أبداً لم يكن والدي رجلاً رومانسياً
لم نراه يحضر يوماً وردة لأمي
لكنّه يحضر الكثير من اللحم
أمّي تصنع بوفرة الخبز والكعك
تظلّ ترقب درب المدرسة
حتى لم تعد ترى المسافة
والصغار ينتظرون صباح العيد
تتوضأ أمي بالطحين وتعصر أكمام القِدِر
تمسح أشلاء النهار بأطراف ثوبها
تفرش تعبها وتصلي
وتعود إلى الصكوك العسيرة
ترتّل أورادها وتتهيّأ للظمأ
ونحن مثل كرات زجاجية صغيرة
نتدحرج بين أكياس السكّر وأقدام العمّات
وأكوام اللحم
والدي رجل ضخم البنيان والقلب والإيمان
يشبه طاحونة قديمة
يحلّق مثل أذكار الخشوع
كلّما أكل لحاء القمح نيئاَ
يطوف مثل قائد حربي
كلّما علا صوت المئذنة
ويحصي أطراف العباد
يُحبّ طهي اللحم وإطعامه
يهبُ الأسماء وريد الخبز
ويقرض كفّ اليتيم
تضيق السلال على المواسم
وتتوهّج عيون القوم
اللحم وافر
تفيض الغِلال على المريدين
يبتسم أبي مثل وجه النهر
تمعن الأفواه في افتراس اللحم
يبتسم والدي أكثر
وكلّما تنسّم جارنا الرائحة
يأتي ليلقي التحية
والقوم لا يخرجون إلّا ويعودون
لم أرث حبّ اللحم
أورثني وحشة بأنياب
وأرق الاتجاهات
أبي لم يكن رجلاً رومانسياً
بل رجلاً شيخاً عنيداً ً
وكان يضربني كثيراً
لكنّه رجل جَوَّادٌ معطاء
بقلب يشبه ورق الورد
يُطعم كرز عينيه لمن يشاء
كان يناديني من حيث لا أرى
ويراني من حيث لا أسمع
وهكذا ظلّ هو كفاً بارداً
على حدود الوجع
وبقيت أنا أطوي المسافات
لا يستقيم اليراع مع أنامل الراعي
يقولون حين تهرم الغابة
يعود الشجر إلى البحر
ما زلت أقف على فوهة الرمل
لا يطاوعني قاربي
لكنّني أحرّك الماء المرتبك
وأوْصد تقاطيع الشراع
كلّما سمعتُ دبيباً أو ثغاء
حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في الدانمرك