سبايا القرن 21

2008-09-14
قد يستغرب البعض وربما يستهجن وجود سبايا في عصرٍ تحررت فيه المرأة من بعض قيودها، وانطلقت لمجالات العلم والعمل المتعددة، في زمن تطورت فيه البشرية تطوراً يفترض الحرية لكل الناس، حرية حقيقية تتناسب وإنسانية الإنسان الذي هو الأساس في تلك المعادلة والتطور. أي أنه بجهده وفكره المتطور باستمرار قد ارتقى بالعلوم والقيم جميعها إلى مراتب عليا وحضارية لم يكن إنسان عصر السبي ليحلم بها مجرد حلم.
غير أن إنسان العصر أيضاً لم يكن ليحلم بأن ضريبة ذلك التطور والحضارة ستكون وبالاً عليه عموماً، من خلال استلابه لما أنجزه وابتعاده عن كثير من القيم الإنسانية والأخلاقية في تعامله مع الآخرين.
وبالنسبة للمرأة ستكون تلك الضريبة سبياً من نوع جديد يتماهى مع الحضارة القائمة في جزء كبير منها على ثقافة الاستهلاك المادي لمكونات جسد الأنثى- بكل أبعاد تلك التسمية- بعيداً عن إنسانيتها وكرامتها وحقها في الحياة.
هذا مضمون ما طرحه العمل التلفزيوني الدرامي (وحوش وسبايا) إذ تتحول المرأة بشكل عام، والفتاة الصغيرة السن بشكل خاص إلى مجرد سبيّة أو أمة في الألفية الثالثة، أو في زمن المساواة المفترضة بين المرأة والرجل. هذا الزمن الذي ابتعد بنا تاريخياً ونظرياً عن عصور السبايا والإماء والجواري.. لكنه يعيدنا إليها بأشكال أخرى مختلفة من حيث الشكل، لكنها متحدة من حيث المضمون في النظرة والتعامل مع جسد المرأة.
فأحداث هذا العمل الدرامي تكشف بوضوح ماهية مجتمع اليوم ورياءه، والذي لا يرى في المرأة سوى جسد استهلاكي بكل معنى الكلمة، جسد- سلعة- يُروّج لمنتجات شركات الأزياء والعطور والمكياجات عبر الإعلان عن تلك المنتجات، أو عن طريق الرغبة الجامحة لامتلاكها، ولو لم يكن الوضع المادي يسمح بذلك. لكن هناك ما يمكِّن المرأة من امتلاك تلك الحاجيات، ألا وهو جسدها نفسه المعروض في سوق نخاسة العصر الحالي، أو في أفضل الأحوال عبر جهدها المسفوح على عتبات أرباب العمل أياً كانت وجهته، فقط تلبيةً لتلك المتطلبات عبر استهلاك الجسد (جهداً أو قوة عمل، أو سبيّة جنسية تلبي رغبات أصحاب الشهوة والجاه)، أو وسيلة لتحقيق أطماع ومآرب شخصية لدى بعض رجال الأعمال أو إقطاعيي العصر الحديث في الريف من خلال ترحيل فتيات صغيرات يحيط بهنّ البؤس والفقر واليتم، إلى المدن الكبرى للعمل لدى شركاء لهم في القطاع الخاص، يقومون أيضاً بابتزاز تلك  الفتيات لأغراض دنيئة، وبالتالي تشغيلهن بالدعارة أو المخدرات وما شابه. ومن جهة مقابلة يستولي الطرف الأول في الريف على تركة أو إرث الفتيات من أرض وسواها لزيادة أملاكهم والتحكم بمصائر من تبقى في ذلك الريف البائس والفقير عبر دسائس ومكائد وتزوير أوراق رسمية دون حسيب أو رقيب، وبالأحرى دون نجاح أية محاولة لكشف هذا التزوير بسبب رشاً تقدم في الدوائر الرسمية.
والمؤسف في الواقع الذي يعرضه المسلسل أن فتيات من هذا الريف كنّ قد تعرضن لانتهاك عذريتهن وكرامتهن في المدينة عبر وحوش وتجَّار رقيق، يساهمن على نحو أو آخر باستغلال فتيات قد يكنّ قريبات أو جارات يلجأن إليهن لمساعدتهن أو حمايتهن، لكنهن ينتقمن لأنفسهن من بنات جنسهن وقريباتهن، بأن يدفعن بهن إلى درك من الرذيلة لا يستطعن الخروج منه أبداً، وبالتالي يتساوين في المصير الأسود مقابل أموال مشبوهة.
ولا تنجو من هذا الوضع الفتاة المتعلمة أو الجامعية، فهي من خلال علاقة عاطفية مع زميل لها يتم ابتزازها عبر صور ملتقطة لهما بوضعية مشينة، وربما عبر صور يتم تطبيقها فقط من أجل الابتزاز. وما دام مفهوم الشرف قاصراً عندنا على الأعضاء التناسلية والعذرية، فإن الخوف من المجتمع وقوانينه الجائرة يدفع بتلك الفتاة إلى الرضوخ لما يطلب منها فتنخرط في شبكات الدعارة والمخدرات وما شابه دون أن تقف بجرأة لتبرئة ذاتها. وهنا نرى كيف يجري تشويه الحب وعواطفه بين الناس، وكيف تُستلب الثقة بين أفراد المجتمع من جهة، وبين المواطن والقانون من جهة أخرى.
لكن المسلسل يحاول جاهداً أن يظهر لنا حالة أخرى لفتاة تتعرض لما تعرضت له رفيقاتها، لكنها تحت وطأة الخوف على والدتها- وبعد أن خسرت والدها- تلجأ إلى رجال أمن الدولة وتتعاون معهم لكشف تلك الشبكات التي يُضاف إلى عملها عمل آخر هو أشد خطراً على البلد- حسب مفهوم المسؤولين- من خطر الدعارة وانتهاك إنسانية المرأة، وبالتالي تشويه أخلاقيات المجتمع.
هذا الخطر الجديد في تلك الشبكات المشبوهة هو التجسس لجهات خارجية لم نعلم ماهيتها، وهذا هو الواقع الجديد الذي تتطرق إليه الدراما بجرأة تفوق جرأتها في طرح قضايا الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض.
وبالتالي تنجو هذه الفتاة وأمها من مصير محتوم، وتبدو عبرة لسواها من الفتيات بأن لا يتمكن الخوف منهن ويعملن على حماية أنفسهن وحماية الوطن.
فهل لدينا القدرة على ذلك في زمن المال والجاه والشرف المزعوم والمؤطر، لا سيما أننا في زمن تكاثرت فيه (جرائم الشرف)!؟

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved