ورد في معجم مقاييس اللغة أن الزاء والواو والجيم (زوج) أصلٌ يدلُّ على مقارنَة شيءٍ لشيء. قال الله جل ثناؤه:"اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ" [البقرة 35، الأعراف 19].
لقد كان الزواج Marriage والطلاق Divorce في مصر القديمة من الأمور المدنية التي حكمها العرف والتقاليد ولم تتحكم الديانة أو القانون في الزواج والطلاق من قريب أو بعيد. وفي العصور المبكرة كان الزواج يتم بدون عقد ولكن بشهود، ومنذ القرن التاسع قبل الميلاد كانت عقود الزواج تكتب، وكان على الرجال أن يقدموا لزوجاتهم الهدايا والأثاث والمنزل، وبعد الزواج كان الزوج يعطي لزوجته ثلثي ممتلكاته، وكان من حق الزوجة الاحتفاظ بنصيبها الذي جلبته معها من بيت أسرتها. وكان الطلاق مسموحاً لعدة أسباب مثل: الكراهية، أو إذا وقع أحد الزوجين في الزنا، أو لم يكن قادراً على الإنجاب، وفي هذه الظروف كان من حق الزوجة الحصول على تعويض.
وفي مصر المملوكية؛ كان راغب الزواج يقصد الخاطبة لأنها "تعرف كل حرة وعاهرة، وكل مليحة بمصر والقاهرة" وذلك على حد قول المؤرخ ابن دانيال في مخطوط "طيف الخيال"، حيث كانت تتظاهر ببيع الطيب والبخور والمرايا وغير ذلك من لوازم النساء. وجرت العادة أنه إذا رضي الراغب في الزواج بالمعلومات التي قدمتها له الخاطبة، فإنه يسرع إليها ثانياً مقدماً لها هدية قد تكون قرط من الذهب، ويرسلها من جديد إلى عائلة الفتاة لتبلغهم برغبته في الاقتران بابنتهم. والراجح أن الفتاة في العصر المملوكي لم يكن لها أي رأي في اختيار زوجها، بل ظل الرأي الأول والأخير لوالدها، وربما شاركته في ذلك أمها.
وقد حرص أفراد طبقة المماليك على مصاهرة بعضهم لبعض حتى كانت بين كثير منهم صلات متينة، فيذكر المقريزي أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون (1285 - 1341م) زوج إحدى عشر من بناته للأمراء المماليك، ويتضح من هذا أن طبقة المماليك لم يحاولوا الزواج من أهل البلاد المصريين. كذلك رسم السلاطين للقضاة والشهود ألا يعقد أحد منهم قران مملوك من مماليكه إلا بإذنه، وهناك حالات نادرة لاختلال هذا النظام كما حدث في أيام الظاهر برقوق (1382 - 1399م) عندما رخص للمماليك سكن القاهرة والاختلاط بأهلها "فنزلوا من الطباق من القلعة ونكحوا نساء أهل المدينة وأخلدوا إلى البطالة".
الجدير بالذكر؛ أن عقد القران ودفع المهر والصداق كثيراً ما كان يتعرض لمساومات ومناقشات عديدة بين الطرفين، ويبدو أن العريس كان يئن دائماً من الصداق، كما جرت العادة أن يدفع جزء من المهر مقدماً قبل عقد القران، وكان الباقي (مؤخر الصداق) مؤجلاً كما يفهم من أغلب عقود الزواج التي وصلتنا من هذا العصر. وقد حرص مؤرخو تلك الفترة على إثبات المبالغ الباهظة التي اعتادت طبقة المماليك أن تدفعها لنساء هذا العصر، مما يدل على المكانة الرفيعة التي احتلتها المرأة في عصر سلاطين المماليك.
وهناك وثيقة من النسيج تعود إلى عصر المماليك البحرية دون عليها عقد زواج، الجزء الأول منها يشغل ثلاثة أرباع الوثيقة ومؤرخ بسنة 677 هـ / 1278م، والثاني يحتل الركن الأيسر من أسفل الوثيقة ومؤرخ بسنة 689هـ / 1290 م، وكلاهما باسم الفقيه المقر نجم الدين إسحق، أحد فقهاء مدينة البهنسا من صعيد مصر، وابنة نصير بن عبد المنعم.
الواقع أن؛ هذه الوثيقة تسهم في إلقاء الضوء على بعض الظواهر التي انتشرت إبان هذه الفترة من طلاق بائن خلعا، أي عن طريق المخالصة وبذلك المال من قبل الزوجة، ومن حرص بعض الزوجات على إبقاء عصمتهن بأيديهن، وهو جزء من التشريع الإسلامي الذي لا زلنا نحياه حتى يومنا هذا، وبالإضافة إلى إسهامها في التعريف بأحد نواب الحكم الشافعي بمدينة البهنسا، ممن أغفلت المصادر التاريخية الإشارة إليه والترجمة له. كما قدمت لنا هذه الوثيقة الدليل المادي على توارث بعض المهن الدينية واحتكار بعض الأسر لها زمن سلاطين المماليك البحرية، وعلى استمرار استخدام النسيج القطني كأحد المواد الأساسية التي كانت تدون عليها عقود الزواج.
ولدينا وثيقة زواج أخرى تعود إلى القدس المملوكية دونها أحمد بن النقيب الحنبلي بتاريخ عام 795 هـ/ 1392م، وهي عبارة عن ورقة كُتب عليه بالحبر (الطول: 43.5 سم؛ العرض: 28 سم). وتتعلق الوثيقة المكتوبة على وجه الورقة بزواج أحد الأفراد من القدس، وتتعلق الوثيقة المكتوبة على ظهر الورقة بطلاق نفس الشخص من زوجته، وقد تسببت حشرة الأرَضة بتآكل جزء من الوثيقة مما أعاق قراءتها بشكل كامل.
وقد كتبت وثيقة الزواج في سبعة أسطر، وهي تبدأ بالبسملة في سطر منفرد يليها نص عقد الزواج، ومضمون العقد أن الشيخ شرف الدين يعقوب بن الحاج يوسف بن يعقوب من القدس الشريف قد خطب البكر البالغ الحرة المسلمة الخليلية الخالية من الموانع الشرعية. ويلاحظ أن اسم العروس لم يذكر في العقد الذي اقتصر على ذكر اسم المكان الذي تنتمي إليه العروس، وهو الخليل- ونعرف أن اسمها فاطمة من وثيقة الطلاق التي كتبت على ظهر الورقة- ويذكر العقد أن المهر المعجّل لهذه العروس قدره 450 درهماً، والمهر المؤجل قدره 150 درهماً. كما يذكر العقد أن وكيل العروس في الزواج هو الشيخ قاسم بن موسى بن عمر الغزي، وتم العقد بحضور شاهدين: السيد شرف الدين حمزة بن السيد عبد الرحمن بن علي المغربي، وشاهد آخر لا يمكن تمييز شيء من اسمه إلا اسم العائلة وهو "الأسطى". ويظهر في آخر العقد توقيع الشاهد، وعلى الجانب الأيسر من النص كتب "زوجها وكيلها منه بطريق شرعي بحضوري كتبه أحمد بن النقيب الحنبلي".
أما ظهر الورقة؛ فكُتب عليه وثيقتان بواقع خمسة أسطر، وكل وثيقة جاء في نهايتها اسما اثنين من الشهود. والوثيقة الأولى تقرأ "الحمد لله، بتاريخ خامس شهر المحرم سنة خمس وتسعين وسبعمائة أشهد عليه يعقوب الزوج المذكور [أنه] طلق زوجته فاطمة المذكورة ... في أمس تاريخه، ثم ندم على ذلك وراجعها إلى عصمته وعقد نكاحه، مراجعة شرعية بلفظه الشرعي، بحضرة شهوده، وشهد عليه في تاريخه أعلاه." وتبيّن الوثيقة الثانية على ظهر الورقة أن تسوية بين الزوج وزوجته على إرجاعها إلى عصمته قد تمت، بشرط أن يدفع لها المهر المؤجّل. وسجلت الوثيقة بشهادة اثنين من الشهود أنه قد دفع المهر المؤجل، وذلك حتى لا تطالب بهذا المهر في حال حدوث طلاق آخر أو وفاة الزوج.
والواقع أن؛ الوثيقة لا تختلف جوهرياً عن عقود الزواج الإسلامية المعاصرة، فهي تحمل كافة الشروط والحقوق، سواء المتعلِّقة بالزواج، أو الطلاق، وتحتوي على أسماء الزوجين، ووكلائهما، واسم القاضي، والشهود.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن؛ العصر المملوكي في مصر والشام والحجاز شهد التطبيق الحقيقي للفقه السني وشريعته، كان فيه القضاة الأربعة كل منهم يمثل مذهباً من المذاهب السنية، وكان من آليات القضاء تعيين كتبة للقاضي وحاجبا وموقِّعا وحراساً وغير ذلك. والأهم تعيين شهود رسميين، يقوم الشاهد بالشهادة الرسمية وتعتمد شهادته على الحدث أمام القاضي، أي أن الشاهد في ذلك العصر كان يقوم مقام الختم الرسمي في العصر الحالي.
وكان لكل شاهد "حانوت" أو مكتب معروف يقصده الناس ليوقع لهم على العقود أو ليسجل شهادته فيما يحتاجون لإثباته، فقد استعملوا الشاهد في كل شيء ما عدا موضوع الطلاق ليؤكدوا على حق الرجل في طلاق زوجته بمجرد كلمة أو لفتة أو بالمزاح أو بمجرد النية وبدون شهود!!
لكنهم في موضوع المحلل احتاجوا للشهود، إذ لا بد من شاهدين في عقد الزواج.
في الحقيقة؛ لقد كان "المحلل" في العصر المملوكي بمثابة وظيفة يتفرغ لها بعض الرجال يقفون على أبواب الشهود أو مكاتبهم في الشوارع، فيأتي الذي طلق زوجته ثلاثاً إلى مكتب الشاهد ومعه طليقته، فيدله الشاهد على أحد الرجال الواقفين ببابه ليكون المحلل، فيتفق المطلق - الزوج السابق - مع المحلل على الأجرة ويدفعها له ثم يدخل الثلاثة مع ولى الأمر على الشاهد وأعوانه فيعقد قران المطلقة على المحلل، ويأخذ المحلل المرأة إلى خلوة قد أعدت خصيصا لهذا الغرض فيلتهم الزوجة جنسيا، ويجلس في انتظارهما الزوج السابق وولى الأمر وبقية الشهود. وبعد إتمام اللقاء الجنسي يأتي المحلل بالمرأة للشاهد ومن معه ليشهد أنه (حللها)، فيشهد المحلل والزوجة باللقاء الجنسي الذي حدث بينهما، ويقوم المحلل بطلاقها، وتعود إلى البيت تنتظر انتهاء العدة ليعيدها الزوج السابق.
هذا ما كان يحدث وذكره ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"، حيث كان المحلل يمارس مهنته كبائعة الهوى أي يتزوج بدون تمييز، ومع كثرة التطليق وكثرة زواج المحلل، كان المحلل يتزوج امرأة كان قد سبق له الزواج من أمها بنفس الطريقة، أو أن يجمع في زواجه بين أختين دون أن يدرى.
تلك كانت لمحة عن الزواج في مصر المملوكية وكيف كان الرجل يعثر على شريكة حياته في مجتمع سيطرت عليه التقاليد وأغلق أبوابه في وجه المرأة، ولم يسمح برؤية العروس إلا بعد الزفاف. وكيف كون المماليك مجتمعاً مغلقاً خاصاً بهم، فانحصر زواجهم إما من نساء تركيات جيء بهن خصيصاً لهذه الغاية، أو من بنات الأمراء، ولم يتزوجوا من بنات مصر إلا في القليل النادر.
المصادر:
ابن القيم، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان.- نسخة إلكترونية، موقع مكتبة المشكاة الإسلامية: ( www.almeshkat.net)
المقريزي، السلوك في معرفة دول الملوك.- نسخة إلكترونية، موقع الوراق: (www.alwaraq.net)
المراجع العربية:
أحمد صبحي منصور، "نكاح المحلل".- صحيفة الحوار المتمدن.- 16 أكتوبر 2005، العدد 1349.
ألف ليلة وليلة/ تقديم طاهر الطناحي.- (3) مجلدات طبعة خاصة منقحة.- القاهرة : دار الهلال، 1958. (ج1، 265)
طارق الطالب، "الزواج والطلاق في العصور القديمة".- جريدة الرياض.- الجمعة 17 مارس 2006، العدد 13780.
"الزواج في العصر المملوكي".- موقع مصر الخالدة.- 18 فبراير 2009 على الرابط: (www.eternalegypt.org)
أحمد عبد الرازق، "عقد نكاح من عصر المماليك البحرية".- المجلة العربية للعلوم الإنسانية.- العدد (22).- الكويت: مجلس النشر العلمي بجامعة الكويت، 1986.
أحمد عبد الرازق، المرأة في مصر المملوكية.- القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999.
محمد سهيل طقوش، تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام.- الطبعة الأولى.- بيروت: دار النفائس، 1997.
وثيقة زواج من العصر المملوكي، الرقم المتحفي (321)، مكان تواجد الوثيقة: المتحف الإسلامي، الحرم الشريف "القدس".
المراجع الأجنبية:
Donald P. Little, A Catalogue of the Islamic Documents from al-Haram ash-Sharif in Jerusalem.- Beirut, 1984.
Huda Lutfi, Al-Quds al-Mamlukiyya: A History of Mamluk Jerusalem Based on the Haram Documents.- Berlin: Klaus Schwarz Verlag, 1985
أشرف صالح
عضو هيئة التدريس
الجامعة الاسكندينافية - النرويج

