تمسح الغبار وقد كَلٌت قدماها وهي واقفة، تشنجت، أسندت ظهرها إلى الحائط وهي تقول له :
- لِمَ، لَمْ تخرج إلى المقهى حتى الآن ؟
أجابها ساخراً :
- أريد أن استأنس بطلعتك البهية، بعد أن أصبت بتعب شديد منذ فجر هذا النهار، بدأت بالفِئْران وانتهيت بالمِفْتاح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
وقف بباب خزانة كتبه بالحديقة يريد أن يفتح الباب ليبحث عن مسرحية -المهاجر، ورواية -الآنسة شتارك- طلبهما منه صديقه "بديع"، لكن تعذر عليه فتح الباب، لأنه لم يدخل المفتاح في الغور مستقيماً، دفعه دفعة واحدة بقوة، لم يتحرك المفتاح، حاول تحريكه، تعذر غوره، حاول أن يسله على مهل وبصبر جميل سَلٌه فخرج معوجّاً، أعاد تسويته ببنان أصابع يده اليمنى بالبِنْصر والسبابة والوسطى، رأى أن الخِنْصر والإبهام لا فائدة منهما، استقام المفتاح ردد في سريرته- لعل قوة الكَالسيوم مازالت فاعلة فعلها بالرغم من ألم الأصابع وانتفاخهم بداء النِقْرس- تبين له أن عظام أصابع يده مازالت قوية، ضغط على المفتاح ليستقيم أكثر وهو ينظر إلى البنصر والوسطى والسبابة، وجد أن أُصْبعي البنصر والسبابة اقصر من الوسطى، لكن ساعداه في الضغط على المفتاح حتى استقام على شكله الأول، تمهل قليلاً قبل أن ينصرف، وبدأ يتحدث بصوت منخفض :
- الإبهام مهم، عندما يصدر مِني قول جيد، كان زميلي الشاعر"أحمد" يرفع الإبهام مؤيداً رأيي، لكن الآن في زمن الرماد أرى أن الإبهام اختفى. لعله لا يرجى شيء من زمن الرماد، وماذا عن الخنصر؟ أعرف أن جدتي كانت تتذوق مرق القدر بالخنصر حرصاً منها على أن لا يخلط المرق باللحم .
أدخل المفتاح في الثقب ليعيد التجربة، تعذر الغور، أسرع إلى المطبخ، وأخذ منديلاً جافاً وغمسه في الزيت، وأقبل على باب الخزانة ومسح ثقب المفتاح، حتى تسرب الزيت إلى غور الثقب، انطلق على بركة الله وهو يقرأ آية الكرسي، أدخل المفتاح أنفتح الباب، وجد مسرحية - المهاجر ورواية - الآنسة شتارك- اختنق بالغبار، فتح نافدة صغيرة وهو ينظر إلى شباك الحديد الذي لا يسع حجم قط صغير، قال لها وهو يعلن خروجه بصوت مرتفع :
- سأخرج إلى مقهى -الجمرة لألتقي بصديقي "بديع" الذي يفرحني ويبعد عني كآبة السنين المصحوبة بالهرج والمرج المنبعثين من خلف باب حديقة البيت، لعله آت من الغابة .
"بديع" يلطف الحلقة بأحاديثه التي أكثرها كذب وتبجح بالفحولة، يعجبه كلامه عن النساء، في مثل قوله -إنهن يشعلن الحب، بينما الرجال يشعلون الحرب، خبر ذلك من خلال مزاولته لمهنة تفتيش المعلمات، لم يكن مفتشاً تربوياً، بل كان مفتشاً هَنَوِياً . تلتفت إليه، تطلب منه أن يحمل معه التفاح عند عودته من مقهى -الجمرة- تسأله :
- هل يوجد التفاح في جنان الصالحين ؟
يجيبها بثقة تُفْرِم العظام :
- أنا سارح في جنان الصالحين ...
انصرف بسرعة يسعى لأكل تفاحة من جنان الصالحين، يهتم برؤية التفاحة التي سقطت ورآها "نيوتن" ورسمها "ستيف" على جهاز - أبل، خرج وتركها مع التفاحة تردد :
- أآجْرَادة ماَلحة، فيِن كُنْتِ سارْحة، في جْنانْ الصالحيِن، واَشْ كْلِيتِي وَاشْ شْرُبْتِي غِيرِ تفَاحْ ..
انفلت الجهاز -أَبل من بين يديها، سقطت على الأرض التفاحة . فرحت، وجدت الجهاز مازال مفتوحاً على نفس صفحة غوغل، أجرادة مالحة.. بدأت تردد بصوت مَليِح :
- أجرادة مالحة فين كنت سارحة، في جنان الصالحين، واش كليتي واش شربتي، غير التفاح النفاح يا قاضي يا مفتاح .
تتساءل في صمت عجيب :
- لماذا لم يعثر جد جد جدي على التفاحة في جنان الصالحين، وعثر عليها "نيوتن" وبصمها "ستيف" ؟
لا علم لها أن جد جد جدها كان سارحاً في جنان الفاسدين . توفي سنة 1727 في نفس السنة التي توفي فيها السلطان "إسماعيل" و العالم "نيوتن"، و ابن شقرون "، تمسح -الأرجوزة الشقرونية، "عبد القادر" بن العربي المنبهي المدغري بن شقرون المكناسي . تردد بصوت خافت ناعم كأمواج بحر -الرِينْكُون :
- كم كنت سعيدة وأنا أُقبل يد والدتي المُزوقة بالحناء، أعيد تقبيلها ألف مرة .
تمسح الغبار عن بحث - نَقْش بالحناء- الطالبة "حسناء" من شعبة التاريخ، تشم رائحة والدتها، تقلب بحثاً آخر -تِكْشبيلا الطالب "لحسن" من شعبة الأدب الإسباني، تردد :
- مَا قَتْلُونِي مَا حْيَاوْنِي
غِيرْ الكَاسْ لٌي عْطَاوْنِي
الحَرَامِي مَا يْمُوتْشِي
جَاتِ اخْبارُو فَالكُوتْشِي
تفكر أن تعلم حفيدتها "جنة" لعبة تِلْكَ أشبيلية وتحكي لها عن مأساة المورسكيين، تسقط من بين يدها رواية -غرناطة .
تمسح الغبار. تتذكر عندما كانت تتجه صوب المدرسة صباحاً الساعة الثامنة إلّا ربع كانت تمسك بيدها تفاحة تقضمها، التفاح اعتاد والدها أن يحمله معه من ضيعة قرب جبل العِيَاشِي، تعبر الطريق في اتجاه المدرسة، المنازل والدكاكين موصدة الأبواب إلاٌ باباً مفتوحاً تنبعث منه نيران حارة، تُدغدغ وجهها البارد، السْفَانْجِي رجل أسمر يقدم لها سفنجة تلتهمها، تسرع خطواتها بخفة البرق، الغرض عندها من المدرسة ليس القراءة والكتابة، بل هو أن تلعب لعبة تكشبيلا في الساحة قبل أن يقرع الجرس، تدور بسرعة عدة مرات إلى أن تسقط على الأرض، تدمن على اللعبة قبل أن تلج غرفة الدرس، لا غرض لها بالقراءة و الكتابة، فهي كسولة لا تكتب التاريخ لا تنقله من السبورة إلى الدفتر، لأنها لا تفهم ما معنى ملوك الطوائف ولا ملوك الزواحف، تنتظر أن يقرع الجرس فترة الإستراحة، تدلف إلى ساحة المدرسة الواسعة التي اعتادت أن تلعب وسطها لعبة تِكْشبيلا، تسقط بهدوء وسكينة على الأرض، يظهر تُبٌان زميلتها "حنان" وهما متشابكتين اليدين، يدوران يسقطان على الأرض، يلعبان لعبة أخرى بكرة صغيرة- بْلُو، بْلَا ، غُوجْ ، لُوبُوتِي صان بُوجْ. يمر حارس المدرسة في الساحة ينبههما إلى أن هذه اللعبة من بقايا الاستعمار الفرنسي .
تمسح الغبار، تتذكر كيف كانت تدور وتسقط بسرعة على الأرض، الآن تجد أن أخطاءها وهي تلميذة في المدرسة، خير من صوابها وهي أكاديمية بالجامعة، عندما كانت تلميذة كان يمكن أن تغير كل شيء، لو علمت أن تِكْشبيلا هي تِلْكَ اشبيلية، لكن بعد أن أصبحت باحثة، بدأت تردد بصوت حزين :
- العالم هكذا، لا شيء فيه يتغير .
تمسح الغبار، تحاول أن تسيطر على اتْبُورِيدَة، يفاجئها غارقة في طفولتها، لا تستطيع السيطرة على اتبوريدة، تقول له :
-كم كنت أرغب أن أسافر معك في رحلتك إلى لبنان، لأنظر إليك وأنت تتوسط نخبة من المثقفين في مقهى -الهوس شو، ببيروت، لعلها أجمل من مقهى -الجمرة بالرباط. و أجلس بالقرب من نهر الكلب .
يقول لها :
- المكان لا يتجزأ إلّا في الخرائط وعند ملوك الطوائف، المكان قطعة واحدة . مقهى-الهوس شو، ومقهى -الجمرة، يقعان في مكان واحد على الأرض، الليل والنهار متصلان، نهر الكلب و سوق الكلب، صنوان .
ارتدت إلى طفولتها. تلميذة سقطت على الأرض، وسط ساحة المدرسة، ارتفع صوتها :
- تِكْشبيلا..
شعرت وهي تمسح الغبار بدوران داخل رأسها، بدأت تتساءل في صمت شبيه بالموت :
- هل فقدان التوازن والسقوط على الأرض يشبه الموت أو القتل أو الانتحار؟ ما الفرق بين جهاد و داعش ؟