكشف الأول عن منبعه الضوئي حالما يراه الآخر يكشف منبعه ليراه الأول.. كان (غاليليو) يأمل أن يستطيع حساب سرعة تحرك الضوء من تقسيم المسافة المقطوعة، في تجربته 3000 متر، على التأخير الزمني المسجّل بين كشف المنبع الأول ورؤية ضوء المنبع الثاني من قبل الراصد الأول، فتنبه (غاليليو) إلى التأخير الناتج عن بطئ الاستجابة البشرية لكنه لم يستطع التأكيد على محدودية سرعة الضوء، لذلك أشار إلى أنه يجب إعادة هذه التجربة مع راصدين يبعدان عن بعضهما ضعفي أو ثلاثة أضعاف المسافة، وإذا لم يرصد تأثير لمسافة قدرها 9 كلم يمكن عندها الوثوق بأن الضوء آني، نرى اليوم سبب فشل (غاليليو) هو عدم امتلاكه لميقاتية تقيس الفواصل الزمنية الصغيرة، فالضوء يقطع المسافة 3 كلم خلال جزء من مئة ألف جزء من الثانية.
لم يستطع (غاليليو) تحديد سرعة الضوء بدقة لكنه ساهم بذلك بشكل غير مباشر، عبر الأقمار الأربعة التي اكتشفها حول المشتري لكنه مهد الطريق الذي سلكه الدانمركي (أولاوس رومر) في تحديد أول سرعة ضوء عام 1657. وكان (غاليليو) بفضل كفاحه العنيف في سبيل توطيد المعارف التجريبية كما قال آينشتاين (أباً للفيزياء العصرية، وربما أباً لكل العلوم الحديثة عامة)ً. ان أعمال (غاليليو) اغضبت الفاتيكان لانها تتناقض مع (الكتب المقدسة) ولانها شئ جديد لعالم لم يتطور بعد الا انها قلبت ذاك العهد رأسا على عقب. لو عرضت آنذاك للازهر لرفضها. توفي (غاليليو) عام 1642 وأصيب بالعمى لكثرة تطلعه الى السماء.
توما شماني
عضو اتحاد المؤرخين العرب
عضو اتحاد الصحفيين العرب
مرشح جائزة كالنكا لليونسكو للامم المتحدة
تورونتو كندا