استعصى تعريف ماهية الجمال عبر العصور، فهو بالفعل أمر محير يستجدي الوقوف عنده و لو لبرهة:
هل الجمال شيء نسبي يختلف باختلاف الشخص وردة فعله تجاه الشيء الذي يتعاطى معه؟ أم هل يكمن الجمال في مدى تناسق وتكامل أجزاء المادة؟
في الواقع أن الإجابة على هذين السؤالين تطرح سلسلة من الأسئلة الفلسفية الأخرى، خاصة فيما يتعلق بجمال الفنون، التي تقوم في الأساس على محاولة لكشف نواحي الجمال في حياتنا وإبرازها في صورة محسوسة بوسائل الفن كافة، من أدب ونحت ورسم وموسيقى. وبشكل عام، من لا يلم ولو بقدر غزة دبوس بماهية أي فن من الفنون، يصعب عليه في مرحلة معينة فهمه و تقديره.
ففي حالة الموسيقى، كلما زادت خبرة وتعمق الشخص بها، زادت احتمالية صحة تقديره لقبحها أو جمالها. فالمعظم، إن لم يكن الكل، يستمتع بسماع لحن معين؛ البعض يتمايل، البعض يدندن، البعض يسرح، والبعض يضرب بقدمه الأرض مع الإيقاع. ولكن لكي نقدر قيمة الموسيقى، يتحتم فهمها على أنها ركن هام في نمونا العلمي والاجتماعي، نظراً لقدرتها السحرية على التغلغل في النفوس والتعبير الصحيح عن العقل البشري. إذاً تقدير الموسيقى ليس مجرد التمتع بها، بل هو مهمة تستغرق مجهوداً لا يخلو من المتعة نفسها.
ولتنمية القدرة على التقدير، لا بد من المران على سماع أنواع الأصوات الصادرة عن كل آلة، ومعرفة الأوزان والإيقاعات، وأساليب الألحان وأنواعها، ومعرفة أصول تكوين وصياغة الجمل الموسيقية، وشيئاً عن تطور الموسيقى و تاريخها.
من هذه الفكرة أتقدم شاكرة من أسرة المعهد الوطني للموسيقى، لمنحي الفرصة للنظر عن قرب إلى موسيقانا الشرقية واستخدام مكتبتها الغنية لمساعدتي في إعداد هذا البحث وفهم هذه الموسيقى المرتبطة بجذورنا العربية والشرقية، وأهمية ذلك في تقدير قيمتها في ظل مرحلة تـُستهـَلك فيها الأفكار الغربية ويتردى الفن الموسيقي العربي المتداول. كما أتقدم بالشكر للأستاذ مصلح كناعنة مدرس مساق القراءات الإثنوغرافية في دائرة علم الاجتماع في جامعة بيرزيت، لتشجيعه لي في المضي قدماً في هذا البحث.
يشتمل هذا البحث على أبواب عدة تتحدث عن عناصر الموسيقى لدى الشعوب الشرقية، وتاريخ الموسيقى لدى بعضهم وأثرها في بعضها البعض، هادفة- أي هذه الأبواب- إلى تعميق صلة الطالب، والباحث بالأخص، بموسيقى تحترز دفئ الشرق، ورائحة العنبر والبخور.
مادة الموسيقى:
الموسيقى هي نوع من أنواع العلم الموزون القائم على النظام والحركة والسكون، كمثل الهندسة والعروض و علم المنطق. وهي ذات أصول وقواعد تبنى على معرفة تركيب الألحان والأوزان وإحكام صياغتها.
للموسيقى "مواد خام" (مجازاً، حيث أن الموسيقى وغايتها لا تقومان على نواحي مادية)، وهذه "المواد الخام" هي الصوت وفترات السكون، والصوت في أساسه ظاهرة فيزيائية تقوم على أمواج واهتزازات. وللصوت أربع خواص هي:
التردد (الذبذبة) الذي تتوقف عليه إلى حد كبير درجة الصوت
المدى، وهو أقصى مسافة تصل إليها الاهتزازات، وعليه تعتمد شدة الصوت
شكل الموجة، ويتوقف عليه نوع الصوت
الزمن، وتتوقف عليه مدة استمرار الصوت.
إن تغير أي خاصية من هذه الخواص يغير في طبيعية الصوت والنغمة ويظهر تأثيره مباشرة في سمعنا. والأصوات الموسيقية لا يقتصر تعريفها على أنها ظاهرة طبيعية فحسب، بل هي مجموعة الأصوات المنتظمة المستمرة لمدة مناسبة، وبينها وبين بعضها توافق لإعطاء اللحن.
أما اللحن في الموسيقى، فهو كالجملة المفيدة في اللغة، كلاهما يتكون من مجموعة من المفردات المتعلقة ببعضها البعض، بحيث تنتهي في حالة اللغة إلى معنى مفهوم، وفي حالة الموسيقى إلى تعبير ذي تأثير، باعتبار أن الكلمات هي مفردات اللغة النغمات وهي مفردات الموسيقى.
من أكثر العوامل المنظمة لمواد الموسيقى الخام، عامل الإيقاع المنتظم، وهو أول ما يسهل على الإنسان الإحساس به، والسبب في ذلك أن كل شيء في الحياة فعلياً مرتبط بإيقاع منظوم، من دقات القلب إلى المشي، إلى حركة النجوم والكواكب، إلى المد والجزر...إلخ. وعليه يقاس الصوت الموسيقي والصمت بعلامات زمنية: الروندو= زمن؛ البلانش= نصف زمن؛ النوار= ربع زمن؛ الكروش= ثـُمن زمن؛ دبل كروش= جزء من ستة عشر من زمن، وهكذا...
للثبات على إيقاع معين وترتب هذه الوحدات الزمنية - سواء صوتية أو ساكنة- بخطوات منتظمة سريعة (ثمن زمن) أو بطيئة (4 أزمنة)، توضع الوحدات في خانات على المدرج الموسيقي المكون من خمسة أسطر وأربع فراغات، هذه الخانات المسماة "المازورات" يفصل بينها حد المازورة بحيث تكون مقسمة إلى أقسام زمنية متساوية تحمل نفس الإيقاع. مثال: إيقاع 34 يعني أنه يجب الالتزام بوضع ما قدره ثلاث علامات من النوار في كل مازورة.
هكذا يتبين أن الموسيقى لا تقوم إلا بتوأمي اللحن والإيقاع، يتكرران ويتشكلان بطرق مختلفة خلال انسياب الموسيقى، وأن أحدهما لا يقل أهمية عن الآخر، فالإيقاع يعطي الموسيقى معنىً خاصاّ بتكوينها وحيويتها، واللحن يعطيها معنىً خاصاً بأثرها العاطفي.
الموسيقى الشرقية:
كان الحديث في الفقرة السابقة عن المواد المكونة للموسيقى بشكل عام، فهذه المواد أو العناصر موجودة في أي صنف من أصناف الموسيقى في العالم، مما يجعلها لغة عالمية مشتركة بين جميع الشعوب. غير أننا عندما نخصص بقولنا عبارة "موسيقى شرقية"، فإننا نقصد بهذا الموسيقى المنتمية إلى منطقة الشرق، أي المنطقة التي تشمل بلاد فارس والعالم العربي وبعضاً من بلدان أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا.
هذه الموسيقى الناشئة عن حضارات الشرق المختلفة، التي تطورت واختلطت ببعضها وبغيرها من الحضارات عبر العصور، تنفرد بمزايا خاصة تختلف عن تلك الموجودة في الموسيقى الغربية، فهي بكل تأكيد تعكس طابع الحياة الشرقية لهذه الشعوب على اختلاف ثقافاتها، على عكس الشعوب الغربية التي تشترك إلى حد ما بنفس الطابع الثقافي وربما التراث والحضارة المتقاربة. وعلى اختلاف الثقافات الشرقية، اختلف طابع الموسيقى بشكل أو بآخر، ليجعل من موسيقى كل منطقة شرقية ذات لون وإحساس مختلف عن المنطقة الأخرى.
هناك عوامل عدة تميز الموسيقى الشرقية عن قرينتها الغربية، تتمثل في الأصوات الموسيقية أولاً، حيث يوجد ما يعرف بالربع صوت (نصف بيمول) أو حتى التـُسع صوت، الذي لا يمكن وجوده في الموسيقى الغربية، وهذا بالطبع ما يؤدي إلى تميز الآلات الموسيقية المستخدمة لتأدية الألحان الشرقية، التي تتخللها هذه الأبعاد الصوتية المبنية على المقامات الشرقية التي ليس لها وجود ضمن السلالم الموسيقية الغربية.
هناك عوامل أخرى تميز الموسيقى الشرقية، تتعلق بطبيعة الإيقاعات والقوالب الموسيقية، والتي خصصت لها أبواب واسعة في هذا البحث.
مقامات الموسيقى الشرقية:
أن النغمات الموسيقية المستخدمة في هذه المقامات، لا تقتصر أسماؤها على أسماء النغمات الموسيقية السبعة، (دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي) وما يضاف إليها من علامات التحويل (Flat- بيمول b- نصف صوت نزولاً) و (Sharp- دياز #- نصف صوت صعوداً)، بل إن لكل نغمة حتى تلك المضاف إليها علامات التحويل وعلى أوكتافات (أثمان) مختلفة، تحمل أسماءً مختلفة باللغة الفارسية، وقد غيّر العرب بعضاً من هذه الأسماء حين افتتح الإسلام بلاد الفرس. وهنا نلقى نظرة على أسماء بعض النغمات:
يكاه = المقام الأول بالفارسية غيره العرب إلى "راست" أي المستقيم = دو
دوكاه = المقام الثاني = ري
سيكاه = المقام الثالث = مي نصف b
جهاركاه= المقام الرابع = فا
بنجكاه = المقام الخامس غيره العرب إلى "نـَوَى" = صول
ششكاه = المقام السادس غيره العرب إلى "حسيني" = لا
هفتكاه = المقام السابع غيره العرب إلى "أوج" = سي نصف b
الكردان = جواب الراست = دو بأوكتاف أعلى
بوسليك= مي
حجاز = فا #
عجم = لا #
نهفت = سي
المقامات الموسيقية هي بمثابة السلالم الموسيقية، غير أنها تختلف عن تلك الغربية بعدم التزامها بالأبعاد الصوتية (كما في السلم الموسيقي الصغير والكبير)، بقدر التزامها بالحفاظ على الطابع. كان المقام الموسيقي في الأصل يتكون من جنس واحد مكون من أربعة أصوات متتالية، وعندما تدرج الموسيقيون في توسيعه وصل إلى سبعة أصوات، وأضيف إليه جواب الصوت الأول، فأصبح بثمانية أصوات، وهو ما يعبر عنه بالأوكتاف. وعليه أصبح المقام مكوناً من جنسين يمكن أن يكونا إما متصلين (أي أن تكون النغمة الرابعة من الجنس الأول والأولى من الجنس الثاني مشتركة) أو منفصلين، بحيث يفصل الجنس الأول عن الثاني مسافة صوتية واحدة تسمى "البعد الطنيني".
كل مقام من المقامات الشرقية يسمى باسم النغمة التي يبدأ بها عادة، حيث تبنى الألحان على هذه المقامات، ويستقر اللحن في نهايته على النغمة التي يبدأ بها المقام. ومن الضروري أن نذكر هنا أيضاً أن الكروماتيكية غير مستخدمة في الموسيقى الشرقية، وهو السلم الغربي المبني عل نغمات يفصل بين كل اثنتين منها نصف مسافة صوتية.
* مجموعة المقامات الشرقية المشابهة للسلالم الغربية:
1) مجموعة من المقامات الشرقية المرادفة للسلم الموسيقي الغربي الكبير (Major)، وهي : مقام العجم ،مقام الجهاركاه (ويستعمل مقام الجهاركاه في شمال إفريقيا ولكن تحذف علامتين وبهذا يأخذ طبع السلّم)، الخماسي (ويسمّونه المزموم)، ومقام عجم عشيران.
2) مجموعة المقامات الشرقية المشابهة للسلم الغربي الصغير (Minor )، وهي: مقام نهاوند (يسمى في إيران أصفهان)،مقام البوسليك (محير سيكاه)، مقام العشّاق المصري، مقام نهاوند المرصّع، مقام فرح فزا، ومقام سلطان يكاه.
*المقامات المرادفة للسلم الدياتونيكي:
هي مقامات شرقية يمكن للآلات الغربية أن تعزفها، وتتمثل في: مقام الكرد ، مقام حجاز كار كرد، مقام نواأثر، مقام النكريز، مقام حجاز كار، ومقام شدّ عربان.
*المقامات الشرقية المحتوية على المسافة الصوتية نصف b (أو ثلاثة أرباع الدرجة الصوتية):
وهي مقامات تعجز معظم الآلات الغربية عن عزفها:
مقام الراست وفروعه: يسمّى مقام الراست في مرّاكش استهلال، وفي تونس يسمّى راست الذيل. في تركيّا يـُعزف الراست على درجة موسيقيّة بمسافة عقد تحت القرار، ويسمّونه الرهاوي. إذاعـُزف الراست على درجه أعلى من القرار (واحد أكتاف) فإنه يسمّى راست كردان. وفروع الراست هي: مقام سوزناك، مقام النيروز ومقامم الدرنيشين.
مقام البيات و مشتقاته: مقام بياتي، مقام عشّاق (في تونس يعرف هذا المقام بالحسين عجم)، مقام صبا، ومقام الحسين (مؤلف من ثلاثة عقود بيات).
* المقامات أندلسية الأصل:
مقام رمل المايّه (يشبه مقام بيات محير، يضاف إليه مقام المزموم)، مقام الرمل (أحد مقامات الحجاز)، مقام السيكاه، مقام الهزام ومقام العراق.