في التعقيب على نص: "عندما زلَّ شوقي"
للبروفسير فاروق مواسي
صاحب الفضل الكبير
على الكتَّاب والقرّاء.. واللغة العربية كذلك
أمير الشعراء شوقي مدح الإنكليز، ولم يقصّرْ في مديحه للأتراك، ولم ننسَ وينسَ آباؤنا بعد جمال باشا السفّاح، ومصادرة الأملاك الزراعية والمحاصيل، وانتشار الجراد والهجرة والمجاعة التي عصفت بالبلاد، وقضت بالموت في الطرقات على ثلث سكان جبل لبنان، ممن كانوا يفتشون عن حبوبٍ في السرجين وروث الدواب، تبقيهم على قيد الحياة . "والأرمن والأكراد والسوريون والبلغار أيضا"؛ يشاركوننا سلبية مشاعرنا تجاه الأتراك، دون الالتفات إلى المصالح؛ تعيد التفاهم بين مختلف الشعوب وسائر الأعراق؛ ما دام لواء اسكندرون لا زال تحت الاحتلال .
أما شوقي غفر الله له ولنا يكيل لهم المديح ويحسن الثناء عليهم بلا حساب . خلافا لبشارة عبد الله الخوري"الأخطل الصغير"، وريث شوقي على كرسي الإمارة وشاعر "الهوى والشباب"؛ حينما نأى بنفسه عن أسلوب الإسفاف والتردي في المديح؛ فلم يكن شاعرا تحت طلب الحاكم وبطانته .. لكن دون أن تغيب عن باله ووجدانه، القضايا الوطنية بتجرد خالص وقناعة صادقة .
ونحن في لبنان لم نعفِ الأتراك بعد من مسؤولية وتبعات ما فعلوه في بلادنا، وما لحق بنا من الضَّيم على أيديهم . لم ولن نسامحهم بلواء اسكندرون فهذه بلاد أهل الشام . كما لن نهادن "اليهود" أو نسامحهم بالقدس وأرض ليست أرضهم ولو بعد ألف عام، ولو برّأتهم من دم السيد المسيح، محاكم "العدل" الدوليّة وروما وحاضرة الفاتيكان؛ وشوقي عفا الله عنه مرة أخرى، شبّه أتاتورك بالقائد المغوار والصحابى الجليل سيف الله خالد بن الوليد، فقال عنه في قصيدة طويلة أقتطف من مطلعها بعض الأبيات فحسب؛ ويقول شوقي في مديحه :
"الله أكبر كم في الفتح من عجب *** يا خالد الترك جدد خالد العرب
صلح عزيز على حرب مظفرة *** فالسيف في غمده والحق في النصب
يا حسن أمنية في السيف ما كذبت *** وطيب أمنية في الرأي لم تخب
خطاك في الحق كانت كلها كرما *** وأنت أكرم في حقن الدم السرب
سئلت سلما على نصر فجدت بها *** ولو سئلت بغير النصر لم تجب
مشيئة قبلتها الخيل عاتبة *** وأذعن السيف مطويا على عضب"
وما دامت دواعي الحديث تجرُّ بعضها البعض، ولا تخلو من العبرة والحِكَم ؟ وبعد خطٍ باللون الأحمر العريض تحت عجز البيت الأول، وتحت مفردة الحق في مطرحين من بداية القصيدة؛ فأتراك الأمس واليوم تَشْتَبِهُ في عقولهم "ومسلسلاتهم" الممجوجة، جملةٌ من فوضى الوعي وحماقة التفكير؛ فهؤلاء لم يبدعوا في شيء عبر تاريخهم الدموي الطويل، فلم يميزوا بين الحق والباطل، أو "بين الثعالب والحمير"!؟.. وهو موضوع الحكاية القصيرة التي كانت مركونة ومنسيّة في زاوية من زوايا الحاسوب؛ والتي أرجو لها أن تلاقي استجابة مقبولة، وعناية متواضعة من الأخوة القراء .
تخرَّجَ بامتياز من أرقى "جامعات الثعالب" في البلاد، وتتلمذ في نَظْمِ الشعر والوطنية على أيدي *فخري البارودي، وعبد القادر الجزائري، وسلطان باشا الأطرش، وأدهم خنجر وطانيوس شاهين، وغيرهم من جهابذة قادة العرب المخلصين في شتى الحقب والأزمان، فأتقنَ العمل في السياسة على خطى معاوية بن أبي سفيان، وتلقى الحكمة بوحي من أكثم بن صيفي التميمي "بأن حسن الظنِّ ورطة"، وتأثر بخالد بكداش في فن الخطابة والمقدرة بكفاءة عالية على الإقناع .
ثم حملَ خطاباً بليغاً أعدَّه عن "الحربِ والسلام". ضمَّنه إبداع سائر العباقرة في التاريخ، ليلقيه على مسامعِ البابِ العالي في "استنبول"، والتقى عسكرَ السلطان على الحدود، فأخبروه أنّهم في البلاد يستخدمون الحمير، "يرسلونهم" إلى **"السفر برلك"، للسخرة وقضاءِ مصالحِ الرَّعيَّة وحَملاتِ حروبهم على الآخرين .. ! ؟
مهروا له جواز سفره وأكدوا السماحَ له بالدخول، فلا ضيرَ عليه من الزيارة ما دامَ لا ينتسبُ إلى فصيلة الدواب؛ وما دامتِ السخرةُ تقتصرُ على الحمير!؟ ولما كان"سوء الظن عصمة"؟ فقد تحرَّكت في داخله فطنة الثعالب، وخافَ على نفسه من المغامرة غير المحسوبة، فعادَ أدراجَه إلى دياره .. وعندما سألوه عن السبب..؟ قالَ لهم : سأتورّطُ وقتاً طويلاً في الخدمة وأعمالِ السخرة؛ قبلَ أن يميزوا بين الثعالبِ والحمير .
* فخري البارودي: صاحب نشيد بلاد العُرْبِ أوطاني .
**"السفر برلك": إبان الحرب العالمية الأولى تحالفت تركيا مع ألمانيا، في محاولة لإيقاف الانهيار المتواصل في البلاد التي خضعت لسلطتها، والتي كانت هدفاً لأطماع الدول الكبرى السائدة آنذاك، ومنها بريطانيا وفرنسا . ما حدا بتركيا إلى خوض حرب قاسية مع هذه الدول، ولذلك قامت بتجنيد أعداد كبيرة كانت غالبيتهم من البلاد العربية، فيما عرف لاحقاً "بالسفر برلك"، وشاركت أعداد كبيرة من شباب العرب في هذه الحرب، وكثير من هؤلاء لم يعودوا إلى ديارهم ولم يعرف أحد أين ماتوا أو دفنوا .