المراهقة ومجلة "طبيبك"!
قد يتساءل الأصدقاء: مالك كلما تقدمت في الذكريات حتى اجتزت حدود العراق مدرساً مبتعثاً إلى إحدى الدول العربية ترجع على حين غرة إلى مرحلة الطفولة ؟! هل أنت تعاني مما يعرف في علم النفس بالنكوص إلى مرحلة الطفولة ؟ وما التصابي الّا حالة مماثلة وهو نكوص أو الشعور بنكران لمفارقة مرحلة الشباب !!
أما الحالة الثانية فلا كبيرة، ونعم كبيرة للأولى، فهي تعتريني بين الحين والحين، وأنا الذي أحِنّ إلى أيام مضت وأصبحت خوالياً وما أقسى هذه الكلمة !! التي عبّر عنها (الحالة) الشاعر العظيم ابن الرومي حين قال :
وحبّبَ أوطان الشباب إليهمُ – مآرب قضّاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا اوطانهم ذكرتهم – عهود الصبا فيها فحنّوا لذلك ...
***
نظرت إلى المرآة ذات مرّة متملياً وقلّما يحدث هذا، فقد اعتدت ان أسرّح شعري أحيانا بسرعة، ولا أسرّحه في أكثر الأحيان .. نظرت إلى وجهي مرة متملياً في المرآة في عطلة صيفية وفزعت مما رأيت ! فقد بدا أنفي أكبر، وبدأ شيئ أسود يرتسم بخفة كأنها مّسحة هباب الفحم بين الفم والأنف، ورأيت أن وجهي بدأ يفقد رونق الطفولة ونضارتها.. فقلقت وانشغل بالي وأدركت أنني أودع الطفولة وأنني مقبل على مرحلة البلوغ وهي باب الرجولة.. بدأت أنشغل بهذا الموضوع وأكثر من العودة إلى المرآة حين يهجع الجميع في قيلولة الصيف ! انتابني شعور ليس بوسعي ان أسميَه ! سِمَتُه الكبرى أنني مقبل على تغيرات فيها مسؤولية قد تكون جسيمة، وبدأت أكتشف أن تناسباً جديداً يتكون على وجهي وعلى جسمي وزاد الأمر سأماً أن صوتي لم يعد صوتي الهادىء بل انتابته خشونة... بل سيطر شعور مُحبِط عليّ، وهو أنني أصبحت شخصا آخر وبأحاسيس جديدة هي خليط من القلق والخجل وشرود في التفكير.. وأن أحلام اليقظة تأتيني بموجات تنتظم في مخيالي وتجتاحني اجتياحاً.. بل بدأت أتحاشى القراءآت المطولة كالروايات التي أعشقها.. لكنني انشغلت بروايات محمد عبد الحميد عبد الله التي غدت تتماشى مع ما أمرّ به من حال .. فقد أيقظت في نفسي أحاسيس رومانسية سارة تمتص بعض القلق.. وأحببت قصص الجواري التي جاد بها علينا عبد الرحمن صدقي في مؤلفه عن أبي نواس وأشعاره.. بل وتأتيني صور لوجوه ناعمة من أمثال : ليلى طاهر ومريم فخر الدين ومارلين مونرو !
وحيث لم أجد في مكتبة البيت المتواضعة والتي دفن القسم السياسي تحت باحة بيت الجيران.. عثرت على مجموعة من أعداد " العيادة الشعبية" للأخوين الدكتورين يوسف وخالد ناجي اللذين قدّما خدمة جليلة في إشاعة الوعي الصحي في الخمسينات .. وتوصلت إلى مواضيع تتجاوز المسكوت عنه في الحياة الزوجية.. وبعض النصائح الموجهة إلى الشباب وعمادها الإهتمام بالهوايات والرياضة والمطالعة .. الخ، مما لايشبع من جوع ..
مرّة كان الوالد بصدد المشاكل في العملية التعليمية مع أحد زملائه وكيف إن المراهقين الطلاب يعانون من الشرود الذهني والسلوك الإنطوائي، مع أحد زملائه وحاجتهم إلى نشاط رياضي وأدبي، وكنت مُنشدّاً إلى حديقهما.. فالتفت اليّ بسؤال مفاجىء وبلطف كأنه تذكر شيئاً : هل بُلت البولة الحلوة إبني؟! فارتبكت وبضحكة خجلى أسقط من يدي : أعرف البولة وهي ليست حلوة ! شنو هذه ؟ قال ستأتيك بعد حين!!
انتقلنا إلى النجف في العام الدراسي 63-1962، وكانت 63 سنة مشؤومة فقد حدث بها انقلاب دموي في الثامن من شباط/فبراير، أُعتقل والدي مع الكثير من المعلمين والمدرسين والطلاب والعمال والفلاحين والكسبة.. مما جعل مرحلة المراهقة صعبة بغياب المربي والأب المرشد الحنون..
لكن في النجف كانت سوق الكتب حامية لا تعرف الكساد.. هنا تعرفت على مجلة "طبيبك" حيث لا يفوتنا منها عدد، اشترى أعدادها الوالد وعندما خرج من الإعتقال وجد أعدادها وأعداد العربي" الكويتية " منتظمتان لا ينقصهما أي عدد !!
يبدو أن الدكتور صبري القباني أدرك حاجة المجتمع إلى تقافة جنسية، فتكلمت المجلة عن المسكوت عنه بصراحة قليلة لكنها كثيرة في مقياس ذلك الزمن.. وكان فيها قسم خفيف لطيف يستهوي الجميع، لطبيعة الأسئلة واختلاطها بين أسئلة غبية وأخرى ذكية، مع مقالب لأسئلة جنسية تُطلق على ألسنة أناس كبار السن من أعلام معروفين بالتقوى أو على ألسنة قساة من رجال شرطة أو مسؤولين سياسيين ..الخ، فكنت تجد من يقرأ طبيبك تند منه ابتسامة أو ضحكة مجلجلة !!
والمواضيع مكررة ومملة، كما الأسئلة التي تحوم حول العادة السرية وأضرارها وسرعة القذف، وطول القضيب، وتأخر الدورة الشهرية، وأيهما أكثر شبقاً المرأة أم الرجل ؟..الخ؛ وأظن أن هذه الأسئلة مازالت مهمة ولم تفقد بعدها "الستراتيجي"، وكان لمحرر المجلة رغبة جامحة في الإجابة المفصلة بما يشفي غليل القارىء ! وهكذا تعرف داعيكم على مفردات لم تخطر على باله في يوم من قبيل "البظر"، والحشفة....الخ. وهناك بيت شعري منسوب الى ابن سينا (الشيخ الرئيس) في كتابه الطبي الذائع "القانون" يقول فيه :
واحفَظ مَنيّكَ ما استطعت فإنه – ماءُ الحياة يُراقُ في الأرحامِ !
وهكذا توسعت دائرة ثقافتي الجنسية وبدأت أقرأ كتباً علمية، وفهمت دور الهورمونات الذكورية " الأندروجينز" والهورمونات الأنوثية "الأستروجينز" .. وتبدد وهم كبير وهو أن الذكور لهم هورمونهم الخاص وإن الإناث لهم هورمونهن الخاص!! بل إن كلا النوعين موجود في الذكور والإناث مع تفاوت النسب.. ولم يدر بخلدي أنني سأدرس دراسة عالية ذلك النوع من الهورمونات المسماة "السترويدز" الذي يضم كتيبه هامة من هورمانات الجنس والحمل ..الخ .
رغم الفائدة الهامة لمجلة طبيبك إلّا أن موادها مبسطة وغير دقيقة بل وفق ما زعم الدكتور إسامة فوزي أن الردود على أسئلة القراء يتولاها صحفي سوري نسيت اسمه لا علاقة له بالطب تدرب على يد الدكتور صبر القباني .. الذي كان منشغلا بتأليف كتب تدر عليه مردوداً جيداً من قبيل ما له علاقة "بالغذاء والدواء"، مثل كتا ب" إعدل عن الدواء الى الغذاء "
هكذا تربى جيلي ومن بعده أجيال على مجلة طبيبك، ورغم دورها الهام إلّا أنني أشهد أن مجلة "العيادة الشعبية" العراقية أكثر علمية وأجدى تثقيفاً وأبسط أسلوبا ولا تحمل صفة تجارية وكان لها دورهام في رفع الوعي الصحي وتحديدا الثقافة الجنسية !!
كتبت هذا الموضوع لموضوعيته وأهميته للتعريف بجيل عانى من الحرمان الثقافي في أخطر مرحلة هي المراهقة.. وليقارنِ الجميع ما شاء له أن يقارن مع الجيل الحالي حيث لا تشيع الثقافة الجنسية لدى الشباب وإنما في الأعم تبقى السوق رائجة للمواقع الإباحية بل هناك الحب الذي هو الآخر أصبح إلكترونياً.. ولا بأس لكن شبابنا بحاجة إلى العلم والفكر والآداب والفلسفة فقد غدت سلعاً بائرة للأسف ..
ولكن يبقى الأمل معقوداً على شبيبة الإنتفاضة فهم يؤسسون لثقافة فكرية وسياسية ملتزمة فطوبى لهم ..
19 شباط/فبراير 2020