أرخى لجام أفكاره، وأسند رأسه إلى حائط حجرته بعد أن ارتفع بجسده عن الفراش الذي كان راقداً فيه طوال الليل، فشعر بلسعات البرد تقرص رأسه من الحائط المتجمد من شدة الصقيع الذي يعصف في الخارج، استغرق منشغلاً بعراك أفكاره فغاب عمّا يحيط به من أشياء، وتلاشى إحساسه بالبرد. كان حائراً أشد الحيرة، ماذا يفعل بمشكلته؟ فقد تردَّت أحواله المادية بسبب فقده لعمله، فثقلت عليه الحياة حتى ملَّها، وغُلِّقت الأبواب في طريقه حتى فقد الأمل في العثور على مفاتيحها، فخيل إليه أنه أمام مشكلة بلا حل.
تساءل إن كان العيب فيه، ولغبائه فرَّت من قبضته الحيل، وتوشحت الحلول عن ناظرَيه، ثم تذكَّر أن أباه كان يلقبه دائمًا بالفاشل، فوجد في ذلك إجابة عن تساؤله، لكنه سرعان ما أبدا امتعاضه الشديد من وصف والده له بالفشل، فاستبعد هذه الفكرة، وبدأ يبحث عن مبرر آخر ليلقي باللائمة عليه، ويحمِّله سبب فقدانه عمله في شركة التبغ، فتساءل مرة أخرى إن كان من الأفضل ألا يستجيب لمطلب رئيس الورشة التي كان يعمل بها، فيشاركه في سرقة كمية من التبغ، أم أن المشكلة تكمن في سوء حظه، فلو لم تكتشف لجنة الرقابة هذا الأمر، لاستطاع أن يجني المال الوفير من بيع التبغ المسروق .. أكد لنفسه من جديد أنه ليس رجلاً فاشلاً، بل المشكة الحقيقية أنه لا يمتلك حظًا سعيداً، ثم أخذ يمرر عينيهِ في جسد الحجرة، محملقاً بزواياها، فلا يرى فيها غير الأشباح البشرية، تنام في كل شبر منها، فذكرته حجرته بالخندق الذي قضى به خدمته العسكرية قبل ثمانية عشر عامًا، فقد عمَّت الفوضى أرجاءها التي يخبو منها الرجا، وتسلل العفن إلى جدرانها المتسخة بالشخابير التي يحدثها الأطفال، بل حط العنكبوت رحاله في زواياها، وشيد مصائده بدونِ استئذان، وبكل وقاحة راح يزاول عمله المعتاد، دون أن يستحي من صاحب الحجرة وهو الجاثم من غير عمل. وما هي إلا برهة صغيرة حتى سمع زوجته بالقرب منه، تهمس له وتستفسر عن سبب استيقاظه في هذه الساعة، فلا يزال الوقت مبكرًا على طلوع الشمس؟!. نظر إليها مستغرباً وهو يسأل نفسه كيف استيقظت؟ لم يصدر منه أي صوت، بل كان متجمداً في مكانه كالتمثال، فخطر ببالهِ فكرة غريبة، وهي أن زوجته قد سمعت صوت أفكاره .. لكنه استدرك ذلك بالسخرية من نفسه، وأكد أنّ هذا الأمر مستحيل وغير معقول، فاستبعد هذه الفكرة، لكنه ما لبث أن عاد ليحدث نفسه من جديد:
وماذا لو كانت هذه الفكرة صحيحة؟! ماذا لو أن زوجتي حقاً تستطيع أن تسمع صوت أفكاري ..؟
لا شك بأنها ستكون مصيبةً كبرى؛ فالنساء ـ برأيه ـ لا تودَع الأسرار، بل إنها بذلك ستعرف جميع أسراره التي يخفيها عنها. إنه يعني بالتحديد أهم أسراره، وهو أنه قد تزوج منها مرغماً، إذ على الرّغم من كرهه الشديد لها، وعدم رغبته في الاقتران بها، فإن والده كان قد أجبره على فعل ذلك بسبب صلة القرابة بينهما، هذا بالإضافة إلى أنه لم يدفع من مهرها قرشًا واحدًا، فلم يشترط أهلها عليه شيئًا، ولو فعلوا ذلك لما تزوجها.
سمع صوت زوجته من جديد وهي تقول له:
ما بك ألم تسمعني؟! سألتك عن سبب استيقاظك في مثل هذا الوقت.
فقطع سلسلة أفكاره في هذه الأثناء وأجابها مغضباً:
إنني أفكر بحل يخرجنا من هذه التعاسة التي نعشيها.
لكن زوجته عادت لتسأله مرة أخرى:
وهل وجدت حلاً؟
فأجابها:
لا!
فقالت له بسخرية شديدة:
إذاً أنصحك أن تنام؛
لتذهب مبكراً للبحث عن عمل في المدينة، أم نسيت أنه يتوجب عليك ملء أفواه سبعة
أفراد: بناتك الخمسة، وأنا، وأنت؟!.
كانت كلمات زوجته الساخرة تثير في نفسه الاشمئزاز، فشعر بضيق شديد يكاد يخنقه، وأحس بأن عائلتهُ كالديدان التي تتطفل على جسده. كان يقول في نفسه:
لو ولدت لي هذه الزوجة الثرثارة ذكوراً، لأعانوني في كسب العيش. ولو امتلكت المال، لما تأخرت برهة عن تزوج امرأة أخرى، تنجب لي الذكور، بدلاً من هذه الثرثارة المزعجة، التي لا تلد غير الإناث.
مرَّت عليه ساعات وهو على هذه الحال دون أن يستطيع النوم،
حتى أشرقت الشمس، فنهض من فراشه متململاً، ارتدى ثياب العمل على عجل، ودون أن
يتناول الإفطار خرج من كوخه القديم ـ المكون من حجرة، ومطبخ صغير، مسقوف بالصفيح
المهترئ ـ وسار ببطء إلى موقف الحافلات، وهو يلف سيجارته بإحكام شديد، متفنناً في
تدوير أطرافها وتهذيبها. وعلى الرغم من أن تبغها كان من أرخص الأنواع وأردئها،
فإنه ضغط عليها بين شفتيه، وأخذ يتذوق نكهتها بشغف، والأمل يحدوه أن يجد حلاً
لمشكلته، أو ـ على الأقل ـ أن يجد عملاً في هذا اليوم الرطب البارد.
انقضت ساعات النهار الشتوي بسرعة شديدة، وسقطت الشمس في وكرها، وأسدل الليل ستائره، كانت الزوجة تحدث نفسها فتقول:
لا بد أنه قد وجد عملاً، وإلا لما تأخر هذا اليوم!
وما هي إلا لحظات وتعقبها لحظات، حتى قرع الباب ... أسرعت إيمان ـ البنت
الكبرى، التي تبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا؛ لترى من في الباب، فكان والدها، لكنه
لم يكن وحيدًا، بل أحضر معه ضيوفاً! أوعز إلى ابنته لتخبر والدتها، ودخل الضيوف إلى
الحجرة المتهلهلة، ذات الأثاث القديم، في الوقت الذي أسرعت فيه الزوجة وبناتها إلى
حجرة المطبخ الصغيرة، كان الضيوف رجلين: أحدهما يعرفهُ الجميع؛ إنه سمسار الحي،
الذي عُرف عنه سعة الذمة، وقلة المروءة، رأس الحكمة لديه عبادة النقود. والآخر شيخ
طاعن في السن، بلحية بيضاء، وجلباب أبيض، وغطاء رأس أبيض، وحذاء أبيض، وحاجبين
بيضاوين كثين سقطا على جفنيه، وبوجه أسمر عاتم، لايبشر بشيء من الخير أو الطيبة
التي يعهدها المرء في وجوه الرجال المسنين .
أغلق الزوج باب الحجرة، وغاص بجدال ونقاش طويلين مع ضيفيه، خرج من بعده إلى عائلته وبيده رزمة من القطع النقدية الخضراء، وفي وجهه بِشرٌ شديد وفرحة، سألته الزوجة وهي تنظر إلى رزمة النقود بتلهف:
بشراك يا رجل هل تعاقدت مع الضيوف من أجل
عمل فأعطوك المال؟.
فأجاب الزوج:
لا، بل وجدت حلاً لما نحن فيه من فقر مدقع، ودين بغيض، لقد
بعنا ... "وتلعثم بكلامه" ... آه ... أقصد زوّجنا إيمان للشيخ أبي جاسم،
صاحب السيارة الفاخرة التي تقف أمام البيت، سيتزوجها وتسافر معه، وبالتأكيد سوف
تكون سعيدة معه في تلك البلاد!.
النهاية

