أوليّات الكتابة الشعرية في " أوراق الوجد الخفية "

2008-07-22

مدخـــــــــــل:

ترمي الورقة إلى تمثل بعض الإشراقات الدلالية وإضاءة البنيات الجمالية الثاوية خلف سواد الكتابة في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " للشاعر المغربي جمال بوطيب . سواد الكتابة التي لا تفيد هنا البعد الغرافي الإيقوني فقط ، بل كذلك - و لزاما - الزوايا الشديدة التعتيم والإلغاز في السيرورات الدلالية المضاعفة التي تفتأ غير مستقرة وعصية على التحديد الجامع، والتي يمكن إضاءتها من خلال البحث في الخصائص الفنية و البنيات الدلالية في الديوان ، و كذا في مناص الإهداء والعنوان، باعتبارهما عتبة / عتمة أولى تنم عن رغبة فاضحة للشاعر في //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/0e5e3e01-5722-4da1-8667-2515de4195b8.jpeg توريط قارئه " في لعبة المرايا اللا متناهية " واستدراجه بخبث الشعراء وغوايتهم المعتمدة كلاما مرقشا إلى عوالم التخييل.

 

I- العـــــــــنـــوان : مرآة دلالية مخاتــــــــــــــــــلة

 

محور ملفوظات العنوان الثلاثة هي كلمة الوجد بمعانيها الحافة في الإشراق الصوفي والمنبثقة من منجز الشعر العربي في شق غزله العذري، والتي تجتمع ومصطلحات متقاربة : كالود والخلة والهوى والتتيم و الكلف والجوى والشجو والتدليه والعشق ... وغيرها .

وهو اقتراب يعيه الشاعر،وعي يتجلى في تسييقاتها المختلفة في متن القصائد ،بخاصة لفظة "الوجـــــد" .

يقول في قصيدة " شمس أبي " :

" لو طرقت سنينا

ما فتحت لك باب

ولا قلب

ولا عادت نجوم الأمس

تبحث عن وجد مورى " / الديوان ص : 41/

 

تـؤكد بنية النفي المطردة في هذه الأسطر شدة الحرقة والمكابدة النفسيين ،وهي حرقة حافة بالوجد بقصائد الديوان بخاصة أوراق الوجد الخمسة .

والحقيقة أن القارئ لا يلفى صعوبة في تفسير هذا التماثل؛ الذي تتضمنه آخرالأسطر السالفة،بين الوجد المورى وعنوان الديوان : "أوراق الوجد الخفية " ، إذا ما علم أن" شمس أبى" كانت عنوانا أصليا للديوان قبل أن يغيره الشاعر ؛بالرغم من أنه _أي الشاعر - ظل وفيا للرؤيا نفسها التي تحكمت فيه أوتحكم فيها حينما انتقى عنوان ديوانه ،وهو انتخاب له ما يبرره إذا ما تم تحليل " المركب الإضافي الموصوف : الصيغة التركيبية للعنوان .

فالأوراق تشير إلى سند الكتابة وإلى جنس المكتوب " شعر " بدليل العبارة التجنيسية ، والوجد يدقق القصد من الأوراق : التعبير عن حب مزيج بحزن ومشقة ، أما الخفية فتحدد طبيعة الوجد وميسمه: وجد خفي لا ظاهر، فكيف يتمظهر الوجـــد الخفي في القصائد الخمس الأولى ؟

II- أوراق الوجــــــــــــــــد الخمس : بعض الأبعاد الدلالية

أبعد التأويلات للفظة الخفي أن يكون هذا الوجد صامتا * , و أقربها - من منظور خاص - أن الصورة البصرية / السمعية " أوراق الوجد الخفية " تشير إلى مشاعر عَرَضها - بفتح الراء - انتقاد حاقد وجَوْهرها حب واحتفاء عميقين , احتفاء بالمكان وبشعراء وكتاب وأصدقاء قضوا وآخرون لا يزالون قيد الكتابة ، وهو ما يمكن تلقفه من إهداء الديوان يقول الشاعر " ضدا على كل الموقنين بسطوة الزمان ومديحا لجلال المكان و احتفاء بغياباتنا القسرية نحن مع كل الأحبة إلى بعض مدن الوجد العربي" / إهداء الديوان الموسوم ب : إضاءة " .

إن الشاعر يضع متلقيه أمام تقابل بين سطوة الزمن وسلطته القاتلة المؤدية إلى الغياب القسري وبين المكان وعظمته المتمثلة في قيمة معنوية هي" الوجد "، مما جعله يتبوأ عند الشاعر- وبالقياس إلى الزمن - درجة متميزة استحق عبرها فعل المديح. مديح ضمنه الكتاب كثيرا من العتاب الجميل ،عتاب المقة الخالصة والغيرة الطافحة برائع الصبابة لمدن الوجد والحلم معا ، يقول في ورقة :" القاهرة " / بما تتضمنه من دلالات القهر و الخضوع والخنوع والصغار اسم فاعل ومفعول / مجسدا ذلك العتاب :

لا تسألي

ألق السنابل

هزه برق يباغت أمسنا

بغد المحال

والقلب من شرر العيون

تلا السفاهة

والنباهة واستقال . / الديوان ص : 19/

 

ففي الأسطر ما يشي بانهيار القيم الجادة ،وبسيادة ما يصم مدنا صماء إلا من حروب أهلية ،واغتيالات تحصد أرواحا بريئة ، نجد في ورقة وهران ما يحيل إلى ذلك بقوله :

جبهة البحر

زجي بالرسغ

في طرف الصبوة تنتفض

محجات" العربي بن مهيدي"

و " أحمد زبانة

يصادر ماء " سعيدة "

(....)

جبهة البحر يا جبهة البحر

اقبلي الرهان

يزه " عبد القادر " أميرا . / الديوان ص17 /

يمكن التمييز هنا بين بنيتين دلاليتين :

- الأولى : تتحدد بوساطة نداء خال من أداته وهو غالبا مؤشر على الاتصال الوجداني.

- الثانية : مرتبطة بحال الانفصال الوجداني عن المدينة ،إذ يلحظ المتلقي أنه ناداها بالجبهة ،والجبهة مصطلح يحيل إلى الحرب والعنف و لاغتيال .وهو - أي الاغتيال - قيمة يصرح بها الشاعر . بدليل أن الورقة مهداة إلى عبدالقادر علولة المغتال وهو موضوع لها في آن :

يغضب أسدا " لا ميري "

يخرجان من صمت صخرهما

يزأران في وجه خطيئة الحمري

بحثا عن قاتل " علولة" . / الديوان ص .ص : 17-18 /

 

ومن البنية الدلالية الثانية تتضح سلبية الحديث إلى المدينة التي لا تستمتع إلى نداء الشاعر ، فنلفاه يكرر النداء [ جبهة البحر - يا جبهة البحر ( يا لنداء البعيد ) ] .

أما ورقة " فاس " : الورقة الأولى في الديوان ، فالحلول ميسم مهيمن في علاقة الشاعر بها ،وهو الذي كتبها بثلاثة أقلام مختلفة مؤتلفة : قلم المؤرخ - قلم الشاعر - وبقلم فاس . وفي كل مقطع / قلم،يبدل الشاعر في البنيات التركيبية على هذا النحو :

أ - فاس بقلم المؤرخ : هيمنة الفعل الماضي : / فاس بكت - استوطنت - الرب غاب - الهمز ضاع - البوح خان /

ب- فاس بقلم الشاعر : هيمنة فعل الأمــــــــر : / هزي إليك - اهمزي الألف - كوني شتاء - كوني غير التي أنت - كوني أنت /

- فاس بقلم فاس : هيمنة الفعل المضارع : / يهين الشتاء - يخلدن عيد - صادرت - أكون - يطير - يعمر - ليست - تسمع - ترى /

إن هذا التوزيع للأزمنة ينطلق من الوعي بطبيعة المتكلم في القصيد . فالمؤرخ - مثلا - مرتبط بالماضي لكون ممارسته تتحدد في دراسة التاريخ . والتاريخ في إحدى تعاريفه الأولية ليس إلا دراسة للماضي في الحاضر . بيد أن نفس مؤرخ فاس يقترب من نفس الشاعر استنادا إلى طبيعة الانزياحات الإسنادية الموظفة : كأنسنة فاس وجعل الرب يغيب من قلبها ،مع إشارة إلى أصل كلمة فاس / الهمز ضاع من حرفها / .

ويبدو أن صوت الشاعر كان أقوى من صوت المؤرخ ومن صوت فاس حيث مارس ما يشبه الوصلات الإشهارية الداعية إلى السياحة :

" ليست فاس ما تسمع

إن فاس ما ترى " / الديوان ص 13/

أما ورقتا بيروت وبغداد فتضمنتا إشارتين هامتين في موقف الشاعر منهما ، في الأولى تجسيد لإباء المدينة و مقاومتها

" أنا بيروت واقفة

إن تبكوا

أكبو " / الديوان ص : 30/

و في الثانية مديح للعراقيين الذين وسمهم بالملائكة ومخازن الرقة واللطافة والحلم ،ونظن أن ثيمة الورقة كانت تتغير لو كتبها الشاعر في خضم الأحداث المذلة التي تشهدها بلاد الرافدين .

 

التنـــــــــــــــــاص .

يقوم الشاعر بتوليف أنساق غير شعرية في عمله الإبداعي مستحضرا المنجز الصوفي والأسطوري والديني .... استحضارا يتسق والرؤى الدلالية والجمالية التي يتوخاها عبر تناصاته .

 

أ - التناص الديني :

يتأسس التناص في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " على مبدإ " المجاورة و المجاوزة التناصية": أي أن الشاعر لا يعتمد تمثلا محايدا للنصوص وغرسها في تربة النص ، بل يدمجها ضمن سيرورات دلالية مختلفة ، و إن حافظ - أحيانا - على بنياتها التركيبية ، يعضد ذلك هذه الأسطر من" ورقة فاس" :

" فاس هزي إليك

بجدع الأبجدية

تساقط عليك حروفا " / الديوان ص : 10/

 

إنها إحالة واضحة إلى الآية 24 من سورة :" مريم " . يقول تعالى:( وهزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) : وفيها حافظ الكاتب على البنيات التركيبية نفسها ، لكن بسيرورات دلالية مغايرة باعتماد تقنية " الوضع خارج السياق " ، فالأمر الإلهي لمريم بتحريك جدع النخلة هو بغاية تحصيل الرطب التي تحتاجها في حال المخاض أو الوضع ،و هي المحرومة من الدعم والاحتضان القبلي كما عكسه السياق القرآني ، لكن " أمر " الشاعر لفاس يحكمه وكد آخر هو تخير حرف من الأبجدية لتتم الناقص بها من همز بدليل قول الشاعر : اهمزي الألف .

و لعل وجه الشبه بين فاس ومريم هو : الافتقاد .مريم تفتقد تصديق القبيلة لها بالعفة والشرف،وفاس تفتقد الهمز و أشياء أخر يشير إ ليها الشاعر عن طريق توظيف الفعل الإلهي " كــن " حينما يخاطب فاس و يأمرها، مما يؤكد السلطة الرمزية للشاعر /أي شاعر :

 

" كوني شتاء

كوني غير التي بالأمس فصلها كان

كوني أنت " /الديوان ص : 11/

 

أضف إلى ذلك فقدان الثقة و القيم التي أكدها الشاعر عبر تمثل قصة " يوسف عليه السلام ":

" يا جدي ( .....)

هذي الناي

قد كسرت

والراعي صادق الذئب

وأخي الذي استوزرته

باع " الشياه " للشياه

قاد الحب إلى منتهاه

لا الجب تعرف سر الصفقـــــــــة

لا يوسف يكتم شر الحرقــــــــــــة

لا امرأة عزيز فكرت يوما في توبة / الديوان : ص 86 /

الشاعر يؤكد صورة عالم متهالك تتكرس فيه ملامح النفاق والغدر والخيانة التي لا تفكر معها " امرأة عزيز " _بما هي رمز للغواية و الظلم _ في التوبة . والمتأمل في تركيب اللفظين سيجد أن " امرأة " قد أضيفت إلى نكرة بعكس السياق القرآني الذي جاءت فيه الإضافة إلى معرفة ، و قصد منه زوج عزيز مصر . بيد أن الإضافة هنا لا تكسب المضاف تعريفا بل تخصيصا ،مما يفتح الأسطر السالفة على تأويلات دلالية ممكنة قد لا يكون التناص مفتاحها .

 

ب - التناص الصوفــــــــــي :

هذا الضرب من التناص ليس إلا امتدادا للنصوص الدينية الغائبة , يمتح منها أبعادها العرفانية وكشوفها الحدسية المتحللة من سلطة المادة وسطوة الغرائز التي تختزل الإنسان في رغبات زائلة ،وليس غريبا أن يتأسس مفهوم الصوفي نتيجة ذلك _ في كونه من " يلبس الصوف على الصفا، و يطعم الهوى ذوق الجفا، و تكون منه الدنيا على القفا، ويتبع منهاج المصطفى صلى الله عليه وسلم ". فالجسد ليس محددا رئيسا لجوهر الإنسان وماهيته ؛قياسا إلى الروح في التصور الصوفي التي تمكنه من السفر في عوالم الفيض الإلهي ومن الحلول ؛ الذي لا تستطيع معه اللغة التعبير أو حتى الإشارة/ تضيق العبارة /،و الشاعر يعي هذا البعد و يجسده نصيا في قصيدة " شمــس أبي " :

"

أبي أحكم الإغلاق

و أعطى المفتاح للشمس

قبل خد البحر

سافر باتجاه الرؤيا

إذ ضاقت به العبارة " / الديوان ص : 42 /

فيحيل صراحة إلى قولة "الإمام النفري" الشهيرة " إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة " ، إنها تعبير عن درجة سامية يرقى فيها المريد إلى أن يصير شيخا يعيش شطحات ترشح وجدا منزلا ويكرره :

بين مريدي شيخ

يخط خطاب غرام

على لوح أرهقه

الصلصال

الصوان

الوقف

الخسف

بقلم يعلق بصوف دواة الوجد " / الديوان : ص.ص : 62- 63 / إلى أن يثمل ويعيش الدرجة ؛التي يستزيد فيها الكؤوس التي توازن " مزن الأرض " و " ترب السماء " وتدركها الثمالة وفي هذه الغمرة يحضر التساؤل و التمني :

" إلام يخون الصحاب الكؤوس

وأبقى وفيا ؟؟؟

يا شهد الريف لو أسكرك

يا ريق الأطلس لو تسكرني " / الديوان : ص ص -74- 75 /

إن الشاعر لا يؤصل هنا لسلوك العربدة في الشعر كما قد يظهر من خلال القراءة البراغماتية المستعجلة . ذاك السلوك الذي شانه الشاعر المتميز المرحوم" محمد بنعمارة" محددا أنماط الشعراء :

" شاعر .... و شاعر

عاشق .... و بهلوان

شاعر شموخه سلوك

و شاعر سلوكه الهوان " / 2/

بل يوظف الكأس- و هي تسعفه و العبارة - بمدلولها الصوفي بما هي مؤشر على درجة من درجات الوجد و الحلول في المحبوب ، والمحبوب هنا ليس إلا المكان وجلاله ، الذي يحتفي به الشاعر أيما احتفاء . لذا نجده يتمنى أن يحل في شهد الريف أو يتحد معه ريق الأطلس ، و يتأسف الشاعر بأسى على بعض المعالم الصوفية التي غذت خاضعة لإشراط الآخر القوي كرسم " ليلى العامرية " شاهدة الفيض الإلهي :

" حتى رسم العامرية

غدا أثرا

يرمم لسائحة من بلاد

الثلج

دونها مرشد لا يهتدي "

 

ولن يهتدي . بكل بساطة لأن تجربة التصوف تجربة باطنية لا يستطيع معها الكلام المكرر اختراق جدارها المتمنع . وهنا قد لا نجد الشاعر بريئا حينما يهدي إحدى قصائده إلى "الطاهر وطار" أو "عمي الطاهر " كما يحلو له أن يسميه ، أو يقارب "الفاعل السردي" في ديوان " في الرياح .. و في السحابة " للراحل بنعمارة الصادر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2001 , محمد بنعمارة الذي قال عن " ليلى العامرية " :

" ليلى التي من أجلها

صرت رواية

يحكيها الرواة للسمار

ليلى التي هجرت من أجلها

أهلي .. و أحبابي .. و داري ...

ليلى البعيدة

نجمة و هداية في كل أسفاري " / 3 / .

 

 

ج - التناص الأسطـــــــــــوري :

 

لا يحضر البعد الأسطوري إلا في قصيدة واحدة هي " ترنيمة الحنث " والملاحظ أنه ارتبط بالنسق الصوفي ، إذ الشيخ الذي خط خطاب الغرام استقدم القلم من كهف " زوس " الذي وصمه الشاعر بالخرب ،في إشارة إلى ما يتداول بشأن كبير الآلهة اليونانية الذي قاد حروبا متعددة أولها مع إخوته ضد والده . يقول الشاعر :

 

" بقلم يعلق بصوف

دواة الوجد النازح

من كهف زوس الخرب , التعب

بالأثداء و الأشلاء و الأنواء .. .

و أنت " إيو "

و إيو النافدة المشرعة

للقادم من وحل الأدغال

نسجت على إثر خواء " / الديوان ص : ص 63 - 64 /

 

إن سطوة " زوس" أو " زيوس " و تحكمه في عالم الآلهة لم يمنعه من الوقوع في " خطيئة الوجد،فخان زوجه الشرعي " هيرا " ' ليتزوج ب " إيو" المرأة البشرية الفاتنة , و يحولها إلى بقرة بعدما علمت هيرا بخيانته حماية لها .

فطلبت هيرا إهداء البقرة ، وحاولت قتلها قبل أن تفر إلى مصر و تنتظر زوس هناك وهو ما يشير إليه قول الشاعر :

و إيو النافذة المشرعة

للقادم من وحل الأدغال "

ويعيدها إلى طبيعتها البشرية ، قبل أن تقضي و هي تضع رضيعها بسبب الدبابة الشرسة التي سلطتها " هيرا " .

و يستحضر الشاعر الأجواء السيابية ،باستحضاره لأسطورة السندباد :

" إذا ما سندباد الفيافي

يوم عاد أو كاد

أو أسرج نحو الكون

يبغي فرح الندماء فبلغيه سلامي

أو عبق ملامي

أو علميه

كيف خارطة الحب لا يرسمها أحد

غير الشعراء " / الديوان ص ص : 64 -65 /

 

إن مجمل المؤشرات التناصية في الديوان ، تغترف من معين واحد وفيه تصب ، إنه الوجد المتعدد الذي دان به الشاعر وحفر أبعاده عميقا في " حديقة الشعر " ، التي تأبى إلا أن تكون غناء وعناء - في الوقت ذاته - إذ تتمنع دلالتها و تلغز فتنغلق في وجه المتلقي حتى يظن أن الشاعر أبهم، نؤكد ذلك بهذا المثال :

" لوليدك الصرخة الأولى

يدك بها سنابك الخوذات .

لرضيعك زغرودة

من زمن شاح

عن ثدي المهنة السفلى / الديوان : /

 

فالسنابك جمع سنبك وهو طرف الحافر عند الحصان - مثلا - لكن الوعي بهذا المعنى الأولي لا يحل مشكلة الدلالة - هذا رغم تمام إدراكنا أن المعنى في الشعر الحداثي لا يتحصل من فك الصعوبة المعجمية بل ببحث طبيعة العلاقات الإسنادية - حتى في حال اعتماد المدخل التناصي باعتبار اللفظة إشارة ضمنية إلى قصيدة " الخيول " لأمل دنقل :

" الفتوحات في الأرض

مكتوبة بدماء الخيول

و حدود الممالك

رسمتها السنابك . "

 

إن طبيعة العلاقة الإضافية " سنابك الخوذات " تعضل في الوصول إلى المعنى، قياسا إلى العلامة النصية " المهنة السفلى " التي نجدها إشارة إلى أقدم مهنة في التاريخ ، و انتقادها في تمام عدم الرغبة في " الهجرة إلى المدن السفلى " . حيث يعضل الكون و يعضل المعنى . و حين يعضل المعنى فلا بد من الحدس مفتاحا رئيسا ، أو قد يكون المفتاح هو المبنى .

 

4 - الســــردي و الشـــعري : مساءلة نصيـــــــــــــن .

 

يروم هذا المحور إضاءة سؤالين مركزيين :

- ما هي حدود الشعري و السردي في مجموعة " أوراق الوجد الخفية " ؟

- كيف يتمظهر التناص الداخـــــــــــلي في الديوان ؟

نسائل في هذه الإضاءة نصين هما ديوان " أوراق الوجد الخفية " و " زخة و يبتدئ الشتاء " / قصص قصيرة جدا /

أ - السردي و الشعري :

بداءة نعرض التصور الأكاديمي لجمال بوطيب في مسألة الشعري و السردي فهو يعتبر الحدود بينهما " مرسومة / مهدومة / منطلقا في ذلك من فرضية مؤداها غياب الاستقلالية و هجانة النوع الأدبي/ 4 /

 

إن هذا المتصور الشخصي موجه قسري للشاعر / القاص . قسري لأن الكاتب يحترمه بإنجازه نصيا و تفعيله لدرجة يصعب التمييز في أعماله بين الشعر و النثر .

 

يتأثل هذا المعطى في قصيدة " الوطن برشة عاشق " . يقول في المقطع الثالث :

" اليوم فاجأني البريد

المرسل هل تعرفه ؟

عرفته يا حبيبتي

لكن خطك من ثقفه / الديوان ص : 78 /

إن هذا المقطع مستقل بذاته تركيبا و دلالة ، لذلك فهو يحقق وقفة دلالية ونظمية ، أي أنه جملة شعرية ، هذه الجملة الشعرية هي جملة سردية أيضا لسببين :

- الأول : أنها تعتمد تناميا في الحدث / وصول الرسالة - تفاجأ الشاعر بها - يطرح السؤال فيجيب الشاعر .السؤال و الجواب يعادلان الحوار، والحوار تقنية سردية .

- الثاني : أن ألفاظ المقطع الشعري متضمنة في قصة " بريد " من مجموعة " زخة و يبتدئ الشتاء " وسنورد النص لقصر مبناه :

" وجد الرسالة في صندوق بريده على ظهرها مكتوب :

- المرسل هل تعرفه ؟

لم يرهق ذهنه لتذكر الخط ( ...) همس لنفسه :

- عرفته يا حبيبتي لكن خطك من ثقفه / 5 /

 

وإذا كان هذا النص قد عرف تعديلا خاصة على مستوى الاستهلال و إطالة النفس السردي نسبيا برصد الحال الذهنية لبطل القصة و محور القصيدة . فإن الأمر يختلف بالنسبة إلى المقطع الرابع من القصيدة نفسها :

" لما أغرقت بالسكر

القهــــــوة السوداء

 

ضحكت و قالت :

إن المرارة في الماء / الديوان ص 79 /

هذه الأسطر الشعرية هي ذاتها المشكلة لبنية استهلال قصة " مرارة " الواقعة في الصفحة 26 من المجموعة القصصية " زخة .... " . فأين يبتدئ الشعر و أين ينتهي السرد ؟

الجواب قد نجده في المنطلق النظري لجمال بوطيب أو في الإبستيمي الموجه لشعراء الحداثة . ؟؟؟

ب - التنــــــــــــــــــاص الداخلي :

يقصد بالتناص الداخلي كل تمثل لنصوص الشاعر ، و تنزيلها في العمل الأدبي مع الإمكانية الدائمة لفعل المجاوزة الدلالي و البنيوي و فعل التنسيج في السياق ، نمثل لهذا الضرب من التناص بالمقطع الخامس من قصيدة

" الوطن بريشة عاشق " :

" أحضر أصباغا و ألوانا

صار يرسم الوطن

نهره غاضبا لا أريد

بورتريه بلا ثمن " / الديوان: 79 /

 

هذه القصيدة هي صدى لقصيدة بوتريه من المجموعة القصصية " زخة.... " الواقعة في الصفحة 45، تحكي القصة رغبة فنان مشهور متخصص في البورتريهات والموديلات النسائية في رسم بورتريه للوطن بدل بورتريهات النساء خاصة الفتاة الشقراء التي يسميها " الكاوية " و حين اقترب من إنهاء ملامح الوطن "

فاجأه حين نهره قائلا : لست الكاوية و لا أريد بورتريها بالمجان " .

و لنلحظ أن الشاعر حاول الحفاظ على القصد ذاته و الأبعاد الخطابية نفسها لكن بإبدالات تركيبية وأسلوبية منها تغيير لفظة " بلا ثمن " حتى يتحصل قافية مركبة / الوطن- ثمن / أضف إلى ذلك إعمال خاصية التقليص و التكثيف الواسمة للشعر و المحددة له .

و التناص الداخلي لم يتمظهر فقط بين " زخة ... " و الديوان قيد المقاربة ، بل كذلك بين هذا وبين روايته" سوق النساء " و المتبدي في هذا المقطع :

" و جل أنا من بعدك سيدتي

إذ فجر غشت غشني

و بانطفائك رشني

ألثم وجنة باردة

ويدا سكنت

من بعدما سكنت غلالات القلوب " / الديوان : 68 - 69 /

خاتمـــــة

لم تكن الغاية من هذه القراءة سوى محاولة الاقتراب من بعض الإواليات الفنية والجمالية التي يستند إليها المنجز الشعري عند الشاعر جمال بوطيب ، بغاية تقديم إضاءة أولية للأسئلة التي تدفعك النصوص الشعرية إلى طرحها.

 

:الهوامــــــــــــــــــــش

 

* - نستبعد هذه الفرضية التحليلية لسبب نجده جوهريا ، هو أن الوجد ينسج داخل لغة . و اللغة - لسانيا- حاصل لسان و كلام ، والكلام وكده " التواصل" ، و التواصل ينفي الصمت إذا جاز اعتبار الصمت عملية غير دالة .

- بوطيب ، جمال . أوراق الوجد الخفية ، منشورات ما بعد الحداثة ، الطبعة الأولى 2007 .

2- بنعمارة ، محمد : الذهاب بعيدا إلى نفسي ، منشورات الديوان آسفي، الطبعة الأولى 2007 ،ص : 13.

3 - نفســــــــــــــــه ، ص: 16 .

4 - بوطيب ، جمال . السردي و الشعري : مساءلات نصية ، منشورات الديوان ، ط1 ، 2007 ، ص ص : 7 - 8

5 - بوطيب ، جمال . زخة و يبتدئ الشتاء ، قصص قصيرة جدا . منشورات الديوان، ط2 2007 ص 77 .

 

 ذ- عبدالرزاق المصباحي ./ المغرب

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved