التاريخ لا يخطه المتخاذلون، بل يحركه الرجال الرابضون على حافة الغضب وزلزلة المجد الذين أحبوا أوطانهم، وإن كان قدرهم أن يذهبوا أجساداً، فإن نضالهم ومبادئهم تظل بيننا بوصلة لا تخطئ الاتجاه. فالمنطقة العربية تعيش هذه الأيام مفارقات غريبة وغريبة، تتغير معها المفاهيم والبديهيات التي سادت لقرون فعدو الأمس يصبح صديق اليوم ومصاصو دماء الشعوب أضحوا حماة حريتها والعربي يكيد للعربي عبر مؤسسات عربية ويمنح الشرعية لأساطيل وطائرات المستعمر القديم الجديد لمهاجمة بلد أو بلدان عربية والجامعة العربية تنسق مع خصوم الأمة العربية... وهنا يطرح سؤال وبإلحاح:
هل العرب وعبر آلاف السنين لتاريخهم والقرون العديدة لعراقتهم لم ينضجوا بعد لإدارة شؤونهم؟! ووضع الحلول لأزماتهم؟! هل مازالوا بحاجة لولاة على أمورهم؟!...
وبكلمة أخرى، هل العرب أطفال سياسة واقتصاد واجتماع ويجهلون حقائق التاريخ والجغرافيا؟!.
لم يصل وطننا العربي في أي زمن مضى إلى هذه الحالة المزرية التي وصل إليها الآن، ومن المضحك المبكي أن كثيرين فيه يعتقدون أن العالم العربي يعيش زهو ربيع ثورات ملونة بالورود والأحلام... للأسف، ربيع معلق بحبال الأوهام التي ربطته أمريكا وإسرائيل بأعناق رجال الفتاوى الذين يتجرؤون على الله بإصدار فتاوى تحل للمسلم من جماعة السواطير بقتل أي مسلم آخر يقول بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله... لأنه لا يقول قولهم في القتل والدم والتفجير وتخريب الأوطان. فالعالم العربي، كان ذات يوم عالم الرسالات السماوية، والأخلاق، والقيم، والتسامح، والعلم، للأسف بات اليوم عالم حرق المشافي، والمستوصفات، وتدمير المدارس، ومحطات الكهرباء، وتخريب أنابيب مياه الشرب، والنفط.
فالرجعية العربية المتمثلة اليوم بمستواها الرسمي بممالك وإمارات ومشيخات الخليج، لا تجيد إجراء الحسابات الدقيقة، ولا تعرف من معاني الاستراتيجيا إلا ما يفيدها في مواصلة بيع ثرواتها الطبيعية من النفط والغاز، وما يخدمها في الحفاظ على عروش ملوكها وأمرائها ومشايخها عبر العلاقة التبعية مع واشنطن وبعض عواصم غرب أوروبا، وخارج هذين الشرطين فهي تعمل معصوبة العينين في كل الاتجاهات لمصالح لا يعنيها أين تصب، وأجندات لا يهمها من تستهدف وصفقات لا تعرف الرابح فيها من الخاسر، وهي من أجل ذلك تستبسل في التحريض على التغيير في المنطقة، وتمويل هذا التغيير طالما أن المطلب الأميركي ينحو هذا المنحى، وطالما أن تيارات الإسلام السياسي المتصالحة مع الغرب الاستعماري هي التي تحتل المشهد في ساحات التغيير الصاخبة في أكثر من عاصمة عربية!.
قد أتفق مع دوائر أصحاب القرار في أميركا وأوروبا على مصطلح الفوضى الخلاقة ولكن الواضح والبديهي أنها خلاقة لصالح أعداء الأمة وفي مقدمتهم إسرائيل.
أليست إسرائيل في حالة إخاء واطمئنان الآن وهي ترى المجتمعات العربية تسقط دولها واحدة تلو الأخرى، وتتحول هذه الدول إلى قبائل وعشائر وطوائف وأعراق متناحرة؟!
أليست سعيدة أنه ومن أجل إعادة بناء ما نهدمه بأيدينا سنحتاج إلى عقود وعقود من الزمن لإعادة بنائه؟! ألم نحقق ما كانت تحلم به من أن يتحول صراعنا معها إلى صراع بين الكتل البشرية التي تسكن هذه المنطقة وعلى أسس مختلفة عرقية ومذهبية وطائفية؟!
ألا يعني ذلك كله كسراً لإرادة مرتهنة للقوى الكبرى وحليفتها إسرائيل؟...
وكل ذلك وما يؤدي إليه من تقسيم للكعكة العربية بين أقوياء هذا العالم أعداء أمتنا أميركا وبريطانيا وفرنسا الذين أنشؤوا إسرائيل، أبادوا شعب فلسطين والذين أصبحوا بين ليلة وضحاها مفجرين لثورات شعوبها، حماة لحريتها، ملهمين لآمالها ومستقبلها لدرجة أن مجالس قيادات هذه الثورات تدار في دهاليز أجهزة مخابرات هذه الدول.
فدون أدنى شك إن المنطقة العربية مستهدفة لإعادة تركيب جغرافيتها عبر حروب ديمغرافية، تستهدف هويتها الجامعة وعصبها الحساس ممثلاً بالجامع القومي والفكر القومي، ولهذا فمشروع ''الشرق الأوسط الجديد أو الكبير'' ليس سوى عملية بتر العصب الجامع من الماء إلى الماء.
نحن نعيش اليوم في مرحلة عربية تندثر بها مصطلحات ومفاهيم الوحدة العربية في مستواها الرسمي الحاكم، أما الشعوب العربية فما زالت تنشدها في روح الإحساس بالمصير المشترك، ونشاهد كيف يضمحل العمل العربي المشترك، والدفاع والأمن العربي المشترك، لتطلُّ برؤوسها مصطلحات الأمركة والفرنسة ونعود إلى التتريك، ولتطل ''الأسرلة والصهينة'' مقدمات بديل العروبة والجامع القومي، ونرى بأم أعيننا سموم النسق الدولي المهيمن، في أشباح التتطييف والتمذهب والصراع الهوياتي والإثني بديلاً منها، وعموم المشاريع الخبيثة والمخططات الشريرة خدمةً لعيون ''إسرائيل''.
نتفهم أولاً أجواء التهييج وبث الثقافات المعادية والتضليل الفضائي الإعلامي من مراكز متخصصة إسرائيلية وأميركية وغربية عموماً، التهييج المصمم من أجهزة متخصصة وتأتي على شكل أخبار وآراء وأفكار وتحليلات، تقترن بالتحريض الإشكالي للديمغرافية الشرق أوسطية، التي طالما استخدمها العقل الأميركي والإسرائيلي خدمة لثنائية المصالح الامبريالية في المنطقة ممثلةً بمكامن النفط واحتياطاته العالمية وإسرائيل. نتفهم هذا الاستهداف باعتباره محاولة لتفكيك أي منظومة عربية إقليمية ترفض المخططات المرسومة ضد المنطقة، ونتفهمه ثانياً لأنه امتداد تاريخي لصيغة مخطط سايكس ـ بيكو ومعهما وعد بلفور، وهو اليوم في صيغة معاصرة للسيطرة على اقتصادات المنطقة وبخاصةً الطاقة وثرواتها الهائلة ذات التأثير الكبير على الاقتصادات العالمية. نتفهمه من الضواري، ولكن لا يمكننا أن نتفهمه من التوابع الناطقين بالعربية، وكيف يأخذ تضليلهم الإعلامي وبإسم الدين أشكالاً سياسية و''فقهية'' بالمعنى الطائفي والمذهبي، وكيف يحاولون اصطناع هوية طائفية مذهبية للدولة العربية والإسلامية عموماً، بعيداً عن مضمون الحداثة وقيم المواطنة والتنوع والتعدد، وكيف ''يفترضون'' صراعات وأعداء بتوظيفات تاريخية، عبر بث إيديولوجيات قهرية لهذا الهدف، نحو تسويغ مخاضات دموية وهابية إرهابية سوداء، وقد فشلت ومعها أهدافها حيث ولدت، لأن الإرهاب هو نتاج أفكار سوداء ويواجه بعمق وعي الناس ويقظتهم الكاملة.
نحن في زمن لا أجد له تسمية تستوعب كل شروره، في التاريخ العربي مرحلة أطلق عليها العرب مرحلة الانحطاط... أنا على يقين أن مرحلة الانحطاط التي عاشها العرب في زمن الدويلات لم تصل بنا إلى هذا المستوى الذي يعيشه العالم العربي اليوم، لم يصل سفك الدم العربي على يد العرب أنفسهم إلى هذا الحد. لم تنتشر فيه مفاهيم التكفير إلى هذا الوضع الذي نعيشه، ولم تستيقظ الطائفية والمذهبية والإثنية كما استيقظت اليوم، ولم يتفكك الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي، والاقتصادي كما هو مفكك في هذه الآونة، والأكثر خطورة في كل ذلك لم يصل العرب إلى هذه المرحلة من الدونية، والانجرار خلف الدول المعادية للعرب والعروبة والإسلام كما هم اليوم خلف أميركا والغرب، وخلف الصهيونية العالمية التي تستهدف الإسلام والمسلمين أرضاً ومقدرات ثقافية واجتماعية واقتصادية، للوصول بالعرب إلى مرحلة التلاشي، ومن ثم الموت والاندثار كأمة لا أريد أن أكون متشائماً، ولكن الواقع الراهن بكل وجوهه المزرية، يواجهنا، يدفع بنا إلى أن نقر بما هو قائم، لا أن نطمر رؤوسنا.
وعلى سيرة التاريخ ثمة مؤرخون إسرائيليون جدد راحوا يعيدون كتابة تاريخ ''إسرائيل'' وتحدثوا عن الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني وكيف زورت ''إسرائيل'' تاريخ هذا الشعب، وسجلوا حقيقة هذا الكيان العنصري. وأميركا بدورها تريد أن تزور التاريخ على هواها، وأن تبيّض تاريخها الأسود الذي لا يقل سوءاً عن تاريخ هتلر. فمن الذي زور قضية أسلحة التدمير الشامل التي لفقت للعراق فدمرته وقتلت مئات الآلاف من العراقيين، وهي التي خلقت الإرهاب في العالم لتتدخل في شؤون الدول بذريعة محاربته، وكذبة الديمقراطية وحقوق الإنسان، ودوماً كانت الأخبار الكاذبة هي مفاتيح تخريبها للدول وقتل شعوبها، فقطعت أوصال يوغسلافيا، والخبر الكاذب كان في أساس الثورات المخملية، وكذلك في تدمير ليبيا وتدمير صربيا قبل 13 عاماً وسلخ كوسوفو عنها.
ولترجمة ما أوردناه حول مخططات النسق المهيمن، أي أولئك القراصنة الذين يرفعون رايات حقوق الإنسان، نورد مختصراً ما نشره مؤخراً معهد ''فورين بوليسي أن فوكس'' الأميركي للأبحاث، ما اعتبره الخبير في السياسة الأميركية الخارجية أميركية ''بول ماتر''، أن تقرير شركات الطاقة في العراق» ''يذكرنا بواحد من أهم الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة لاجتياح واحتلال العراق، حيث يعتبر ''النفط الدافع الأكبر لدى المحافظين الجدد''، لافتاً النظر إلى أن النفط هو الأمر الرئيسي لفرض الحرب على العراق، وأن الأمر بدأ مبكراً في أروقة الشركات المتعددة الجنسيات ومؤسساتها الفكرية، ونحو تهيئة الرأي العام، مؤكداً أن احتياطيات الطاقة العراقية تمثل الأصول الرئيسية التي تضيف قدرات كبيرة ـ أي للهيمنة ـ، موضحاً أن وزير الخزانة الأميركية السابق ''بول أونيل''، اتهم نائب الرئيس الأميركي السابق ''ديك تشيني'' بتحريض واشنطن على غزو العراق، حتى قبل الهجمات الإرهابية في 11 أيلول، كاشفاً عن وثيقة وطنية تؤكد التخطيط المبكر للاحتلال، وأنها وثيقة سرية للغاية وضعها مجلس الأمن القومي الأميركي، بهدف اتخاذ إجراءات جديدة تسمح بالاستيلاء على مصادر النفط وحقول الغاز العراقية، وقال: ''لقد تعاملنا مع دول شرق آسيا التي تأخذ النفط، كما تعاملنا مع سياسة إيران من ايزنهاور إلى كارتر، ودعونا لا ننسى خطة التهافت على ليبيا، وهذا يعني أن على الولايات المتحدة مواجهة الأسنان الأوروبية لتقديم تنازلات إضافية'' مضيفاً: إنه من المفارقة بعد سنوات من الاحتلال (العراق) أن تكون الصين هي الدولة التي تنتظرنا في العراق، إذ يبدو أننا فتحنا الأسواق لنجد أنفسنا في دائرة التنافس''.
علماً أن تقرير صندوق النقد الدولي بشأن النفط والغاز قد أشار إلى أن ما يمتلكه العراق من النفط، بلغ (143) مليار برميل كاحتياطي، وتم تحديد (200) مليون برميل غيرها، وأن العراق سيكون في مقدمة الدول النفطية المؤثرة في الأسواق العالمية.
على جانب آخر من التقارير العالمية، هو ما يتعلق بالتضليل الإعلامي من النسق المهيمن، ووضع المنطقة في دائرة التسخين الداخلي، والمراقبون المتخصصون الذين يرصدون أدبيات وسائل الإعلام الأميركية والغربية، يرون أن أكثر من 65 بالمائة من الأخبار والتحاليل والمعلومات لها علاقة بمنطقة الشرق الأوسط، باعتبارها منطقة أزمة دائمة، وبالتأكيد لا يدرجون موضوع الاحتلال الصهيوني والتدخلات الأميركية، فالمطلوب بالاستهداف هو تحويلها إلى أكثر الجغرافيات تعرضاً لتوصيفات إشكالية بنيوية، وتحويل ثقافة مكوناتها إلى ثقافات ''عدوانية داخلية'' إيديولوجياً وعقائدياً، وهنا تندرج بالجملة ثقافة الإمّعات (بكسر الهمزة والتشديد على الميم) من العربان من التوابع للأمركة بوصفها مرجعية، وذلك بهدف وضع مجتمعاتها في أجواء الهيجان الصاخب تحت التأثير والمواجهة، وجعلها ميداناً لصراعات تفتيتية داخلية معقدة، تسهل على إسرائيل هيمنتها، بانتقالها من العدو الرئيسي إلى مكان آخر، فالعدو هو الآخر المذهبي بعينه، وذلك تمريراً وخدمةً لمصالح الضواري العابرة للقارات.
هكذا يلعب التضليل الإعلامي وبالتفاصيل اليومية، دور الجزء الأساسي في المرجعية الأميركية، فضلاً عن كونه جزءاً أساسياً من الإستراتيجية الصهيونية، والأخير واضح وجلي ويمارس يومياً باعتباره وسيلة تحقق أهدافه، تفوَّق بها على التضليل النازي الذي ابتكره ''غوبلز'' وأجاد استخدامه.
وهذا ما يفسر أيضاً الحملات الإعلامية المغرضة والمسمومة لفضائيات التوابع بعينها، وهي تخاطب اللاوعي الجمعي الطائفي والمذهبي، وتحويله إلى صراعات ''فقهية'' لكل مَنْ ''تفيقه'' وأطلق لحيته وحفّ شاربه، ''فقهية'' تهدد الوجود والمعنى والقيم حين تحول السياسة إلى أوهام مذهبية، في سياق الصناعة الأميركية لـ''العدو''، وضمن منظومة تأثير التوظيفات في الجمهور المستهدف بايديولوجيات قهرية، ذاتها تعاني من فوبيا التاريخ، في عملية مستحيلة لتحويلها إلى مرجعيات ومعضلات إشكالية تمس السياسة والاجتماع والاقتصاد والأمن بما فيه مفهوم المواطنة والحداثة والتعدد، أي ضرب المنطقة العربية ذاتها في صميم وحدتها الشعبية وفي صميم الجامع المشترك.
حقيقةً كان تحوّل الرأسمالية الغربية الى امبريالية متوحّشة متجلياً بصورة مقرفة في الواقع العربي منذ رعاية هذا التحول لمشيخات البترودولار، وكانت وضاعة الغرب مثيرة للتقزّز أمام المال العربي ما سهّل التمادي في تبديد الثروات والطاقات، فلا تغيب عن الأذهان صورة ''برلسكوني'' وهو يقبّل يد القذافي، ويحضر مؤتمر القمة العربية في سرت نائماً، ولا صورة الأمريكي وهو يراقص آل سعود في مهرجان الجنادرية ويعبثان سوية بالسيف العربي...، ولا جهود ''أوباما'' في رحلته المضنية الى الهند وحواره الشاق مع حكومتها ليظفر بعقد بيع أسلحة قيمته 4.7 مليار دولار، بينما يتقدّم آل سعود إليه بأريحية بعقد 60 مليار دولار، ولا لهاث حكام قطر لإدماج إسرائيل ـ حاضنته ـ في الشرق الأوسط الجديد. إنه تكامل الأدوار القذرة بين الرجعية ووحشية الامبريالية الجديدة.
لكن المؤسف فعلاً أن تسمح الظروف بتورّم حكام الرجعية وانتفاشها، فيتصدون لقيادة العمل العربي المشترك، ولتبؤ دور فاعل بل أساسي في زمن عربي جديد يتهافت فيه النظام الرسمي العربي، وكذلك بعض النخب، أمام البترودولار.
في الممارسة العملية نرى كيف تصطنع الأمركة أسواقاً لتغذية سوق السلاح، فهو نتاج تحريض على ''العدو الموهوم'' بدلاً من الحقيقي، نحو حروب تدمر الجغرافيا والديموغرافيا معاً، فهل يعتقد أحد أن التسليح الأميركي الباهظ للعرب هو دفاع عن الأوطان والحقوق بوجه التمادي والهيمنة الصهيونية! أو أنه دفاع عن جوهر العقائد الإسلامية والمسيحية ومن أجل القدس والتي يجتاحها التهويد، ولعل صفقات الأسلحة الأميركية للمملكة السعودية خير دليل على ذلك، بتزويدها بطائرات (إف 15) الإستراتيجية وبمبلغ 39 مليار دولار، وقد لخصت الإدارة الأميركية ذاتها هدفها، فهي ''ستعمل على إيجاد أكثر من 150 ألف فرصة عمل'' في سوق البطالة الأميركية، وهذا التسليح موجه إلى سوق العداوة الإسرائيلية ـ الإيرانية، وباعتبار إيران تمثل الخط الساخن إزاء إسرائيل، وهي تعتبرها العدو الرئيسي في المنطقة.
بين 150 ألف فرصة عمل أميركية وبين القدس التي تتعرض لمسح ومسّ هوياتي تاريخي وثقافي وأخلاقي، برموزها المهمة الإسلامية والمسيحية، وبتهديد أكثر من 150 ألف فلسطيني هم آخر مَنْ تبقى بها، باقتلاعهم من ديارهم التاريخية، تتطوف وتتمذهب مهزلة وسخرية ومأساة ومفارقات عربية وإسلامية على أرض المحك الميداني والعملي!
وهكذا تتحول الرجعية العربية الى الطور الامبريالي وهي تمتد وترنو ليكون مجلس التعاون الخليجي هو الوطن العربي كله، ولتكون النظم الرسمية العربية الجديدة أسيرة مخاطر الدعم المالي الخليجي حتى يستقيم أَودها بعد أن تنمو وتتطور على الرضاعة من الثدي الرجعي الأطلسي. وتبقى قضايا أساسية وطنية وعربية مؤجّلة لمرحلة ما بعد التدجين.
فأي مستقبل ينتظر الحقوق والأجيال العربية؟!، ولا سيما حين تُصادر التطلعات المشروعة في المشهد الاحتجاجي العربي بقرار قطري سعودي يستلب الآمال والآفاق!
ومعروف أن قطر منذ 1995 تستقبل قطعاً من القوات الجوية المكلفة مراقبة منطقة حظر الطيران في جنوب العراق، وتحولت في التسعينيات إلى أكبر مخازن الأسلحة والعتاد الأمريكي في المنطقة، وبنت قطر على نفقتها مجمعاً يضم سبعة وعشرين مبنىً لتخزين الآليات والقوات الأميركية استعداداً للعدوان على العراق. وفي قطر أهم بنية تحتية عسكرية أميركية في المنطقة، وقد انتقل المقر العملياتي للقوات الخاصة التابعة للقيادة العسكرية المركزية الأميركية للمنطقة الوسطى إلى قاعدة السيلية القطرية عام 2001. وقد جرت عملية نقل المقر الميداني حسب الكاتب الأميركي ''وليم أركن'' تحت ستار التمرين العسكري (نظرة داخلية) الذي كان في الواقع تدريباً على خطة قيادة العدوان على العراق. وكانت القيادة الجوية للقيادة العسكرية المركزية الأميركية CentCom قد انتقلت من السعودية إلى قطر بين 2002 و2003 ومقرها قاعدة العيديد الجوية التي تضم أطول وأفخم المدرجات في المنطقة. ويقول ''أركن'' أن قطر أنفقت أكثر من أربعمائة مليون دولار لتحديث عدة قواعد مثل العيديد وغيرها بمقابل الحماية العسكرية الأميركية للدولة الخليجية.
أما في السعودية وفق الكاتب نفسه فإن قاعدة الأمير سلطان الجوية في الخرج كانت خلال السنوات الماضية مركز قيادة القوات الأميركية في السعودية والمنطقة مع انخفاض أهميتها كثيراً بعد بناء القاعدة الأميركية في قطر واحتلال العراق. وقد كانت تلك القاعدة المنصة الرئيسية للإشراف على منطقة حظر الطيران جنوبي العراق، ثم تحولت إلى إحدى منصات غزو أفغانستان ثم العراق.
القواعد الأخرى التي تستخدمها أميركا في السعودية بانتظام في الظهران والرياض وفي خميس مشيط وتبوك والطائف، ومع أن الوجود العسكري الأميركي المباشر تقلص كثيراً بعد آب 2003، مقارنةً بما كان عليه عام 1990 فإن عناصر مهمة منه ما زالت حتى الآن على الأرض. والغريب أن هذه القواعد الأميركية يطلق عليها أسماء الملوك والأمراء! مثل قاعدة الملك خالد وقاعدة الملك فهد وقواعد بأسماء غيرهما.
في الأوقات الراهنة، أقرأ في الصحافة والإعلام الغربي، وأرى الكم الهائل من الأذيات البادية على شكل برقيات وطلبات ورجاءات وتوسلات عربية خليجية رخيصة ومهينة... لكي يستخدم هؤلاء الحكام قوّتهم وهمجيتهم للخلاص من بعض الحكومات العربية، إنها ـ ويا للأسف ـ برقيات يومية طافحة بالمذلة، والضعف المخجل استحلافاً لحكام الغرب لكي يحتلوا البلاد العربية مرة أخرى... وهنا يتبدى أمران، الأول هو صراحة الغربي وكشفه للأسرار العربية من أجل الإمعان في إذلال بعض العرب، والثاني هو الرخص الشديد لسلوك بعض حكام العرب، وتفاهة التفكير الأسود الذي وقعوا في شباكه!
في المضمون فإن الرجعية العربية في كل ما حصل قامرت بكل رصيدها دفعة واحدة، دون أن تعلم أن رياح التغيير التي هبت على المنطقة، كيفما كان تقييمنا لها سوف لن تتوقف عند حدود رمال الربع الخالي، وأن العدوى التي انتشرت شرقاً وغرباً في المنطقة العربية لن تستثني عرب الخليج، الذين هم الأحوج والأكثر عطشاً للتغيير مادامت طواقمهم الحاكمة هي الأكثر جهلاً واستبداداً بين كل المقامات العربية الحاكمة، ومادامت الثروة الخليجية تتبدد من وراء ظهور المواطنين الخليجيين لتبتلعها مصارف نيويورك ولندن وباريس وصفقات السلاح التي لا تعدو كونها مظهراً من مظاهر الوجاهة الفارغة التي تفتقر إلى أي معنى حربي على أرض الواقع.
وهنا أسأل: هل لنا غير تاريخنا وكرامتنا، وعقائدنا، ومبادئنا، وثباتنا، وقوّتنا الذاتيّة، ومحبتنا، ووطنيتنا... من مخلّص؟!
لا أظن، ولا أرتجي. لذلك نحن ـ كافة القوى الوطنية والعروبية ـ مطالبون اليوم بجهود نوعية، نتجاوز فيها حالة ما يشبه الانكفاء. وجماهيرنا العريضة الواسعة على امتداد ساحات الوطن والأمة تنتظر جاهزةً، وقد تتجاوزنا. فهي لن ترض أبداً بهذا العبث الطالع... ولا بالتكاذب والنفاق الرجعي. فالأحرار العرب والقوميون، والمستنيرون من رجال السياسة والفكر والدين لن يستسلموا، ولن يسلّموا مصائر الأوطان والأمة للصغار، ولا لأصدقاء أمريكا وإسرائيل من هؤلاء الدُمى الذين يبددون ثروات الأمة، والذين لا أفق لهم إلا في الدائرة الرجعية الامبريالية الصهيونية التي خبرتها الشعوب الحيّة في كافة أرجاء الأرض، وهي تستعد اليوم وتتشكّل من جديد لمناضلتها.
فقليل من الصبر، وكثيرٌ من العمل والنصر حليفنا ـ منطقياً ـ لا محالة.