بمناسبة الذكرى المائة على ميلاد فنان النمسا الكبير الراحل (يوسف ماينراد) تقام سلسلة من النشاطات الفنية والأمسيات الثقافية في النمسا، ففي فيننا ستعرض المكتبة الفينناوية ضمن أنشطتها صورا وشرائح من الأفلام التي مثلها الفنان في حياته بالإضافة الى صوره الشخصية ووثائقه وبعض سيناريويات الأفلام وكل مايتعلق بحياة الفنانة الفنية والخاصة. بدأ الفنان مسيرته مع السينما بأول فلم (العالم يدور بالعكس ـ عام 1947) وقد تمكن من تمثيل 55 فلما سينمائيا وتلفزيونيا خلال مسيرته ولكن أكثر الافلام شهرة لدى الشعب النمساوي كان(سيسي ـ عام 1955) مع النجمة العالمية (رومي شنايدر) والذي يحكي قصة حياة أجمل قيصرة في النمسا(سيسي).
ولد الفنان (يوسف ماينراد) في 21 \ ابريل \1913، ابن لسائق ترام(قطار الشوارع)في فيننا. مسيرة الفنان الاسطورية مع التمثيل لها مكانة كبيرة في قلوب النمساويين وبدايته الفعلية كانت مع مسرح (البرج) في فيننا عام 1947، وقد جسد على خشبة المسرح أكثر من 80 دوراً من أشهر الأدوار ولأشهر المسرحيين والكتاب العالميين ومنهم شكسبير، دون كيشوت، نيستروي بالإضافة إلى سجله الكبير في عالم السينما النمساوية وتكريما لدوره الكبير في المجال الفني ومكانته في قلب الشعب اطلقت بلدية فيننا اسمه عام 1997 على إحدى الساحات المجاورة لمسرح (البرج). حصل الفنان الراحل خلال مسيرته على عدد كبير من الجوائز والشهادات التقديرية وأولى هذه الجوائز كانت عام 1955 واخرها عام 1997.
في رحلة من رحلاتي بين بحيرات النمسا وجبالها وطبيعتها الساحرة ومدنها الصغيرة في ربيع مازال الثلج يعشقه لغاية وصولي إلى قرية صغيرة لا يتجاوز عدد ساكنتها أكثر من 2500 نسمة، وهنا بالضبط تقبع الحكاية الأليمة لفنان النمسا الكبير حيث قرر أن يعيش بعيدا عن ضوضاء المدينة مع رفيقة دربه الفرنسية ...هنا في قرية (كروس كماين)أيضا سيودع الحياة وبعدها توافيه رفيقة دربه، لكن تركت خلفها مفاجأة إذ لم تكتب هذه الفرنسية هذا الإرث الثمين في دارها ضمن وصيتها لاقاربها في باريس، بل خصصته لعائلة نمساوية مجاورة كانت تعتني بها خلال سنوات عمرها الأخيرة ومن دون أن تعلم العائلة بقصة الوصية، وبعد رحيلها إذا بهذه العائلة تتفاجأ برسالة من كاتب العدل يخبرهم فيها أنهم قد ورثوا دار الفنان الكبير بكل كنوزه الفنية ضمن وصية زوجة الفنان الفرنسية وهو ميراث يقدر بأكثر من 3 مليون يورو، وهو ثمن الدار والتحف الموجودة فيه.
بحثت عن مالك الدار الجديد وهو فنان مسرحي (هوبرت هادار) وبالرغم من أنه لا يتحدث للإعلام عن الدار إلا أنه قبل بعد أن أخبرته بإني قدمت من بلاد بعيدة آنذاك رحب بي وأكرمني وفتح لي أبواب داره ودار الفنان (ماينراد) وفي سياحة بين أروقة دار وتاريخ فنان كبير. وجدتها دارا كبيرة تمتد على مساحتها على 800 متر مربع، تقع على 3 طوابق في قرية صغيرة(كروس كماين)على الحدود النمساوية الألمانية ... أما السيد (هوبرت هادار) الذي يملك هذه الدار حاليا ممثل سينمائي وتلفزيوني وخلال جولتنا في أرجاء الدار باح لي بهمومه في المجال الفني وأخبرني أنه قد أرسل كل الوثائق الرسمية المتعلقة بالفنان الراحل التي وجدها بداره إلى المكتبة الفينناوية والأرشيف النمساوي للاحتفاظ بإرثه الوثائقي، وأما قبر الفنان فهو في مقبرة كنيسة القرية والتي شيدت على الأسلوب الباروكي وهو قبر عاد جدا مثل القبور الأخرى في المقبرة. حيطان الدار مزخرفة بأجمل اللوحات التشكيلية بالإضافة الى اللوحات الجدارية لأشهر الفنانين النمساويين والعالميين وقد حاولت كنيسة القرية وبلدية القرية الحصول على الدار بكل الوسائل ولكن محاولاتهم باءت بالفشل مع المالك الجديد حيث أخبرني السيد هادار بأنه لا يفتح أبواب الدار بشكل رسمي للزوار، بل بدعوات خاصة وكذلك في بعض الأحايين تقام أمسيات ثقافية وفنية يتبرع بريعها لجمعية المعاقين، أردف قائلا : أن أجمل الأمسيات الفنية في الدار كانت مع مغنية الأوبرا العالمية (انجيليكا كيرشلاكر) وممثلة مسرح البرج في فيينا (ماريا هابل) وعازفة البيانو (ارابيلا كورتيسي). لقد كانت الدار أشبه بإسطبل كبير حين ورثه ولكنه تمكن بعد أن باع بعض التحف من ترميم الدار بهذه الصورة ذات الجودة العالية . عاش الفنان الراحل في فيننا وزوجته كانت تجمع التحف من العالم وتضم الدار مكتبة كبيرة ثلث الكتب التي تضمها باللغة الفرنسية، وكان الفنان يعشق الأسلوب الشبابي من خلال اللوحات التشكيلية التي تزين جدران الدار بالإضافة الى ثقافات العالم وفنونه...لوحات تشكيلية تؤرخ للثورة الفرنسية بالإضافة الى الهند والهندوس بحيث طرقت اللوحات أبواب كل المدارس الفنية فضلا عن الفن والزخرفة الأندلسية وفن النحت من خلال المنحوتات الموجودة والاثاث الذي يبهر العين .
لقد عرض التلفزيون النمساوي الرسمي دار الفنان في برامجه، أثاث الدار عبارة عن دواليب تحمل الطابع الأندلسي والكراسي والمنحوتات ومنضدة الكتابة وسرير نومه موجودة بأجمل صورها وفي جودة تامة بالإضافة الى صالات في كل الطوابق ويقول هادار : لدينا أفكار كثيرة من أجل الحفاظ على هذا الإرث الإنساني الكبير واتمنى ان تقام الامسيات الفنية والثقافية هنا وانا بدوري ساترك هذا الارث لولدي الذي انتهى من دراسة المسرح في فيننا ويهوى العمل في الانتاج.
تضم هذه الدار أيضا عددا كبيرا من اللوحات التشكيلية بالإضافة الى صور وشرائح من أعمال الفنان وشهاداته الكثيرة التي غطت جدارا كاملا والدواليب تعود تاريخها الى اكثر من قرن وأرضية الدار في الطابق السفلي من الحجر الأحمر وعلق على باب الدار لافته(هنا عاش يوسف ماينراد).
في جولتي في الدار رافقتني أستاذة التاملات والروحانيات القادمة من مكسيكو الأستاذة(كيسيلا ماريا هينكل) وحكت لي عن ذكرياتها عن الدار وهي طفلة صغيرة تزور ابنة خالتها التي ورثت الدار مع زوجها هادار وقد كانت (كيسيلا) قد انبهرت بالدار وهي طفلة صغيرة وخلال زياراتها للنمسا ظلت تزور الدار للتمتع بإرث فنان كبير قدم كل ما يملك من خبرة وكفاءة وطاقة لشعبه وبينما كانت ترى الفنانين النمساويين من النافذة قالت بحزن : " ودع ماينراد الحياة وتغربت أنا وأنت مغترب اأيضا ولكن يظل الانسان والتاريخ واصالة الانسان"...وأنا أودع الدار قلتها مع نفسي كم هو جميل أن يظل الإنسان حيا في ضمير شعبه وناسه...إنه يوسف ماينراد.
الصور بعدسة الكاتب