رمضان جانا وفرحنا بيه !!

2020-04-24

شهر رمضان عندي هو رمضانان، رمضان الجميل من الماضي، ورمضان الحاضر البائس الذي ذهبت ببهجته جائحة الكرونة وشُح مستلزماته.. ومع حلول رمضان تنهال التهاني والأماني فهي مثلها مثل حلول الجمعة من كل أسبوع تهل وتنهال بعبار "جمعة مباركة" بخط جميل مزوقة وموشاة بورود وزخرفة، والأمر سهل التفسير فإنها لا تكلف شيئاً من مال وإنما تكلف البحث عنها وقتاً قد يطول، وقد يقصر، والوقت ميسور وفائض.. حتى أن البحث عن بطاقات جميلة وزهور وإرسالها غدت هواية لدى البعض، وقد فقدت طعمها حتى غدت روتيناً لكثرة تكرارها ولم تعد تُدخل البهجة...

فالناس يجهدون في زمن جائحة خبيثة في أن يبحثوا عن غذاء مبهج يوفر للناس متعة بما فيها متعة التحدى لعوامل هلاك محدقة حتى وإن باتت مفعمة بنكهة الخوف والهلع، فالتشبث بالحياة هو سليقة، وقل غريزة يشترك بها الإنسان والحيوان !!

وكنت صغيراً في مدينة لاتبرح الذاكرة ولاتريد الذاكرة أن تبرحها، كنت صغيراً في مدينة صغيرة يأتي عاشوراء الحزين الذي لايخلو من بهجة كامنة في حزنه، فالناس متحابون متضامنون ضد الظلم والتسلط، وتخرج المواكب وتردد هتافات الشيوعيين الشجعان – لم تكن هناك قوى سياسية غيرهم- وتدين الحكومة العميلة للإنكليز، ورجلها نوري السعيد "القندرة" وصالح جبر "قيطانة" !! بل تتعدى السياسة الداخلية إلى العربية وتنتصر للجزائر البطلة، وأختها فلسطين مع هتاف بسقوط فرنسا المستعمرة وبريطانيا الصهيونية !! ويكون الشعار حاضرا : من الحسين نتعلم فهو يشير إلى الطريق..

في رمضان تكون الطقوس الرمضانية مبهجة على العموم ولكن للحزن نصيب في الطقوس المفرحة، منذ زمن سومر وبابل وآشور!! في رمضان الجرح (جرح الإمام علي) ثم مقتله !! وتتقارب المبهجات مع المحزنات، وهذا التقارب يفعل فعله في تكوين طبيعة الفرد العراقي، وطبيعة العراقيين، فالإنسان هو محصلة لتراكم تأريخي كامن فيه شاء أم أبى !!

فمبهجات هذا الشهر الفضيل في طقوسه الجماعية، فالجيران يتبادلون ما يطبخون، ومراسيم الفطور قد تكون جماعية، وإطعام الفقراء واجب يواظَب علية طيلة الشهر، وألعاب ما بعد الإفطار والتباري بلعبة المحيبس، وتناول الزلابية والبقلاوة تخرج عن كونها لعب تسلية إلى ما يعزز التماسك الإجتماعي بين كل الناس، بغض النظر عن انتماءآتهم الطائفية والدينية، كان غير المسلمين يصومون أحياناً مع أخوانهم، وأظن المسألة لها جذورها التاريخية أيضا، فأبو إسحاق الصابي العالم المندائي الجليل، يصوم كل رمضان ويشارك صديقيه الشاعرين الكبيرين الرضي والمرتضى في الإفطار مع الشاعر المجوسي الأصل مهيار الديلمي !

هل سنفرح بمجيء رمضان مع صوت محمد عبد المطلب الإنفعالي الصادق، بصَدْحه ونفَسه الطويل وجمال انتقالاته النغمية المتقنة، وإشباعه للقفلات بحذاقة قلّ نظيرها، وإخراجه للحروف من مخارجها السليمة لا ينافسه إلا العملاقة أم كلثوم، فلا تلتبس عليك لفظة في أذنك ! وبعد المقدمة الموسيقة ينتهي دور قيادتها فيكون القياد للمغني، لأم كلثوم ولعبد المطلب، ترى أم كلثوم كالأم الصارمة في الإنسجام والسيطرة، وترى عبد المطلب منتصباً كالديك منتبها يعطي الإشارات اللماحة للمواصلة أو الإنتقال النغمي...  فلئن كانت أم كلثوم ملتزمة كل الإلتزام بالمسار النغمي، كان عبد المطلب يسترسل ويرتجل، وفي جميع الأحوال تراه مُحلّقاً مبدعاً يهز رأسه ذات اليمين وذات الشمال، وملوحاً بيديه، فهو وأم كلثوم لا يغنيان بحنجرتهما وإنما بكامل الجسد !

أتمنى أن يحضر رمضان بيننا بروحه وإشعاعه الروحي والإنساني، فلا أجمل من أن يحنّ الإنسان على الإنسان ! أي نعم ففي رمضان تنفرز حالات انفعالية مؤسفة .. فهذا بتوقه للسيكارة فلا يستطع على شهوتها صبرا.. فالشجار في رمضان بين الناس إحدى معالمة !! وترقب الإفطار هو إحدى ملامحه أيضا، حين يتفنن الناس في قتل الوقت، خاصة إذا صادف الشهر قيظا...

في شهر رمضان تظهر بل تستفحل  فضائح اللحوم في بعض البلدان.. فهناك لحوم الحمير ولحوم الخيل وحتى لحوم الكلاب .. وفي أكبر بلد عربي وفي أحد مطاعمه الكبيرة وجد من لحوم أعفّ عن مصدرها !!

رمضان غدا شهر المسلسلات، فالناس مثلما يترقبون وقت الأفطار لإشباع البطون الفارغة، هم يترقبون المسلسلات والوجوه الناعمة، والأجساد المثيرة علّها تشبع المشاهِد من الجنسين بعض الإشباع لرغبات ونزوات كأن الشهر الفضيل يذكيها إذكاءً..

أتمنى أن يُمسك أكلة لحوم البشر عمّا يأكلون، حين يتناولون الآخرين ويشوهونهم تشويها لا لشيء إلا لخلاف سياسي أو شخصي، أو حسد أعمى القلوب.. أتمنى أن يهيء لنا صاحب رمضان من أمرنا رشداً، أكنا مؤمنين أو لا مبالين أو عدميين أو ملحدين !! فلو شاء الله لخلقنا أمة واحدة !

ولا يسعني أخيراً إلّا أن أتمنى لعراقنا ولشعبنا أن يزيح هذه الطغم الفاسدة وكل قوى الظلام، ليعم الخير والأمان والمحبة والوئام.. وأن تنجلي غُمّة جائحة كرونا عن البشر، في كل أرجاء المعمورة التي خربتها الرأسمالية، ولوثتها وشوهّت جمالها وخلفت مكان نضرةِ الإخضرار السمنتَ والدخان !

الفاتح من شهر رمضان سنة 1441 الهجرية الموافق للرابع والعشرين نيسان سنة 2020 الميلادية

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved