زمن الإحتفالية واحتفالية الزمن

2010-05-05

( في مجال الإبداع لا مجال للوسط، فإما أن تكون سابقا للعصرأو متخلفا عنه ولقد اخترنا أن نكون في المقدمة، وليس في المؤخرة )

 

ــ 1 ــ

قال لي :

ــ ألا توصيني بشيء ؟

قلت له :

ــ كان في نيتي أن أوصيك بشيء ، ولكنني أخاف ألا تقدر عليه ..

ــ ما أعرفه عن نفسي ، أنني أقدر على كل شيء سهل ، وعلى كل شيء ممكن ، وكل شيء له طريق واضح وآمن..

ــ وأنا ليس لدي شيء، إلا الصعب والغامض والمرعب والمحال، فهل تقدر على أن تركب المحال ؟

إن كل الممكنات، السهلة والبسيطة والقريبة، استنفدها الناس قبلي وقبلك، ولم يبق لنا إلا المحال البعيد، فإن كان يغريك هذا هذا المحال، كما يغريني ، فاتبعني ، وإلا فابتعد عني، وخذ طريقا غير طريقي ..

ــ 2 ــ

لقد قالت الإحتفالية ( الحفل أصدق أنباء من الكتب )1

وقالت أيضا ، إن ( الشعوب نخبئ عبقريتها في الإحتفال ) 2

ومن طبيعة هذا الإحتفال ـ كما تتمثله الإحتفالية ، وكما تحياه أيضا ـ أن يكون له معنة ( المصالحة مع الذات) 3 وأن يكون شكلا من أشكال ( استرداد للزوعي المقموع والمصادر ) 4 وأن يكون قبضا ( على جمر الزمن الضائع أو المضيع ) 5

ــ 3 ــ

أعتقد أن من حق العاشق أن يتغنى بمعشوقه في كل حين ، ونحن أهل الإحتفالية ، وأحبابها ورفاقها وعشاقها اليوم ، لا شيء يسعدنا، أويطربنا، أكثر من التغني بسحرها وجمالها ، ولا شيء يمنعنا من الإنجذاب إليها، ولا شيء يغرينا ويغوينا إلا نورها الشفاف ، ونارها الملتهبة، وأسئلتها الحارة والجديدة دائما ، وطريقها الذي يبدأ ولا ينتهي، والذي يعد بالجديد ، وبعد بالمثير وبالمدهش دائما ، والذي من المخاطر أكثر مما فيه من النجاة .

أتكون هذه الإحتفالية هي نحن ، ونكون نحن الإحتفالية ، من غير أن ندري ، ومن غير أن يعرف أي أحد بذلك ؟

قد يكون ذلك عين الحقيقة وعين العقل، ويكون عين المنطق والصواب، وقد لا يكون ذلك، والتغني بها ـ كما قد يفهم البعض ، ألا يكون ذلك وجها من وجوه النرجيسية ، ويكون عنوانا على عشق الذات، أكثر من عشق الموضوع ؟ وهل هذه الإحتفالية موضوع خالص، مستقل بذاته عن كل الذوات الملتحمة به ، والمندغمة فيه لحد التوحد ؟

جوابا على هذه التساؤلات أقول :

ــ لست أدري، ولا أريد أن أدري، وغموض، المطلوب شيء مستحب ومطلوب ، خصوصا إذا كان هذا المطلوب ـ المعشوق، أعز ما يطلب، وكان في حجم الإحتفالية، وكانت هذه الإحتفالية بحجم الكون، وكانت بكل ألوان الطبيعة ، وكالن بعمق الوجود، وكانت بطعم الإندهاش الطفولي، وكانت بطول التاريخ وامتداده، وكانت بسحر الجمال المطلق..

ــ 4 ــ

إن هذا البيان الإحتفالي ـ مثل كل البيانات الإحتفالية الأخرى ـ ينكتب بلغة فيها لذة ومتعة ، أي بلغة لها مذاقها الخاص ، وذلك قبل أن يكون لها معانيها الثابتة والجامدة والمغلفة والمغلقة والمحدودة، وفي المقابل، فإن قراءة هذه البيانات أيضا ، لا يمكن أن تتم إلا من خلال التذوق الجمالي والصوفي كذلك، فهي ليست تمرينا مدرسيا في مادة الإنشاء، ولكنها حالات تقتسم ، وعليه ، فإن الإقتناع العقلي وحده لا يكفي، وذلك لأن الأساس، هو أن يحيا هذا البيان حياته أولا ، وأن يمارس الإغراء والغواية، بلوحاته المشهدية ثانيا ، وذلك بموسقاه الداخلية، وبطقسه العام ، وبسحره الخفي والسري ، وبظلاله الحسية والمعنوية ، وهو موجه إلى الناس أولا ، وموجه ( لأعلى سلطة كائنة وممكنة ، وهي سلطة التاريخ) 6

إن هذا البيان كتابة ، ولهذه الكتابة روح ، وذلك قبل أن تكون حروفا مرسومة أو منطوقة، وروحها مستمد أساسا من روح الإحتفاليين ، ومقتبس من روح اللحظة الإحتفالية أيضا ، ومستعار من روح الزمن الإحتفالي ، ومقتلع من روح العصر الإحتفالي، وفيها يتحاور الظاهر والخفي، والناطق والصامت، وتتقاطع الفراغات والإمتلاءات ، وفيها السطور وما بين السطور، وفيها السواد والبياضات، وفيها الإشارات والعلامات، وفيها الإيحاءات والإيماءات، وفيها متاهات لا عد لها ولا حصر، وفيها الحبر ، وفيها البحر، وفيها الحكي وفيها الرسم، وفيها الترتيل والإنشاد، وفيها شيء من النثر وأشياء كثيرة من روح الشعر، وفيها شيء قليل من الرؤية، وشيء كثير من الرؤيا، وفيها حفر وفيها وشم، وهي كتابة تستعير مفرداتها من المعجم ، ولكنها لا تتقيد بالمعاني المعجمية المعروفة والمألوفة ، وهي كتابة فيها جهر وهمس، وفيها غمز ولمز، وفيها كتابة ومحو، وفيها هندسة فراغية، وفيها كيمياء حيوية، وفيها شيء بسيط من العقل، وفيها أشياء مركبة من الجنون أو مما يشبه الجنون ، وفيها أخاديد وتجاعيد، وفيها مناخ وطقس ، وفيها أرض وسماء ، وفيها ليل ونهار ، وفيها شمس وأقمار ..

ــ 5 ـــ

واليوم ، وبعد مرور ثلاثين سنة، على مولد أول بيان في عمر الإحتفالية، يمكن أن نلاحظ أن هذه الإحتفالية ، مازالت في بداية العمر ، ومازالت مدهشة ومندهشة كما كانت ، ومازالت غريبة الأحوال والأقوال والأفعال، ومازالت مؤسسة للغرابة في نفس الآن، ومازالت مشاغبة ومشاكسة، في الفكر والفن والصناعة وفي المواقف اليومية، ومازالت قوية وعنيفة في الحق والحقيقة ، ومازالت حارة وملتهبة في كتابتها الأدبية والمشهدية والفكرية ..

ولعل أهم شيء تحاشته هذه الإحتفالية الحلم ـ أو هذه الإحتفالية الوعد، وذلك منذ بداياتها الأولى ـ هو ألا تكون موسمية ، وألا تكون تحت رحمة الزمن، وأن تكون بذلك بنت لحظتها العابرة والطائرة ، وذلك بدل أن تكون إبنة تاريخها ، وتكون ابنة الوجود، وسؤال الوجود ، وأن تكون إبنة الحياة ، وإبنة الحقيقة المتجددة، وإبنة الجمال المطلق .

لقد ابتعدت هذه الذات الإحتفالية ـ بالقدر الذي تستطيع ـ عن الأسئلة المدرسية، وعن الشعارات المرحلية، وعن المفرقعات اللفظية، وعن المواقع الجامدة، وعن الخانات الفارغة ، وعن الكليشيهات الجاهزة، وعن جاذبية الموضات والتقليعات الخادعة ، سواء أكانت في مجال الأزياء الفكرية والفلسفية ، أو كانت في مجال الأزياء الإيديولوجية أو السياسية، أو كانت في مجال الأزياء الفنية والجمالية، وبهذا فقد عاشت، بعد أن ماتت تلك الصيحات الموسمية العابرة ، واستطاعت أن تكون في التاريخ ، وليس في اللحظة .

ــ 6 ــ

إن أخطر شيء يمكن أن يواجه أي حركة ـ في مسيرتها الفكرية أو الإبداعية ـ هو أن تجد نفسها ـ بعد سنوات أو بعد عقود من السير العشوائي ـ أمام الباب المسدود، وأن تضطر ـ تحت ضغط الواقع والوقائع ـ لأن تراجع طروحاتها وكل مقولاتها وشعاراتها التي كانت ، وأن تعيد البدء ـ أو تستعيده ـ من درجة الصفر ، وأن تكون هذه الدرجة بدون صدى وبدون ظلال وبدون امتداد .

قد يكون المنطلق خاطئا ـ في كثير من الحركات والإتجاهات والتيارات الفكرية والأدبية والفنية ـ وقد تكون أيضا ـ في مسيرتها نلك، قد تعرضت للتحريف والتخريب، أو للتدمير أو للخيانة، أو يكون الزمن قد نال منها، كليا أو جزئيا ، وأصبحت في حاجة ماسة إلى المراجعة وإلى التجديد، وإلى إعادة الإنطلاق، بشكل آخر مختلف ومغاير، وهذا ما كانت الإحتفالية على وعي به دائما ، ولقد أدركت مبكرا ، أن الأساس هو أن تكون الإنطلاقة سليمة ، وأن تتم انطلاقا من أرضية صلبة وسليمة، ومن نقطة محددة، وأن تكون باتجاه وجهة محددة من قبل، وأن يكون لها نفس الرحلة الطويلة ، وأن يتوفر لها زداد السفر الطويل ، وأن تتسلح بالصبر وبالإيمان بما تسعى له ، وأن تكون مسلحة بسلاح الحقيقة، وليس بأي سلاح آخر ..

وهذا العمر، كان مؤثثا بالألغام دائما ، ولم يكن نؤثثا بالورد، وأزمنته التي عاشها، كانت أزمنة حارة وملتهبة ، ولقد ظل الكائن الإحتفالي ( يداعب أزمنة القهر الفكري والإيديولوجي المغلفة بألأوان الطيف أربعة عقود من الزمن، وظل صامدا واثقا من نفسه ومن كتاباته النقدية والتنظيرية والإبداعية ) 7

ــ 7 ــ

إن هذه الإحتفالية ، سواء في كتابتها النظرية أو الإبداعية ـ فد كانت دائما ، على وعي بهذا المأزق، وكانت تعلم بأن الإبداع الحق لا يمكن أن يكون ظرفيا، وأن المراهنة الحقيقية ينبغي أن تكون على المستقبل وعلى الآتي وعلى الممكن ، وعلى أن أعلى درجات هذا المستقبل، وأخطرها كلها، تتمثل أساسا في المستقبل البعيد، ولهذا، فإن اللحظة التي تسمى (الآن) ـ ما هي إلا بوابة أساسية للآتي غدا.

وتسعى الإحتفالية ـ من خلال هذه الوقفة ـ إلى تجديد معرفتها بذاتها وبموضوعها ، وبمن ـ وبما ـ حولها ، وهي لا تهتم بأن تكون معروفة أو مجهولة ، سواء لدى خاصة الناس أو لدى عامتهم، لأن ذلك ليس من مهامها، فهي تقول كلمتها وتمشي، وتؤسس الفعل وتمضي ، وتخلق الحدث، وتتجاوزه إلى غيره ، وتكتب الكتابات، وتترك أمر قراءتها للقراء المفترضين، وهي بهذا تقول مع كونفوشيوس ( لا أخشى أن يجهلني الناس، بل كل ما أخشاه هو أن أجهلهم، أن تخفى عني حقيقتهم ) 8

إنها تريد أن تعرف، ولا شيء يحزنها سوى أن تكون محدودة الفهم ، ومحدودة الإدراك ، ومحدودة المعرفة، ومحدودة الآفاق، ومحدودة الطموح، وأن يكون في جسدها مناطق مظلمة وغير مضاءة ، وهي اليوم، في هذه المحطة الجديدة من مسيرتها العمرية، تسعى من أجل أن ترى بشكل مختلف، وأن تغير زاوية النظر، وهي بهذا الفعل تؤكد على مصداقية القولة التالية ( لا تصدق كل ما تسمع، وصدق نصف ما ترى ) فهي تخضع مشاهداتها دائما ، سواء منها الحسية أو المتخيلة ، وتضع كل قراءاتها أيضا، وكل مسموعاتها، للشك العاقل والمبدع، فهي فعل متجدد للرؤية والرؤيا ، وهي فعل متواصل لإعادة هذه الرؤية ـ الرؤيا، فهي تبني القناعات ثم تهدمها ، وتركب التصورات ثم تفككها ، وتصل بالأفكار إلى أقصى الدرجات الممكنة ، ثم تعود بها ـ وفيها ، إلى درجة الصفر ، وإلى درجة البدء والإنطلاق، والتي هي درجة التأسيس ودرجة الخلق .

ــ 8 ــ

إن الإحتفالية قد كتبت وانكتبت، ليس من أجل أن تعرف بنفسها، ولكن من أجل أن نعرفعها، وأن نقبض على حقيقتها الزئبقية والمنفلتة، وبهذا فقد أمكن أن نقول بأن الجوهر الحقيقي لهذه الذات يتمثل أساسا في شهوة المعرفة ، وفي إرادة الحقيقة، وكل ذلك مع الإيمان بأن الحقيقة حقائق، أو أنها ـ فقط ـ مجرد وجهة نظر، ولا شيء سوى ذلك .

إن الإحتفالية إذن ـ ورغم كل الأبحات والدراسات والبيانات وكل الإبداعات التي تؤثث أعمارها المتعددة ـ تظل جزيرة مجهولة، وتظل محتجبة وراء الغموض الجميل والنبيل .

حقا، يمكن لأي قارئ أن يقرأ الأدبيات الإحتفالية، وأن يقارب طروحاتها ومقولاتها، ولكن موضوع هذه المقاربة ـ أو المقاربات ـ لن يكون واحدا وموحدا، ثم إن القارءة نفسها لا يمكن أن تكون واحدة، ولهذا تعددت الإحتفاليات بتعدد القراء، وأصبح لكل واحد إحتفاليته الخاصة، وأصبح من حق أي واحد أن يدعي وصلا بليلى، ولكن ليلى ـ الإحتفالية ـ لا تقر لهم بذلك الوصل المزعوم والمتخيل ، لأنها صيرورة وليست كينونة ، وأنها طاقة متجددة لإنتاج الفعل في التاريخ ، وليست مجرد فعل من الأفعال في الواقع ..

ــ 9 ــ

وحتى أجنب قراءات الإحتفالية الوقوع في الخطأ، فإنني أقدم الإقتراح التالي، وهو أن تتم القراءة بالرجوع إلى مايلي:

1ـ إلى البيانات والدراسات والأبحات التي (بشرت) بالإحتفالية، وحاولت أن تلامسها، وأن تعطي شيئا منها.

2ـ إلى الكتابات الإبداعية، سواء كانت نصوصا أدبية، أو كانت تجارب إخراجية، أو كانت اجتهادات في التشخيص والإلقاء، أو في تأثيث الفضاء المسرحي، أو في الأزياء والأقنعة والأشكال والألوان والأضواء والأحجام والكتل..

3ـ إلى الكتابات السجالية، والتي بمكن أن تعطي جزءا مهما من تاريخ الإحتفالية، وفي هذه الكتابات يمكن القبض على كل ـ أو جل ـ الشروط التي أملت انكتابها، وأعطتها قوتها وعنفها وعنفوانها وحدتها وإيقاعها الحاد، وجعلتها مختلفة عن البيانات وعن الدراسات الهادئة والرصينة.

وإذا كانت البيانات محكومة بشروطها الداخلية، فإن الكتابات السجالية في الإحتفالية ، قد جاءت ـ في جزء كبير منها ـ استجابة (للمعارك) التي رافقتها، وأصبحت ـ رغما عنها ـ جزء أساسيا وحيويا منها ومن وجودها ومن تاريخها.

ــ 10 ــ

ومن خلال تاريخ الإحتفالية، والذي هو بالأساس أحداث وأسماء وتجارب ومواجهات، والذي هو ـ أيضا ـ مواقف وقفتها، ومعارك خاضتها، وهو امتحانات واجهتها، وهو ذوات فعلت فيها وانفعلت بها ، ومن خلال ذلك وغير ذلك، يمكن أن نعرف وجها من وجوهنا، وأن نقف على (طبيعتنا) الضدية المشاكسة.

ومواقف الإحتفالية ، كانت دائما مبدئية وواضحة وصريحة وغير مهادنة وغير متساهلة مع الأمية ومع القبح ومع الرداءة ، وهي تحترم الإختلاف وتقدره، ولكنها لا تتسامح مع التخلف، وقد انبنت هذه المواقف على وعي نقدي، وعلى قناعات واختيارات وجودية بالأساس، وهذا مايفسر غيرتها على الممكنات الثقافية المصادرة، ووقوفها أمام الكائن الواقعي والذي يفرز ثقافة السلطة ، ويقمع سلطة الثقافة والثقافي وسلطة المثقف .

ويمكن أن نمثل لهذه المواقف الإحتفالية بالثورة على البيروقراطية، وعلى الأنظمة الشمولية، وعلى الإنظمة ذات الحزب الواحد، وعلى الإستبداد السياسي وعلى المافيا الثقافية بالمغرب، والتي تمثلها ـ خير تمثيل ـ وزارة الثقافة المتحزبة ، ويمثلها إتحاد كتاب المغرب، وتمثلها أحزاب سياسية ومنابر إعلامية وجهات سياسية مازالت تؤمن بشاعر البلاط، وبمثقف العشيرة الحزبية.

ــ 11 ــ

ورغم إخلاص هذه الإحتفالية لثوابتها النظرية، وارتباطها العضوي بأصولها الفلسفية والجمالية، فإنها ـ دائما ـ تتحرك وتتغير وتتجدد ، وتخالف ذاتها ، وتتجازها ، وتحاول أن تسير في نفس الإتجاه، وأن تمشي بنفس السرعة ، وأن تحافظ على نفس الحماس، وعلى نفس الثقة في الذات، وبنفس الرغبة الحارة في الكشف والمكاشفة ، وفي السفر والترحال.

لقد ارتبطت الإحتفالية بالمسرح، وانحازت إليه، ولكنها لم تسجن نفسها داخل حرفته وصناعته وتقنياته، لأنها أكبر من المسرح ـ الفن ، وأصغر من مسرح الوجود، وبذلك، فقد كانت داخل المسرح وخارجه دائما، وكانت في حجمه المادي ، وأكبر منه نظريا وفلسفيا، ولقد انطلقت منه ، ومن أسئلته المهنية والفكرية ، ولكنها لم تتوقف عندها.

لقد راهنت تجارب كثيرة ـ في العالم العربي ـ على إنتاج مسرحيات، وذلك داخل فرق مسرحية، ولكن الرهان الإحتفالي كان مختلفا ومغايرا، وذلك لأنه سعى إلى تأسيس مسرح جديد ومتجدد، وذلك من خلال تأسيس علاقات اجتماعية مختلفة، ومن خلال بناء مؤسسات ثقافية جديدة، وإيجاد حساسية جمالية مغايرة، وإبداع هندسة مدنية احتفالية حقيقية.

إن الإحتفالية لا تفصل الصناعة المسرحية عن كل الصناعات الأخرى، ولا تعزل الأسس الجمالية للإبداع، عن الأسس النفسية والذهنية والروحية، والتي يمكن أن يكشف عنها التنظير الفكري، ويمكن أن تشير إليها الأسئلة الفلسفية الحقيقية، كما أنها لا تفصل المحتفل عن محيطه الجغرافي أو العمراني، ومن طبيعة الفعل المسرحي ـ لديها ـ أنه يقوم على التلاقي، وليس على اللقاء، وعلى المشاركة وليس على الإقصاء، أي على لقاء الذوات المحتفلة والمعيدة ، وعلى لقاء الفنون المحتفل بها وفيها ..

ــ 12 ــ

يقول النفري ( لن تراني حتى تراني أعمل )

وإذا كانت الإحتفالية مازالت ترى ، وسط زحام كل هذه الأفكار، ووسط كل التيارات الفكرية والفنية الجديدة، فما ذلك سوى لأنها تفعل وتنفعل ، وأنها تتحرك وتسير ، وأنها تحيا حياتها ، وتؤسس ذاكرتها الآنية ، وتؤسس تاريها الآني والمستفبلي .

إن الإحتفالية لا تصدر البيانات وحدها، ولكنها تؤسس الفعل أولا، وتصنع الحدث قبل الحديث ، وهي تؤرخ للحدث من خلال الوثيقة ، وأحسن نموذج لهذا التوثيق التأريخي، تمثله ( وثيقة المسرحيين المغاربة ـ المسرح المغربي ، فشل سياسة أم فشل مرحلة ؟) أما التبيين الفكري والجمالي ، فتتولى أمره البيانات الإحتفالية، وهي إبداع فكري وأدبي وفني منكامل ؛ إبداع يمثل ـ في حقيقته ـ قيمة أخرى مضافة، وذلك إلى جسد الإبداع الإحتفالي في الكتابة الدرامية وفي الكتابة المشهدية .

إن الأصل في هذه الإحتفالية أنها حركة ، وأنها طاقة محركة ومتحركة ، وهي بهذا علامة في الواقع والتاريخ ، وهي تأريخ لما أهمله التاريخ ، ولما تناساه المؤرخون الرسميون ، إنها تأريخ للفعل المستقبلي الممكن، الشيء الذي جعلها فعلا مزدوجا ومركبا، فهي ـ من جهة ـ إلتفات إلى ما كان ، وهي ـ من جهة أخرى ـ إنجذاب وتطلع باتجاه ما يمكن أن يكون ـ أو لا يكون ـ مستقبلا .

ــ 13 ــ

إن هذه الإحتفالية إذن ، في هويتها الوجودية والإجتماعية والتاريخية ، ليست شارة ، وليست وساما على صدور الإحتفاليين، وليست إمتيازا، وليست سلعة تحتاج إلى إشهار، وليست طائفة عرقية أو حزبية أو دينية، وليست خندقا ضيقا ، وليست قوقعة مغلقة ، وليست صيحة موسمية .

إن هذه الإحتفالية مسؤولية قبل كل شيء ، وهي أمانة ورسالة، ومن فينا ، نحن الإحتفاليين، من يقدر على أن يصون الأمانة ، وعلى أن يبلغ الرسالة؟ ذلك هو السؤال الحقيقيي والجوهري في المخاطرة الإحتفالية، والذي يصل في الإشتغال الإحتفالي إلى درجة المسألة الوجودية ، وإلى عتبة القضية التاريخية .

وهذه الإحتفالية لا تفعل في الحقل المسرحي فقط، ولكنها تفعل في كل الحقول المعرفية والجمالية المختلفة، وهي موجودة دائما ، حيث لا يتوقع وجودها أحد ، وهي متكلمة حتى في صمتها، وحاضرة حتى في غيابها، ومشاغبة حتى في سكونتها ووداعتها، وهي مشككة في يقينها ، ومتيقنة في شكها، وفاعلة في انفعالها، وعالمة في فنها ، ومبدعة في علمها .

لقد فتحت هذه الإحتفالية ملف التنظير المسرحي مبكرا ، أي في أواسط السبعينيات من القرن الماضي ، وقد كان ذلك قبل ظهور مصطلح المسرح الإحتفالي أولا ، ومصطلح الواقعية الإحتفالية ثانيا، ومصطلح جماعة المسرح الإحتفالي ثالثا، ومصطلح الإحتفالية رابعا ، ومصطلح الإحتفالية الجديدة خامسا ، ومصطلح الإحتفالية المتجددة سادسا . إن هذا الملف ، دشنه الجسد الإحتفالي بدراسات متعددة ومتنوعة ، وقد حضر فيها التساؤل الوجودي التالي ( المسرح العربي ، كائن هو أم غير كائن ؟) كما حضر فيها المسرح العربي، في علاقته بالوعي الأسطوري، وفي علاقته ب ( خطيئة نارسيس ) وبالتصاقه قديما بالنخبة في القصور، وبابتعاده عن الساحة الشعبية في الأسواق، وعن التجمر الشعبي المفتوح .

هذا الملف، مازال مفتوحا إلى الآن ، وهو ممتلئ ، لحد الإنفجار بالقضايا الساخنة والحارة ، وممتلئ بالأسئلة والتساؤلات ، ممتلئ بالإشكاليات الفكرية الحقيقية، وممتلئ بالإختيارات المواقف ، وسوف يبقى مفتوحا ـ دائما ـ لأن الأصل فيه أنه ملف وجودي ، قبل أن يكون ملفا أدبيا أو فنيا أو فكريا فقط ، وهو متعلق أساسا بوجود الإنسان ، وبوجود المديتة ، وبوجود الحياة ، وبوجود العقل ، وبصيرورة هذا الوجود المركب ..

ــ 14 ــ

لقد تغيرت الجغرافيا السياسية ، مغربيا وعربيا ودوليا ، وذلك ابتداء من أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ومعها تغيرت كثير من الخرائط، فاضطر كثير من المثقفين ومن المبدعين أن يغيروا مواقعهم ، وأن يبحثوا لها عن مواقع جيدة ، وذلك داخل فضاءات الخرائط الجديدة، وبلغ الأمر ببعض المثقفين إلى حد الإنسلاخ من جلدهم، ولكن الإحتفالية ، لم تغير مواقعها، وظل الإحتفاليون يحملون نفس الأفكار، ونفس الإختيارات، ونفس الثبات الذي أزعج كثيرا من الجهات، وأزعج كثيرا من الأسماء، سواء في الحقل الإيداعي أو في الحقل النقدي أو في الحقل الفكري ، أو في الحقل السياسي ، ولأن الإحتفالية كانت دائما ضد الكرنفالية، وضد ( السيركية ) فقد احتفظت بوجهها الحقيقي ، ولم تفرط في إنسانيتها ، ولم تضع أقنعة الوقت على وجهها .

إن الذين بفهمون الإحتفالية فهما فلكلوريا وبسيطا، يجدون أنفسهم اليوم في موقف الحيرة والإستغراب الشديد، وذلك أمام استمرار هذا الجسد الإحتفالي في نفس الخط الوجودي، وهم يتساءلون ، كيف يمكن أن نكون احتفاليين ، ولا نطبل مع المطبلين ، لا نزمر مع المزمرين ، ولا نرقص مع الراقصين على الحبال، ولا نضع الأزياء الملونة ، ولا نتقنع بالأقنعة الكرنفالية ؟

ــ 15 ــ

إن من طبيعة الإحتفال ، كما نعرف ، أن يكون حقيقيا أو لا يكون ، وأن يكون صادقا أ لا يكون ، وعليه، فإنه لا جود لاحتفال حقيقي، في زمن غير حقيقي، ومع وجود حالات وجودية مقنعة، وغير حقيقية وغير صادقة وغير شفافة، كما أنه لا يمكن أن يتحقق أيضا ، في الأزمان المادية أو في الأزما ن التي ليس لها لون وليس لها طعم ، وليس لها وزن، وليس لها قافية ، وهذا هو نفس ما نعيشه في هذه الأيام .

إن الإحتفالية مع الإحتفال الإنساني / الإجتماعي الحقيقي، وليس مع الكرنفال ، ولا مع الحفل التنكري، ولا مع السيرك الحيواني، فهي ضد التمثيل والتدجيل ، وضد أن يصبح الإنسان لعبة ، وذلك بدل أن يكون طرفا في اللعبة الفنية، أو في اللعبة السياسية، أو في اللعبة الوجودية أو الإجتماعية، وما أكثر المتقنعين اليوم، في هذا الحفل التنكري الكبير، وما أكثر البهلوانيين والحواة والمتنكرين خلف أقنعة العلماء ، أو خلف أقنعة الضحايا ، أو خلف أقنعة الديموقراطيين ، أو خلف أقنعة الحداثيين ، أو خلف أقنعة الليبراليين الجدد ، أو خلف أقنعة المبدعين المعاصرين ..

ــ 16 ــ

قبل هذا اليوم ، كان يقال للإحتفالية ، ولكل الإحتفاليين أيضا، ما يلي :

( ليس في الإمكان أبدع ولا أروع مما عند الروس من حقيقة، ولا ما عند الإشتراكيين وعند اليساريين من فكر وأدب وفن ) فهم وحدهم ـ دون غيرهم ـ أهل الحق والحقيقة ، وأهل الجمال والكمال ، وكل الناس غيرهم، منحرفون ومحرفون وسلفيون ورجعيون ومزيفون ومدعون ، وأن من يبتغي ـ من المسرحيين ـ مسرحا غير مسرحهم ـ فإنه لا يمكن أن يقبل منه ، وبهذا المنطق ، رفضت الإحتفالية ، وذلك باعتبار أنها خرجت عن القطيع ، وكسرت عصا الطاعة ، وكان ضروريا ـ في شريعة حراس المتاحف ـ أن تدخل بيت الطاعة ، وألا تغادره أبدا ..

إن هذا المنطق الغريب والفاسد، هو الذي حاربته الإحتفالية ، وذلك على امتداد ثلاثة عقود من عمر القرن الماضي، ولقد انتهى اليوم إلى الباب المغلق ، وأعلن العالم كله إفلاسه .

واليوم ، تنبت كائنات فطرية غريبة جديدة، وتظهر ظواهر من الفراغ ومن الخواء، الشيء الذي يجعلها مقطوعة الصلة بالواقع وبالتاريخ ، ومفصولة عن السياق الفكري والجمالي العام، ونجد أنفسنا ـ مرة أخرى ، وبدون مقدمات معقولة ـ أمام نفس المنطق العبثي ، وأمام نفس الزعم ونفس الدعاء، وأمام نفس الأجساد القديمة، وأمام نفس الوجوه التي نعرفها حق المعرفة ، والتي لم تغير شيئا فيها ، سوى الأقنعة والأزياء والأصباغ الخارجية، وهكذا يعود نفس ذلك الشعار التقليدي القديم، وذلك بعد أن خضع لرتوشات بسيطة ، وأصبح منقحا ومزيدا فيه، وبدل أن يقول السلفيون ( ليس بالإمكان أبدع مما كان ) فقد أصبح المدرسيون والحداثيون والليبراليون الجدد يقولون ما يلي :

( ليس بالإمكان أبدع ولا أروع مما عند الأوروبيين والأمريكان )

الأولون قالوا لنا كونوا شرقيين، فكرا ونفسا وروحا ، أو لا تكونوا أبدا، وتمثلوا الغياب وحده ، ولا يهمكم حضور الآخر، ثقافة وفكرا وصناعة وحضارة، والمتأخرون قالوا لنا، كونوا ديموقراطيين ، والديمقراطية لا تكون إلا غربية ، وكونوا حداثيين أيضا ، لأن الحداثة صناعة غربية أو لا تكون، وكونوا مقلدين وتابعين ، إن كنتم تريدون أن يكون لكم وجود ، وأن يعرفكم العالم ، وأن تعترف بكم الإنسانية ، وأن يكون لكم موقع خارج التاريخ .

ــ 17 ــ

إن الشي الذي أغفلته كثير من الأذهان ، وكثير من الأقلام أيضا ، والتي لا تكتب بحبر الحقيقة، هو أن الإحتفالية فكر أنتجه سياقه الحضاري، وأبدعه الإنسان المغربي الجديد، وهو بهذا نتيجة حتمية لتراكمات معرفية وجمالية أولا ، وهو استجابة لأسئلة اللحظة التاريخية ثانيا ، وهو بهذا منظومة معرفية متكاملة، وهو منظومة قيم جمالية وأخلاقية لها علاقة عضوية بالحياة، وبالوجود، وبالإنسان، وبالجغرافيا ، وبالتاريخ ، وبالحضارة الإنسانية، وباللحظة الحية ، وبعقارب الساعة .

ويصر كثير من الناس، على أن يصبح هذا الواقع الحي والمتغير حقل تجارب فقط، وأن يكون مجالا محايدا تتحقق فيه الفرضيات النظرية المستوردة، وأن يتم الإستغناء بذلك عن العقل الخلاق، وعن توليد الأفكار الجديدة، وعن استنباط الأسئلة المشاغبة ، وعن الإجتهاد الفكري والجمالي المؤسس ، وعن الإبداع المثير والمدهش، وأن يتم الإكتفاء بالنقل فقط ، وبالتسويق وبالترويج أيضا ، وبالإعلان الإشهاري عن المنتوج الفكري والجمالي المستورد، وأن يتم التحريض على الإقتناء وعلى الإستهلاك، وذلك في مجتمع مريض بداء الإقتناء ، ومصاب بداء الإستهلاك، وأن يصبح الإختلاس معناه الإقتباس ، وأن تصبح الترجمة تأليفا، وأن تتم هذه الترجمة بتصرف ، وأن يكون لهذا التصرف معنى الخيانة ومعنى التجاوز ، ومعنى المسخ ، ومعنى التزييف والتشويه، وعندما يصبح مثل هذا الإستثناء قاعدة، ويصبح الكسل العلمي والفكري والفني هو الأصل ، فإنه لابد أن يكون الإجتهاد الإحتفالي مثيرا للإستغراب بالضرورة، وأن يكون مثيرا للإندهاش أيضا ، بل وللإستنكار كذلك، وهذا ما حصل بالتحديد ، طيلة ثلاثة عقود من عمر الإجتهاد الإحتفالي ، ومن عمر تفكيره الفلسفي والجمالي والتقني ، وذلك لأنه احتكم إلى العقل وإلى المنطق ، وذلك داخل فضاءات سوريالية وعبثية غريبة وعجيبة ؛ فضاءات يحكمها اللاعقل ، ويحركها اللامنطق، ويصبح النقل فيها ينسخ العقل ، والتبعية تلغي الإبداعية، والقراءة تلغي الكتابة ، والمأتمية تصادر الإحتفالية.

ــ 18 ــ

وتكمن خطورة الإحتفالية في أنها خلخلت الأسس التي يقوم عليها المسرح التقليدي والسلفي والمدرسي، والتي تتمثل أساسا في المحاكاة الببغاوية أو المرآوية ، وفي استنساخ الواقع، باسم الواقعية ، وفي تكرار مفردات الطبيعة ، وذلك باسم الطبيعية، وفي التمثيل بوضع الأقنعة، وأن يتم ذلك في الأجواء الكرنفالية ، وفي الإحتفالات التنكرية ، وبذلك يكون لهذا التمثيل معنى الإيهام ، ومعنى الزيف ، ومعنى الإنسلاخ من الذات أولا ، والإنسلاخ من اللحظة الزمنية ثانيا ، والإنسلاخ من قضايا الساعة ثالثا ، والإنسلاخ من الواقع رابعا، والإنسلاخ من التاريخ خامسا .

إن الإحتفالية لا تؤمن بفعل التمثيل ، خصوصا عندما يكون لهذا التمثيل معنى الإختفاء ، ومعنى التمويه ، ومعنى الغياب ، ومعنى استعرض الجسد، بشكل نرجيسي، وهي تستبدل هذه الكلمة بكلمة أخرى غيرها، والتي هي كلمة الإحتفال ، والأمر عندها يتجاوز المعنى المعجمي للكلمة، ليصل إلى معناها الفلسفى ، وإلى معناها الأنتربولوجي ، وإلى معناها السيكولوجي ، وإلى معناها السوسيولوجي ، وإلى معناها الديني الصوفي ، وإلى معناها النقابي والسياسي ، كما يتمثل ذلك في احتفلات الإحتجاج وفي احتفالات الثورة السلمية والحضارية.

وفعل الإحتفال هذا، لا يمكن أن يكون إلا مقتسما ، تماما مثل فعل الضحك ، والذي هو أحد جزئيات الإحتفال، وأحد مظاهره المتعددة والمتنوعة، ولعل هذا ما جعل المعجم الإحتفالي خاليا من كلمات كثيرة، مثل العرض المسرحي والتمثيل، والجمهور، والفرجة ، والتقمص، والإندماج ..

ــ 19 ــ

إن الإحتفالية لا تلحق الممثل الحي بالشخصية الورقية ، ولا تبيع الحقيقة لتشتري الوهم ، ولا تقفز على لحظة الإحتفال الواقعية ، ولا تشغل المحتفل باللعبة، في ذاتها ولذلك ، وذلك عن معناها ومغزها وعن حقيقتها المضمرة فيها ، إن الأساس في هذا الإحتفال المسرحي، أنه ـ قبل كل شيء ـ حيوات إنسانية متجاورة ومتحاورة ، فالممثل حياة ، والمتلاقي حياة ، واللحظة العيدية حياة ، والمكان المسرحي حياة ، وطقس هذا التلاقي حياة ، وعندما تفقد هذه الحيوات حيويتها، وتصبح مجرد فرجة مسطحة ، وتضيع عمقها، فإن من طبيعة ذلك أن يخرجها من الفن ، وأن يدخلها في الصناعة ، وأن يصبح ما تقوم به مجرد استعراض أوضاع ، وذلك أمام آلة التصوير ، ويكون هذا التصوير، في معناه الحقيقي ، مجرد جزء صغير وبسيط، وذلك من صناعة كبيرة ومعقدة تسمى صناعة السينما .

إن الإحتفال يحيل على نفسه، وحقيقته موجودة فيه ، أما الصورة فتحيل على غيرها ، وحقيقتها موجودة خارجها، وبهذا فهي ذاكرة آلية فقط، وتسعى الإحتفالية ـ من خلال إبداعها ـ من أجل القبض على اللحظة الحية ، والقبض على جمر الحالة ، وهي بهذا تؤسس التاريخ المستقبلي، وذلك بدل أن تكون وثيقة من وثائق التاريخ، وهي تحيي اللحظة وتحياها ، ولا تكتفي أبدا ـ كما هو الشأن في المسرح التقليدي ـ بأن تمارس طقوس استحضار أرواح الموتى، وأن تمارس فعل الحكي، أو فعل التأريخ ، أو فعل التوثيق ، وذلك بدل أن تحيا اللحظة الزمنية الآنية ، بكل امتداداتها المتعددة والمتنوعة ، سواء أكانت إلى الأعلى أو إلى الأسفل ، أو كانت إلى الأمام أو إلى الخلف ، أو كانت إلى الخارج أو إلى الداخل ، وبكل ظلالها وألوانها ، وبكل أصواتها وأصدائها المنداخلة والمتقاطعة .

إن الإحتفال هو الحيوية، وهو التدفق الوجودي، وهو الصدق والشفافية ، وهو المشاركة الوجدانية، وهو الحوار الفكري، وهو المواجهة الجريئة، وهو الللعب الجاد، وهو التمرين على الحياة ، والتمرين على المواطنة ، والتمرين على الديموقراطية ، وهو الحضور وليس الغياب ، وهي بهذا مختبر الحالات، ومختبر الممكنات، ومختبر صناعة الإنسان الإنسان ، ومختبر صناعة المستقبل ..

ــ 20 ــ

تتفق الإحتفالية مع أفلاطون في جمهوريته، وذلك في رؤيته التي ترى أن ( أسمى فن هو فن القدرة على الحياة الفاضلة أو العقلانية ) 9

وترى الإحتفالية أن كل فن عدمي ليس فنا ، وأن كل فن غير عقلاني ليس فنا ، وأن كل فن مريض وغير سليم، نفسيا وذهنيا وروحيا ليس فنا، وأن كل فن لا يساير حركية الوجود ليس فنا، وأن كل فن لا يزيد الحياة حيوية ، ولا يزيد الجمال جمالا ، ولا يكشف عن الجوهر الحقيقي في الإنسان ، ولا يحتفي بالمدنية، فإنه لا يمكن أن يكون فنا حقيقيا .

والأصل في هذه الإحتفالية، أنها تعشق شجرة الحياة أولا ، وهي بهذا تعشق الأصل قبل الفرع ، وتعشق المنطلق قبل الإمتداد ، وتعشق المخبر قبل المظهر ، وهي لا تعشق هذه الشجرة إلا وهي غابة، أو هي جزء من غابة كبيرة، وهي في هذا لا توافق من يقول ( هي أوراق ميتة خرساء، ولكنها تقول كلمات يفهمها كل من يريد أن يفكر. الأوراق لا تسقط دفعة واحدة، بل الواحدة بل الأخرى، ولكنها تسقط جميعا، وهكذا نحن.

الحياة كلها تنتهي بمثل هذا المشهد، أي ركام من الأوراق اليابسة، كل ورقة لها عاصفة ترميها ذات يوم )

وفي مسرحية ( سالف لونجة ) تصبح هذه الحياة ظفيرة خرافية ، وتكون أكثر من شعرة مفردة ، شعرة يتيمة يمكن أن تسقط يوما ، تماما كما تسقط أوراق الأشجار في الخريف ، وفي هذه الظفيرة يتجدد الشجر، تماما كما تتجدد الأوراق في الشجر ، ويتجدد الأحياء في الحياة ، وكما تتجدد الساعات في الساعات ، وكما تتجدد الأيام والليالي في التاريخ ، يقول كاريلي ( إن النحلة تعطي عسلها في الظلة، والفكر يعطي سوانحه في السكينة ، والفضيلة تظهر حقيقتها في الكتمان وفي الخفاء )

ــ 21 ــ

إن هذه الإحتفالية ـ في معناها الأساسي ـ هي ذات تحيا الحياة ، وهي طريق يشق ذاته ، وهي حركة وطاقة محركة، وهي وجود ونهج وجودي في نفس الآن ، وهي نهج فلسفي وأخلاقي كذلك ، وهي إنسان يعي إنسانيته ، وهي فكرة لها أعمارها ، وهي خط فكري له امتدادته ، وهي سلسلة أفكار أو هي منظومة أفكار، وهي مناسبة عيدية أيضا ، وفضاء عيدي مفتوح على الفرح ( والمستقبل يبدأ أساسا من هذه الللحظة ـ الآن، وتحديدا من هذا التلاقي العيدي ) 10

وهي إنسان مدني ، بنزعة عيدية، وهي صناعة في عصر العلم والتكنولوجيا ، وهي مدركة أن ( أخطر الصناعات كلها تبقى دائما هي صناعة الإنسان )11

وأن ( أخطر ما يمكن أن يراهن عليه الإنسان في هذا المنعطف التاريخي الحاسم هو أن يؤكد على صناعة الإنسان أولا، ومن خلال هذا الإنسان العالم والمفكر والفنان، يمكن أن يراهن على كل الممكنات وعلى كل الإحتمالات ، وأن يصنع التاريخ المستقبلي ) 12

هذه الإحتفالية، لها أرض تقف عليها ، ولها سماء تتمدد فيها ، وليس لها في هذه السماء الواسعة والرحبة، أي سقف يحدها، ويوقف حركتها وتمددها، والأساس فيها دائما ، هو فعل النمو وفعل الإرتقاء، وهو فعل التأسيس وإعادة التأسيس ، ويخطئ من يظن أن هذه الإحتفالية سلعة مادية ، وأن لهذه السلعة مدة معينة للصلاحية ، وأنه خارجها، لا يمكن أن تصلح لأي شيء .

ــ 22 ــ

ولقد سبق لهذه الإحتفالية أن عرفت نفسها بأنها وجود أولا ، وبأنها درجة وجود في نفس الوقت. هي درجة ( درجة من درجات الوعي المعرفي والجمالي، درجة لها ما يسبقها وما يلحقها وما يحيط بها، وما يؤثر فيها ويتأثر بها، إنها تضرب بجذورها في أعماق هذه الأرض، وذلك يعطيها مشروعيتها وحياتها ، إنها ترتبط ارتباطا عضويا بهذا الإنسان وهذا الزمان وهذا المكان، وبغير هذا ، هل كان ممكنا ـ بالنسبة إليها ـ أن تحيا وتعيش، وأن تنمو وتتطور؟ ) 13

ومن طبيعة هذه الإحتفالية أنها واضحة في غوضها ، وأنها غامضة في وضوحها ، وأنها تقتسم الأفكار والمواقف والحالات مع كل الناس، ولعل هذا هو ما يفسر أن تلجأ إلى البيانات ، وأن تمارس التفكر عبر التنظير، وأن تشرك الآخر في الرؤية والرؤيا، وهي تؤمن بالمثل العربي الذي يقول ( إجعل سرك لواحد، ومشورتك إلى ألف) وليس في هذه الإحتفالية أسرار، وبهذا فهي تشرك كل الناس في أفكارها ، وفي تصوراتها ، وفي مشاريعها، وفي اجتهاداتها الأدبية والفكرية والعلمية والصناعية ، والمتن الإحتفالي واحد، وهو مترابط ومتماسك ومتجانس ، وهو لا يقبل أن تكون فيه حواشي أو زوائد أو ملحقات ، وكل حواشيه فيه .

إن الأساس هو النزعة الإحتفالية ، وهذه النزعة لا تحتكرها أسماء دون غيرها ، وهذا ماجعل الناقد حسن مجتهد يقول ( مرة أخرى ليسمح لي رائد الإحتفالية إذا ما أجزمت القول بأن الإنسان المغربي إحتفالي بطبعه ) 14

وليس الإنسان المغربي فقط ، ولكن كل الإنسان في العالم ، وفي كل المراحل التاريخية المختلفة ، مع اختلاف في نسبة هذه النزعة الإحتفالية لدى مختلف الشعوب، أو عبر مختلف الحقب الزمنية المتعاقبة والمتباينة .

ــ 23 ــ

هذه الإحتفالية، نعتت نفسها بأنها هزة زلزالية، وأعطت لهذا الزلزال المعرفي والجمالي والأخلاقي معناه الفلسفي، وأعطته درجاته التقريبية في سلم الفكر ، وفي سلم العلم ، وفي سلم الإبداع ، وفي سلم الواقع ، وفي سلم الوجدان ، وفي سلم الروح، وفي سلم التاريخ ، وفي سلم الرؤية والرؤيا ، وفي سلم المواقف السياسية ، ولقد سعت هذه الإحتتفالية دائما ، إلى تثوير الوجود وإلى تثوير الحياة ، وإن كانت هذه الحياة لا يمكن أن تكون إلا ثورية، ولكن قوى الجذب إلى الخلف ، وقوى السكون والجمود على الموجود، قد يحدث أن تمسخ ثوريتها ، أو أن تعطلها ، أو أن تحجبها، الشيء الذي يجعلها ، في هذه المرحلة أو تلك ، في حاجة إلى خلخلة ، وإلى تثوير ، وإلى زلزال يعيد للأشياء حركيتها وموقعها الطبيعي والحقيقي في خرائط الطبيعة ، وفي خرائط الجغرافيا ، وفي خرائط الأيام والليالي ، كما سعت هذه الإحتفالية إلى تثوير اللغة ، وإلى تثوير معاجمها ، وإلى تثوير فعل الكتابة وفعل القراءة ، وإلى تثوير أدوات هذه الكتابة، وإلى تثوير مختلف الآداب والفنون والصناعات التي لحقها شيء ـ أو أشياء ـ من التكرار ومن الإجترار ، ومن التقليد ، ومن الإتباع ، ومن الإستنساخ ، ومن الإقتباس ، ومن الإختلاس ، ومن الإنتحال، ولقد كان ضروريا ـ بالنسبة لهذه الإحتفالية المحدثة للهزات العنيفة والقوية ـ أن تبدأ من البداية، أي من (إحداث ثورة ، حقيقية وجذرية، في دولة الكلمات ) 15

ولقد رأيت دائما، أن القيام بمثل هذه الثورة الزلزالية أو البركانية، في مجتمع مغلق وعدواني وسكوني (ليس بالأمر الهين، ولا هو بالشيء السهل، وذلك لأن الكلمات / الأوثان والكلمات/ الأصنام تعيش في الصدور وفي الأدمغة، وتتربع على عرش الكلام ، يحدث هذا اليوم، كما حدث من قبل، في كل يوم، وفي كل المجتمعات، وإن كان ذلك بأشكال مختلفة وبنسب متباينة ) 16

ــ 24 ــ

وقد جاءت الإحتفالية، ليس من أجل أن تؤثث الفضاء المسرحي فقط ، وذلك بالمسرحيا ت الجديدة، ولكن ( لتخلخل الوعي السائد، وجاءت لتحدث رجة في المفاهيم التقليدية، وأن تعطي تصورا جديدا للفن والفكر معا، ولقد كان أساس هذه الإحتفالية هو وعيها المتحرر، وكان ذلك في زمن طغت فيه التبعية، والتكرار، والإجترار، وبالأسماء الكبرى في الثقافة اللاتينية، ولم يكن مسموحا ـ أبدا ـ لمبدعينا من العالم الثالث، أن يمارسوا التنظير، وأن يفكروا بحرية، وأن يدخلوا في جدل فكري مع رموز الحداثة في الغرب ) 17

الهومش :

1ــ البيان المغاربي للمسرحي الإحتفالي ـ باجة ـ تونس 1988

2 ــ ع. برشيد ـ الصعود إلى فلسطين ـ مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البضاء ـ 2004 ـ ص 137

3 ــ المرجع الساق نفسه ـ ص 136

4 ــ المرجع نفسه

5 ــ المرجع نفسه

6 ــ البيان السابع للمسرح الإحتفالي ـ سلا 1997

7ــ د. عبد اللطيف ندير ـ نشرة المهرجان ـ ع 2 ـ المهرجان الدولي السادس للمسرح الجامعي للدار البيضاء ـ دورة عبد الكريم برشيد ـ الدار البيضاء ـ سبتمبر 2004 ـ 8

8 ــ محاورات كونفوشيوس ـ نرجمة محسن سيد فرجاني ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة 2000 ـ ص 19

9 ــ جون ر. بورر وميلتون جولدينجر ( الفلسفة وقضايا العصر) عالم المعرفة ـ ص 167

10ــ ع. برشيد ـ أخطر الصناعات هي صناعة الإنسان ـ بيان اليوم ـ 18 شتنبر 2004 ـ ص 6

11ــ المرجع نفسه

12 ــ المرجع نفسه ـ ص 6

13 ــ ع. برشيد ( الإحتفالية ، مواقف ومواقف مضادة ) منشورات تانسيفت ـ مراكش ـ ص 108

14 ــ حسن مجتهد ـ عبد الكريم برشيد: الطفل الذي وجد خطأ في جسد رجل ـ جريدة (رسالة الأمة ) 13 أكتوبر 2004 ـ ص 10

15 ــ ع. برشيد ـ يا غمام الأفق ساعدني ـ جريدة ( السفير العربي ) الدار البيضاء 7 يناير 2005 ـ ص 12

16 ــ المرجع نفسه ـ ص 12

17 ــ ع. برشيد ـ من كتاب ( الثقافة المغربية علامات بعد علامات ) مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء ـ 2004 ـ ص 86

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved