"شعرية الفاعل " ليلى" في ديوان الشاعر محمد بنعمارة / د. جمال بو طيب

2007-09-14
 أنا يا صوت الخفاء
أملأ الكأس
شجونا
وأناجي الندماء
إن كاسي
من شراب الله
من خمر السماء "
د/ محمد بنعمارة

لا نروم من خلال هذا التحليل ملاحقة الحالات والتحولات المؤسسة للبرنامج السردي في نصوص الديوان ، ولا نسعى إلى معاودة التأكيد على أن الفاعل يظل مرتبطا بالموضوع، وان كان الفاعل ليس بالضرورة شخصية ولا الموضوع شيئا، وإنما وكدنا ملاحقة حضور الفاعل ليلى اسم العلم التخييلي أحيانا، وغير التخييلي أحيانا أخرى في ديوان الشاعر المبدع محمد بنعمارة.
يتمظهر - شكلا - نص ليلى المعنون ب" يأتيني ليلك يغرقني " باعتباره نصا شعريا ، غير انه يتمظهر - شكليا-بوصفه نصا سرديا لا سيما على المستوى الغرافي والتيبوغرافي بفقراته التي يصل عددها إلى تسع فقرات متباينة حجما وشكلا اجناسيا، إذ يمكن أن تأتلف الفقرة الثالثة ونظيرتها الثامنة في الطباعة الشعرية ، وما تبقى من فقرات في الطباعة السردية.
ولا تخلو فقرة من الفقرات من ذكر " ليلى " عشيقة السارد لقصة " ليلى" التي تتجلى مطلعا في الفقرة الثانية (لا ينبغي أن ننسى أن محمد بنعمارة عاشق صوفي مقتدر شعرا وبحثا ومنهج حياة).
وإذا كانت " ليلى " كائنا ينز عن التصنيف بين " المهلوسة " لقيس و"الملهمة" لابن الفارض، بحيث إن المجنون يتتبع حضورها الجسدي وعمر بن الفارض يتقصى ما يحرر الروح من قفص هذا الجسد ، فإن " ليلى " في نص محمد بنعمارة تحضر مدنسة شعرا ، مقدسة سردا (الحديث هنا بمنطق التصنيف الفقري الذي المحنا إليه) غير ان السردية تنتصر لتحيل الدنس الشعري إلى طهر سردي ، فلا تحضر غير " ليلى " الطاهرة.
إن" ليلى " تؤم - بضم التاء- وتقصد من طرف السارد بمؤثثات نصية هي :
-من جهة الشمس
- دليلي حبي المسكون بنور الله.
-اتعبني البحث المحرق.
ولا تحيد هذه المؤثثات عن السردية الصوفية المنبثقة من معجم نصي يتراوح بين الحالات الثلاثة الآتية:
- حالات الاشتعال.
- حالات الاستعار
- حالات الاضطرام.
وبين تبني الشاعر الألفاظ والتراكيب " نور الله- ظمأ العشق - المحرق- قدري - أوجاع المشتاق - الظبية - لا حول لي ولا قوة- احرقني اللهب - طائرنا الميمون - أعشاب البعد - أنا قيس بلا ليلى- صاحب ليلى- أوجاع هيام..." وهي الألفاظ والتراكيب المؤسسة للنص النواة الذي هو الفقرة الثامنة :
- " يا ليلى
- اختاري السياف
- فانا اخترت لمهرك عنقي " (2).
وأكاد ازعم أن النص سردي قائم على أسس صوفية تميز بين الفاعل / الذات: السارد، والموضوع: ليلى ، والملفوظ باعتباره تلك العلاقة بين الفاعل والموضوع وهو التوحد. ويمكن أن نمثل للحالة الأولى بالفقرة الأولى وللحالة الثانية بالفقرة الثامنة وللحالة الثالثة بالفقرة التاسعة.
إن التوحد يمكن أن تشي به الضمائر المستعملة في النص ، فبعد ضمير الفاعل:
- "احرقني اللهب
وصرت دخانا
ومن النار
القبس المشتعل بقلبي
ليتك يا ليلى
مثلي محض رماد" (3).
هذا الفاعل يتجاوز لحظات الحب الأولى المتمثلة في العلامات العشقية وصولا إلى اثر هذه العلامات وهو ما اشرنا إليه بالحالات الثلاثة : الاستعار والاضطرام والاستطار، ويصل إلى درجة الاحتراق ليكون التحول من الكائن الموجود سلفا ولو كان حطبا الى الكائن المنتج الذي هو الرماد ولا يفوت الشاعر طبعا تبيان أن موطن الاحتراق هو القبس الإلهي" وكل من يعرف الرب في كل شيء ولا يعرف رب من رب فإذا ما تجرأ فمن فرط الحب "(4)
وبعد ضمير المخاطب:
والقصة يا ليلى
انك قدري
يأتيني ليلك يرخي
أوجاع المشتاق
ويغرقني في لجته
والطيف يعذبني
يبدو ثم يغيب
أتوهم أيتها الظبية أني الفارس وحدي في البطحاء..
أراك مع السرب
تمرين فاركبي فرسي المتعب
اتبع سربك
يحجبه عني نقع غبار
لاحول لي ولا قوة يا ليلى " (5)
إن حالات الضعف المترتبة عن شدة الهيام / القدر والمضاعف بغياب الوصال بمعناه الصوفي وحضور الطيف المعذب والذي يلاحقه الصوفي لاهثا دون أن يصل بسبب الحواجب كالنقع مثلا هي حالات تستوجب اعتراف اللاهث العاشق بمحدودية قدرته أمام قدره.
ولأن العاشق يصل هذا المرقى فإنه يختار التوحد وقبله وبعده يختار أن يكون مريدا :
" مهرك يا ليلى
دم مجنونك
هذا عنقي
من يشهد لي أني صاحب ليلى " (6)
إنها لحظة سمو العشق بالعاشق حتى يجعله يفنى في ذات المعشوق :" والعاشق الحق هو الذي يتخلى عن روحه طواعية من اجل محبوبه ويتضح ذلك من قصة الفقير الذي وقع في حب حاكم مصر، ثم خيره حاكم مصر بين القتل وترك البلاد جزاء جرأته على حبه فاختار المسكين الرحيل ، فما كان من الحاكم إلا أن أمر بقتله لأنه غير جاد في عشقه لأنه لو كان جادا لما خاف الموت ولقدم روحه بلا تردد" (7)
ويتوحد العاشق والمعشوق في نص محمد بنعمارة: " قلت لمن يسأل عني
لا يعرفني من
من لا يعرف ليلى
وكتبت على الرمل : أنا ليلى " (8).
ويتعمق هذا التوحد في الفقرة الشعرية / المقطع السردي الثالث:" تحضننا أمي الصحراء.تبارك طائرنا الميمون وتفتح أبوابا...تدعونا في سنة لنطارد همس خيام يسكنها مكر الألسنة...تقول لنا الريح الممزوجة بروائح أعشاب البعد: أيا عشاق الأرض اجتمعوا حول مواقد بادية العرب إلى أن يستيقظ قيس المفتون..فيا أمي الصحراء : أنا قيس بلا ليلى " (9).
إن ليلى باعتبارها موضوعا والفاعل باعتباره صوتا للمؤلف يمكن أن يتلخصا في علاقة التوحد بين محمد بنعمارة والنص الشعري / الكلمة:
" سيدتي الكلمة
يا سيدتي
سيظل مدادي
دم كبدي
سأظل الصوفي
يحمل أشواقه
يحرقه الوجد
وينظر الاشراقة
تلو الاشراقة" (10)
وبعد، هل يشفي غليله الشاعر من ليلى.بالتأكيد لا، مادام نص " غزلية الوضوح الغامض" نصا يحمل عنوانا فرعيا هو " من ليالي البحث عن ليلى" ويصدر بعبارة توجيهية لمحي الدين بن عربي:" وليلى من الليل، وهو زمان المعراج والإسراء " وتتردد العبارة نفسها في نصوص أخرى:
" ليلاي اتخذيني قدرا
فأنا آمنت انك قدري
وبأنك لحن خمري
يولد
من بين جراحات الوتر
وبأنك إلهامي
الآتي من أودية الجن
ومن أصداء فضاء نوراني عطر" ص (11)
ولان ليلى من الليل ، فإن النصوص المستلهمة لليل والمتحدثة عنه والمنشأة في ثناياه تكاد تسيطر على الديوان كله.نص " هي أم البهاء مثلا".
يبقى أن ننبه إلى أن التجربة الانجازية الشعرية للاشتغال الصوفي هي تجربة تستدعي وعيا بالمنتج ووعيا بالجنس الإبداعي وقدرة على التوليف بينهما ، وهو ما لم يتسن في مشهدنا الشعري العربي إلا لقلة من الشعراء.


الهوامش:
(1)محمد بنعمارة ، في الرياح وفي السحابة، شعر منشورات اتحاد كتاب المغرب ، الطبعة الاولى 2001.
(2)نفسه ص17.
(3) نفسه ص 15.
(4)فريد الدين العطار، منطق الطير/ دراسة وترجمة الدكتور بديع محمد جمعة، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1996 ص 89
نفسه ص 92.
(5)محمد بنعمارة.م.م ص 14
(6) نفسه ص16.
(7) فريد الدين العطار.م.م ص92.
(8) محمد بنعمارة.م.م ص 17
(9) نفسه ص15
(10) نفسه ص36-64
(11) نفسه ص 80

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved